إن اتهام الآخر المخالف لك بالمتطرف هو في حد ذاته نوع من التطرف، ولذلك ينبغي تصحيح الكثير من تصوراتنا حول التسامح الذي يعني الحب والاحترام ويعني قبول الاختلاف.
مع صعود حركة طالبان وامتلاكها زمام الحُكم في أفغانستان، عبّرت بعض الدول
والمؤسسات عن تخوّفها من هذه الحركة، وبدأت التحليلات التي تصبّ في اتهام طالبان
بالتطرّف المرتقب، بل إن قناة عربية دولية، نشرت تحقيقاً بعنوان: المتطرفون عبر
العالم يهنؤون طالبان، وقالت جهات أخرى أن حركات التطرّف ستعود إلى الواجهة بعد
ثمانية عشر شهرا،ً ويقصدون القاعدة وداعش.. وعبّرت دول أخرى عن تخوفها من تطبيق
الأفغان لشريعة الإسلام.. وغير ذلك من المواقف والآراء والتحليلات السياسية
والاستراتيجية بخصوص ما التحولات الأخيرة في أفغانستان وما أثارته من مخاوف وردود
فعل متباينة.
وتعتبر إيران من الدول التي لم تعترف بحكومة طالبان إلى اليوم، وتدخل معها في
مواجهة غير مباشرة من حين لآخر، تتطور في أحيان أخرى إلى مواجهات مسلحة، قد تهدد
أمن المنطقة برمتها، ففي ديسمبر الماضي
شهدت المنطقة الحدودية بين مدينة "شاجلك" الإيرانية و"نمروز" الأفغانية اشتباكات
عنيفة بسبب جدار حدودي كانت تشيده إيران،
ومع استمرار الصراع والمواجهة، أوقفت طهران خدماتها القنصلية في أفغانستان، بعد
هجمات على بعثتيها الدبلوماسيتين في كابل وهرات من قبل ثوار عبروا عن رفضهم لأوضاع
بعض الأفغان اللاجئين في إيران.
لم تكن طالبان وإيران، إلا مثالاً لتبادل الخوف، الذي ينعكس بصورة سلبية على
التواصل والحوار، الشيء الذي يؤكد ضرورة التسامح منهجاً في التدبير وأسلوباً في
التعامل، بعيداً عن أي خطاب يروم الهيمنة أو يدّعي امتلاك حقيقة معينة.
إن ظاهرة اتهام الآخرين بالتطرف، وخاصة عندما تصدر من دول ومنظمات ومؤسسات
رسمية، فهي لا تزيد العلاقات الدبلوماسية بين تلك الدول إلا تعقيداً والتباساً، بل
قد تقضي على كل تعاون مرتقب، وتنسف كل حوار مأمول، وأحياناً لا يوجد أي مبرّر على
أرض الميدان يفسّر هذا الحُكم المجحف على سلوك لم يفعله الآخر، وتبرز المخاوف عادة
عند قيام حكومة جديدة في دولة معينة، أو عند صدور قرار داخلي يرتبط بتقاليد دولة
ما، حيث ترتفع الأصوات خارج تلك الدولة بالرفض أو التعبير عن الخوف، بل قد تتدخل
تلك الأصوات في إملاء وجهة نظر ما على الدولة المعنية، أو إرغامها على سحب القرار،
أو على الأقل إلزامها بالتوضيح، وهذا منتهى الاستعلاء والرغبة في الهيمنة على
الآخرين، فالشؤون الداخلية للدول، لا ينبغي أن تتدخل فيها أي أطراف خارجية، ولعل
هذا ما يشعل فتيل النزاعات والحروب في كثير من مناطق العالم.
الهيمنة باسم التسامح
يُشكل التسامح أحد أكثر المصطلحات تداولاً في عدة مجالات سياسية واجتماعية
واقتصادية ودينية، وغيرها، حتى أصبح شعاراً للكثير من المنظمات والحكومات عبر
العالم، حيث أُشبِع بدلالات جديدة أثّرت على معانيه الأصلية في اللغة، وكما ينبغي
أن يكون؛ فقد جعله البعض مطلقاً، أي التسامح بلا حدود ودون أيّ قيود، ونظر إليه
البعض الآخر بوصفه استسلاماً وتنازلا وهزيمة، كما وظّفه البعض من أجل التدخل في
شؤون الآخرين، تحت مبرر رعاية الحقوق، ونصرة المظلوم والدفاع عن الأقليات وحماية
كرامة الإنسان وحرية التعبير، وغير ذلك من القضايا التي يتم استغلالها بغية تحقيق
مطالب أخرى بعيدة عن التسامح، وتشكّل فقط غطاءً لإضفاء الشرعية على قرارات معينة،
والضغط على حكومات من أجل تقديم التنازلات أو الدفع بها نحو حروب لم تختر دخولها.
إن احترام سيادة الدول وثقافات الشعوب وخصوصيات المجتمعات، يمثل الحد الأدنى من
ثقافة التسامح عبر العالم، فلا أحد يملك سلطةً على الآخرين، فيجرّدهم من حرية
الاختيار أو العيش وفق طريقة معينة، إنها العولمة التي حاولت تنميط العالم وجعل
العيش وفق طريقة واحدة ووحيدة، تقضي على الهويات بحجّة التقريب بين الثقافات، وتزيل
الخصوصيات الدينية بحجّة القيم الإنسانية الكونية، وتوجّه سياسة بعض الدول بحجة
حماية أمن المناطق وتجريد الإرهابيين من أسلحة الدمار ومن مقومات فرض السيادة، وعلى
الرغم من كل محاولات تقديم العولمة على أنها انتصار للعدالة والديمقراطية والتحديث
والتواصل والانفتاح، إلا أنها تظل قاصرة عن الرقي بمستوى حياة الكثير من الشعوب
والمجتمعات، لأن روح التسامح إن لم تكن صادقة ونابعة من الرحمة الإنسانية التي تجمع
البشرية، فهي تبقى مجرد شعارات تنقشع عند أول اختبار، فلا يجد الصدى المطلوب في
الوجدان.
التسامح وتحرير المعنى من الاختطاف
إن اتهام الآخر المخالف لك بالمتطرف هو في حد ذاته نوع من التطرف، ولذلك ينبغي
تصحيح الكثير من تصوراتنا حول التسامح الذي يعني الحب والاحترام ويعني قبول
الاختلاف.
لا يجب أن ننظر إلى التسامح على أنّه مِنّة وتنازل ومجاملة، إنه قبل كل شيء
موقف إيجابي يتلخّص في الاعتراف بحريات الآخرين الأساسية، وإنّه لا حَقَّ لأيّ
إنسان في فرض آرائه على غيره، ومعنى ذلك أنَّ التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف،
كما لا يسعى لهيمنة أفكار معينة على حساب أخرى، ولكنه يؤسّس للعلاقات الإنسانية
السليمة، من خلال احترام الاختيارات العقائدية والحضارية والثقافية، وفي الآن ذاته
تحفيز التعارف بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها وترسيخ التواصل، مصداقاً
لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13)، فالعيش ضمن
عالم مختلف هو الذي يصنع التميّز ويحقق نمط الوجود الحر والمستقرّ، ولا يقتضي
التسامح محبةً أو ولاءً أو تبنّياً لمبادئ الآخرين وأديانهم، والتنازل عن الهوية،
بقدر ما هو اعتراف بحق الآخر في الحياة وفي الوجود على سطح الأرض، والحق في التعبير
عن مواقفه واختياراته، وبأنَّ خالق البشر أراد خلقه مختلفين، قال تعالى: "وَلَا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"
(هود"119)، فكيف يتجرأ الإنسان على الله، ويحاول محو الاختلاف، ودعوة الناس
للائتلاف والتماهي والذوبان، بل وينهج في دعوته سبيل العنف والكراهية والاعتداء على
قيمة الحياة ؟ والأسوأ من ذلك أن يسيء للآخرين باسم التسامح؟
إن الأحداث التي تقع عبر العالم باسم الحق أحياناً وباسم الحرية أحياناً أخرى،
يؤكد مدى الحاجة الماسة لتصحيح الكثير من المفاهيم والتصورات، بغية الانتقال إلى
دبلوماسية التسامح وتدبير المخاوف من التطرف وفق مقاربة عقلانية تستند إلى أدلة
موضوعية وقرائن من الميدان، وليس ما تأتي به الأذهان من هواجس لا صلة لها بالواقع
وإنما تعبّر عن نزوات الاستعلاء وغرائز الهيمنة.
[1]
أكاديمي مغربي، كاتب وباحث، مؤلف العديد من الكتب والدراسات
[email protected]