ماكرون بنفسه كان يعيّ أن فوزه كان بفضل الناخبين الذين اختاروه على مضض، وهو ما جعله يتقدم بالشكر لأولئك الذين أعطوه أصواتهم لـ "عرقلة اليمين المتطرف"، على حد وصفه في خطاب النصر،
كان صعود إيمانويل ماكرون إلى السلطة في فرنسا بعد جولة إعادة مع مرشحة اليمين
المتطرف مارين لوبان، في ربيع عام 2017، بمثابة طوق نجاة لليبراليين الذين أصيبوا
بالصدمة والقلق بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفوز دونالد ترامب بالرئاسة
في الولايات المتحدة، ربما آنذاك لم يكن ماكرون، المصرفي الشاب الوافد حديثًا على
السياسة، هو الأفضل لقيادة الفرنسيين من وجهة نظرهم، ولم يكن الأنسب لظروف تلك
المرحلة، لكن بأي حال كان هو الخيار الوحيد لتجاوز مفاهيم اليسار واليمين التي كانت
أخذةً في التصاعد في فرنسا وسط اضطرابات سياسية حادة، الآن يفوز ماكرون مجددًا
بولاية ثانية رئيساً لفرنسا، منتصرًا مرة أخرى على منافسته لوبان، مستغلًا الموقف
الحرج نفسه، فإما أن يختار الفرنسيون بين استكمال السياسة الماكرونية التي لا تحمل
ملامح واضحة سوى وعوداً بالاستقرار، على أن تتبدل أمورهم إلى وضع آخر في ظل اللحظة
الحرجة التي تشهدها أوروبا، مع احتدام القتال في أوكرانيا بعد الغزو الروسي، رفض
الفرنسيون مضطرين المرشحة المعادية لحلف شمال الأطلسي، وللاتحاد الأوروبي،
وللعلاقات التاريخية الوثيقة مع الولايات المتحدة، وانتصروا للقيمة الأساسية التي
ينص عليها دستور بلادهم بأنه لا ينبغي التمييز ضد أي مواطن فرنسي.
تاريخيًا، لا يحب الفرنسيون رؤساءهم بشكل عام، إذ لم ينجح أي منهم في إعادة انتخابه
منذ عام 2002، لكن الإنجاز غير العادي الذي حققه ماكرون في تأمين 5 سنوات أخرى في
السلطة لا يعكس بالضرورة التأييد الفرنسي لسياساته، كل ما في الأمر أن انتصار مرشحة
اليمين المتطرف سيكون أسوأ بكثير، لذا فإن ماكرون هو بمثابة الترياق الذي تمس
الحاجة إليه لتخفيف وطأة الاستقطاب السياسي لعدة سنوات قادمة، لكن المعضلة الكبرى
الآن هي أن لوبان التي ترشحت للرئاسة للمرة الثالثة وفشلت، كانت هذه المرة أقرب من
أي وقت مضى للوصول إلى السلطة، كما أنها اقترب من الرئاسة أكثر من أي زعيم يميني
متطرف في تاريخ فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، استفادت لوبان من الموقف المتشدد
لمنافسها اليميني المتطرف في الجولة الأولى من الانتخابات الأخيرة إيريك زمور، مما
جعل نهجها المتشدد تجاه القضايا الخلافية مثل الهجرة والإسلام والجريمة يبدو أقل
تطرفًا بالمقارنة مع زمور، انتهجت سياسة تسمى بالأفضلية الوطنية، والتي من شأنها أن
تسمح بالتمييز ضد الأجانب الذين يعيشون في فرنسا في الأمور الاجتماعية والاقتصادية
والرفاهية، لكن هذا غير قانوني وغير دستوري حاليًا، ومن أجل تطبيقه كان سيتعين على
لوبان تعديل دستور فرنسا وبعض قوانينها الأساسية.
لا يرجع صعود نجم لوبان السياسي فقط إلى تحولات المشهد السياسي الفرنسي صوب اليمين،
فربما جزء كبير من الدعم الذي حصلت عليه عائدًا إلى الكراهية المتأصلة للرئيس
الحالي، الذي كان ذات يوم يمثل وجهًا جديدًا نجح ببراعة في هز المشهد السياسي
الفرنسي التقليدي، إذ كان ماكرون عند
توليه السلطة أصغر رئيس في تاريخ فرنسا، لكنه سرعان ما فشل في تحقيق طموحات من
انتخبوه، ثمة نقطة أخرى هامة وهي أن غالبية الناخبين الفرنسين اعتادوا على اعتبار
أن من واجبهم الحفاظ على درجة منخفضة من وجود اليمين المتطرف في السلطة، معتبرين
الاقتراع ضد لوبان بمثابة ضربة ضد العنصرية وكراهية الأجانب، وهذا يتضح تاريخيًا من
خلال هزيمة والدها جان ماري لوبان بنسبة 82٪ إلى 18٪ على يد جاك شيراك في عام 2002،
وثم خسارتها بنتيجة 66٪ إلى 34٪ أمام ماكرون في عام 2017، لكن انتخابات 2022 هزّت
هذا التقليد، حيث صوّت عددًا متزايدًا لصالح لوبان، أو لصالح اليمين الشعبوي، بحسب
محللين يعود الفضل في ذلك إلى لوبان نفسها بعدما نجحت في الدفاع عن قضايا مثل تكلفة
المعيشة والاهتمام بالطبقة العاملة، وتغيير اسم حزبها والنأي بنفسها عن والدها صاحب
الآراء الأكثر تطرفًا، فعملت على تلميع جاذبيتها السياسية وجعلت نفسها أقل رعبًا في
المناطق النامية.
صعود جيل جديد من القادة القوميين كان أمرًا مخيفًا لصناع السياسة الأوروبيين
والأمريكيين على حد السواء، وخلال السنوات القليلة الماضية نجحت قوى اليمين المتطرف
في تعزيز شعبيتها بالاستحقاقات الانتخابية في عدد من الدول الأوروبية، مثل السويد
والمملكة المتحدة والمجر والنمسا وهولندا والدانمارك وسويسرا، وتزداد فرص نجاح قوى
اليمين المتطرف في ظل الصعوبات الاقتصادية وسط جملة من الأزمات الأخرى التي تعانيها
القارة الأوروبية، وفي عدم قدرة الأحزاب والتيارات السياسة التقليدية على تقديم
الحلول أو البدائل الناجحة لتلك الإشكاليات لجأ عدد كبير من الأوروبيون إلى اليمين
المتطرف الذي يتبنى خطابًا شعبويًا مقنعًا لبعضهم، وفي ظل الدور المحوري الهام الذي
تمثله فرنسا في الكتلة الأوروبية كان لابد من أن يثير وصول لوبان إلى جولة الإعادة
الكثير من المخاوف، فعلى غير المعتاد أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز، أن فوز
ماكرون سيكون تصويتًا على الثقة في أوروبا، واتخذ شولز واثنان من القادة الأوروبيين
الآخرين خطوة غير عادية قبيل جولة الإعادة بتوضيح أهمية التصويت ضد لوبان، في مقال
رأي في صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، كانت الرسالة انعكاسًا للقلق في العواصم
الأوروبية الذي سبق التصويت، قالوا في مقالهم: "إنه الاختيار بين مرشح ديمقراطي
يعتقد أن فرنسا أقوى في اتحاد أوروبي قوي ومستقل، ومرشحة يمينية متطرفة تنحاز
علانية إلى أولئك الذين يهاجمون حريتنا وديمقراطيتنا، إنها تقف صراحةً ضد القيم
الأساسية لعصر التنوير الفرنسي"، ماكرون بنفسه كان يعيّ أن فوزه كان بفضل الناخبين
الذين اختاروه على مضض، وهو ما جعله يتقدم بالشكر لأولئك الذين أعطوه أصواتهم لـ
"عرقلة اليمين المتطرف"، على حد وصفه في خطاب النصر، كما خاطب ماكرون أولئك الذين
صوتوا لصالح لوبان، قائلاً إنه "سيستجيب بشكل فعال للغضب الذي تم التعبير عنه"،
واصفًا نفسه بلقب "حارس الانقسامات التي تم التعبير عنها في الانتخابات الأخيرة،
ومرمّم الخلافات بين الشعب الفرنسي".
على مدار العشرين عامًا الماضية، ترسخت أفكار اليمين المتطرف ببطء وبثبات في الرأي
العام والسياسة الفرنسيين، ولو أصبحت لوبان أول امرأة تتولى رئاسة فرنسا، فإن هذا
الانتصار كان سيمثل بداية زلزال سياسي واجتماعي في فرنسا، فقد أرادت إجراء استفتاء
حول قانون "الجنسية والهوية والهجرة" الذي من شأنه أن يكرّس التمييز في دستور فرنسا
من خلال وضع أولوية للمواطنين الفرنسيين في التوظيف والمزايا الاجتماعية والإسكان
العام، في حين سيتم استبعاد غير المواطنين ومزدوجي الجنسية من وظائف القطاع العام
ويقيد حصولهم على الرعاية الاجتماعية، كما يلغي حقوق المواطنة التلقائية للأطفال من
غير المواطنين المولودين في فرنسا ويجعل التجنس أكثر صعوبة، إلى جانب تكريس أسبقية
القانون الفرنسي على المعاهدات الدولية، وتزداد ظلامية الأمور لو كانت لوبان في
الإليزيه من خلال رغبتها في تجريم الحجاب الإسلامي في الأماكن العامة، والتضييق على
الأجانب، لا سيّما المسلمين، مثل هذه الأفكار وغيرها لن تتلاشى لمجرد هزيمة لوبان
أمام ماكرون، فالجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا لن تختفي من المشهد
السياسي.
"الأفكار التي نمثلها وصلت إلى آفاق جديدة، هذه النتيجة في حد ذاتها تمثل انتصارًا
رائعًا، لقد أثبت التاريخ خطأ أولئك الذين توقعوا اختفائنا، اللعبة لم تنته
تماما!"، هكذا قالت لوبان لمؤيديها وهي تعترف بهزيمتها في خطاب بعد حوالي 10 دقائق
من نشر التوقعات الأولى للنتائج، وامتلأ صوتها بنبرة عاطفية وهي تضيف: "نتيجة
الليلة هي انتصار مدوي في حد ذاته، سنطلق الليلة معركة انتخابية كبرى من أجل الفوز
في الانتخابات النيابية في يونيو"، على الفرنسيين أن يستعدوا لجولة أخرى مع مرشحي
الشعبوية اليمينة المتطرفة، ففوز ماكرون الأخير لا يعني هزيمة هذه الأيديولوجية
السياسية من بلادهم.