• - الموافق2025/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
فنزويلا بين مطرقة المصالح الأمريكية وسندان تخلي الحلفاء

فنزويلا اليوم ليست مجرد دولة نفطية؛ إنها خاصرة استراتيجية يُختبر فيها مدى قدرة النظام الأمريكي على تقليم نفوذ خصومه في القارة الأمريكية اللاتينية، والضغط على محور الشرق من خلال السيطرة على أحد أهم حلفائه في المنطقة


في سوق النفوذ العالمي، لا يتحرّك الكبار بدافع المبادئ، بل بدافع المصلحة. فنزويلا اليوم أصبحت على طوالة الصراع العالمي، حيث تتقاطع المصالح وتتصادم السياسات، وتختبر موسكو وبكين حدود قوتهما في رقعة شطرنج تتغير ملامحها كل يوم. هذا التغير المستمر في التحالفات والاستراتيجيات يعكس طبيعة الصراعات الدولية والتي جعلت من فنزويلا نقطة اختبار حقيقية لمدى قدرة القوى الكبرى على فرض رؤاها وإعادة تشكيل موازين النفوذ في المنطقة.

فنزويلا كجائزة طاقة قبل أي مواجهة كبرى:

منذ اكتشافها كأحد أكبر خزانات النفط والغاز في العالم، ظلت فنزويلا بطاقة احتياط استراتيجيّة تُراقبها العواصم الكبرى بعين الترقب. في خضم بروز أزمة الطاقة العالمية بعد الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار النفط وارتدادها على أمن الطاقة في الغرب، يصبح التحكم في نفط فنزويلا بمثابة ورقة قوة لا تُقدَّر بثمن.

كما تشير العديد من الدراسات الغربية إلى أن سيطرة واشنطن على الحقول الفنزويلية أو على صادراتها من النفط ستكون «مكسبًا استراتيجيًا ضخمًا» يُعيد تدفُّق النفط إلى الأسواق الغربية، ويمنح الولايات المتحدة قدرة على «ضخّ إمدادات بديلة» في حال تدهور مصادر الطاقة من الشرق

 وقد أكّد الدكتور سامح عسكر، الباحث العربي في شؤون الطاقة والسياسة الدولية، ذلك بقوله: «لدى فنزويلا وإيران أكثر من ثلث الاحتياطي النفطي العالمي الغرب يسعى للسيطرة بالقوة» جملةٌ تختصر بليونة الموقف الغربي تجاه «أنظمة طاقة متمردة» لا تخدم مصالحه.

لكن رغم ضخامة الاحتياطي، الواقع الفنزويلي يعاني من تدهور إنتاجي كبير. كما رصد كاتب رأي في بلومبيرغ، جافير بلاس: «رغم أن فنزويلا تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في العالم، إلا أنها ليست ذات وزن كبير في أسواق الطاقة حالياً» لضعف الإنتاج ما يخفف من "رهان الفورة النفطية الفورية" لصالح واشنطن

هذا التناقض بين رصيد نفطي هائل وبين إنتاج مُعطل هو بالضبط ما يجعل فنزويلا هدفًا للكبار: لا تريد أمريكا فقط السيطرة على نفط خام جاهز، بل استثمار ضعف البنية التحتية الفنزويلية لتعيد هندسة العرض على مقاسها، عبر إعادة تشغيل الحقول بموجب عقود مع شركاتها، ما يمكّنها من استعادة نفوذ حقيقي على سوق الطاقة العالمي.

نفط فنزويلا ليس مجرد بضاعة يُشترى، بل ورقة ابتزاز استراتيجي لمن يملك الجرأة على تشغيلها، أو من يملك العصا وقرار النفوذ.

انهيار شبكة الحلفاء

على الورق، تبدو فنزويلا جزءًا من محور شرقي متين يضم روسيا، الصين، كوبا، وإيران، بيد أن الواقع الميداني يكشف فجوة واسعة بين العلاقات الرسمية والدعم الفعلي. على مدى العقدين الماضيين، حاولت كاراكاس بناء شبكة من الحلفاء المناهضين لأمريكا، على أمل تشكيل توازن عالمي جديد، كما تشير تحليلات صحيفة وول ستريت جورنال: «لا تقدم روسيا والصين وكوبا وإيران سوى كلمات دعم للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في ظل مواجهته حشداً عسكرياً أميركياً يجد فنزويلا حلفاءها الاستبداديين على هامش الصراع.»

 

سقوط مادورو لا يعني انهيار نظام محلي فحسب، بل يهدد آخر موطئ قدم لروسيا والصين وإيران في أمريكا اللاتينية، وهو ما يجعل هذه الأزمة أكثر من مجرد صراع داخلي أو مواجهة نفطية.

حتى الصين وروسيا، اللتان سبق أن قدمتا معدات عسكرية ومساعدات اقتصادية، لا تبدوان راغبتين في خوض مواجهة مباشرة مع واشنطن. وفق ما أشار جيفري ساكس، الاقتصادي الأمريكي والخبير في سياسات الطاقة والعلاقات الدولية: «الصين وروسيا تخوضان أولويات اقتصادية وتجارية مهمة، لذلك سيكون من غير المجدي لهما استنزاف مواردها على فنزويلا.»

ويؤكد سامح عسكر، الباحث العربي في شؤون الطاقة والسياسة الدولية: «أقوى حليفين لمادورو، الصين وروسيا، سبق أن قدّما معدات عسكرية ودعمًا اقتصاديًا، لكن قدرتهما على التدخل المباشر محدودة جدًا أمام القوة العسكرية الأمريكية.»

هذا الموقف يعكس حقيقة مقلقة للنظام الفنزويلي: الدعم السياسي لا يترجم تلقائيًا إلى دعم عملي على الأرض. فالدول الكبرى غالبًا ما توازن بين مصلحتها الاقتصادية والتجارية ومخاطر المواجهة العسكرية، ونتيجة ذلك تركت مادورو وحيدًا أمام أكبر حشد أمريكي في تاريخ المواجهة، ليصبح التهديد الأمريكي اختبارًا حقيقيًا لمتانة المحور الشرقي على الورق.

فنزويلا تثبت أن الحلفاء الأيديولوجيين قد يتراجعون حين يتعارض دعمهم مع مصالحهم الاقتصادية والسياسية، وأن أي مواجهة حقيقية مع واشنطن تعتمد في نهاية المطاف على القوة الذاتية للفنزويليين أنفسهم، وليس على شعارات التحالفات التقليدية.

معركة النفوذ: إسقاط النظام الاشتراكي وتقليم أظافر إيران:

النظام الفنزويلي، بقيادة نيكولاس مادورو، يمثل أكثر من مجرد حكومة محلية؛ إنه امتداد لمحور معادٍ للولايات المتحدة يشمل إيران والصين وكوبا. لهذا السبب، لا يُنظر إلى أي تهديد أمريكي على كاراكاس باعتباره نزاعًا داخليًا، بل كساحة مواجهة استراتيجية بين القوى الكبرى

كما يوضح سامح عسكر، الباحث العربي في شؤون الطاقة والسياسة الدولية: «إسقاط مادورو لا يعني إنهاء حكم اشتراكي فقط، بل قطع أحد شرايين الطاقة الذي تعتمد عليه الصين، وإنهاء آخر جسور الدعم السياسي لإيران في القارة الأمريكية." 

الإدارة الأمريكية، بقيادة ترامب، لم تكتفِ بالضغوط الاقتصادية والعسكرية، بل استخدمت أدوات "الحرب الناعمة" لإضعاف النظام وتهيئة أرضية لبديل سياسي موالٍ لها

منح جائزة نوبل لشخصية من المعارضة الفنزويلية ليس مجرد تقدير رمزي، بل خطوة مدروسة لإضفاء الشرعية الدولية على أي انتقال محتمل للسلطة، كما أشارت وول ستريت جورنال: «الولايات المتحدة تدعم رئيسة المعارضة الموالية لها، وتبيّض صورتها دوليًا لتسهيل قبول الشعب بها كرئيسة مستقبلية.»

بالإضافة إلى ذلك، يؤكد جافير بلاس، من بلومبيرغ، أن الولايات المتحدة تسعى عبر استراتيجيتها في فنزويلا إلى: «تجريد النظام الاشتراكي من أدواته الاقتصادية والسياسية، خصوصًا العلاقات المالية مع الصين وروسيا، لضمان أن أي قوة معارضة ستكون مرتبطة مباشرة بالغرب.»

 

الهدف ليس مجرد تغيير قيادة في كاراكاس، بل إعادة تشكيل المعادلة الاستراتيجية في نصف الكرة الغربي. إسقاط مادورو يعني تقييد قدرة المحور الشرقي على استخدام فنزويلا كقاعدة نفوذ اقتصادية وسياسية

إذن، الهدف ليس مجرد تغيير قيادة في كاراكاس، بل إعادة تشكيل المعادلة الاستراتيجية في نصف الكرة الغربي. إسقاط مادورو يعني تقييد قدرة المحور الشرقي على استخدام فنزويلا كقاعدة نفوذ اقتصادية وسياسية، وضمان أن خطوط الطاقة والديون ستسير وفق مصالح واشنطن.

فنزويلا اليوم ليست مجرد دولة نفطية؛ إنها خاصرة استراتيجية يُختبر فيها مدى قدرة النظام الأمريكي على تقليم نفوذ خصومه في القارة الأمريكية اللاتينية، والضغط على محور الشرق من خلال السيطرة على أحد أهم حلفائه في المنطقة.

عقيدة ترامب: التفاوض تحت النار وصناعة الأزمة المثالية:

استراتيجية ترامب في فنزويلا ليست مجرد حملة ضغط عادية؛ إنها تطبيق واضح لما يمكن وصفه بـ"التفاوض تحت النار". العقيدة تقوم على رفع مستوى التوتر إلى أقصى حد، خلق أزمة مُحكمة، ثم اقتناص صفقة استراتيجية تعيد ترتيب قواعد النفوذ

كما أوضح ترامب نفسه في تصريح سابق حول سياساته الخارجية: "أنا أؤمن بخلق ضغط هائل ثم الدخول إلى الطاولة بقوة، فالصفقة الأفضل تأتي بعد أن يصل الجميع إلى أقصى درجات التوتر." 

في حالة فنزويلا، تجلّت هذه العقيدة في سلسلة من الإجراءات المتزامنة: إرسال آلاف الجنود والسفن الحربية إلى السواحل، تشديد العقوبات الاقتصادية على النظام، وتهيئة الظروف لخلق بديل سياسي مقبول دوليًا

كما ذكرت وول ستريت جورنال: «تصعيد ترامب تجاه فنزويلا يبدو أبعد من مجرد ضغط سياسي؛ إنه خطوة واضحة لإعادة تشكيل قواعد اللعبة في القارة الجنوبية قبل أي تسوية محتملة.»

 حتى المراقبون الغربيون أشاروا إلى أن العقيدة الأميركية هذه تهدف إلى تحويل الأزمات إلى أدوات تفاوضية فعّالة. كما كتب جافير بلاس من بلومبيرغ: «الضغط الأمريكي لا يهدف لإضعاف كاراكاس فقط، بل لإعادة توزيع النفوذ في القارة الجنوبية، واستثمار الأزمة لتحقيق مكاسب استراتيجية قبل أي مفاوضات رسمية.» 

يمكن رؤية هذا النمط أيضًا في ملفات أخرى لإدارة ترامب: إيران وكوريا الشمالية كانت ساحات اختبار مماثلة، حيث يتم رفع مستوى التوتر لدرجة الانفجار، ثم استغلال الأزمة للوصول إلى اتفاقيات اقتصادية أو سياسية مربحة للولايات المتحدة.

فنزويلا كمختبر لقوة المحور الشرقي

سقوطها = سقوط نفوذ الصين وروسيا في أمريكا اللاتينية، إذ إنها ليست مجرد دولة نفطية؛ إنها مختبر استراتيجي يقيس قدرة المحور الشرقي على حماية نفوذه في نصف الكرة الغربي. سقوط مادورو لا يعني انهيار نظام محلي فحسب، بل يهدد آخر موطئ قدم لروسيا والصين وإيران في أمريكا اللاتينية، وهو ما يجعل هذه الأزمة أكثر من مجرد صراع داخلي أو مواجهة نفطية.

كما يشير سامح عسكر، الباحث العربي في شؤون الطاقة والسياسة الدولية: «سقوط فنزويلا يعني عمليًا تراجع النفوذ الاقتصادي والسياسي للصين وروسيا في نصف الكرة الغربي، خصوصًا فيما يتعلق بخطوط الطاقة والديون المستحقة.» 

حتى الدعم العسكري الذي قدمته موسكو وبكين لمادورو لا يوازي تأثير القوة الأمريكية المباشرة على الأرض، وهو ما أبرزته وول ستريت جورنال: «في مواجهة حشد عسكري أمريكي متكامل، يبقى الحلفاء التقليديون لمادورو على الهامش، يكتفون بالكلمات والشعارات.»

ويرى خبراء في السياسات الدولية، مثل جافير بلاس من بلومبيرغ، أن الولايات المتحدة تراقب رد فعل الصين وروسيا على الأرض لاختبار مدى استعداد المحور الشرقي للضغط العسكري والاقتصادي: «الأزمة الفنزويلية هي اختبار لقدرة موسكو وبكين على حماية مصالحهما، ومعرفة ما إذا كان الحلفاء قادرين على التدخل فعليًا أم سيظل دورهم شكليًا.»

هذا الاختبار يكشف هشاشة التكتلات الأيديولوجية عند مواجهة القوة الأمريكية المباشرة، ويؤكد أن النفوذ في القارة الأمريكية يعتمد في النهاية على التوازن بين القوة الذاتية للدولة واستعداد الحلفاء للتضحية بمصالحهم. فنزويلا اليوم هي مرآة لمدى قدرة المحور الشرقي على الدفاع عن مصالحه الحيوية، وقياس مدى فعالية شبكاته الاقتصادية والدبلوماسية بعيدًا عن الشعارات.

باختصار، الأزمة الفنزويلية ليست مجرد تحدٍ لنظام محلي، بل تجربة حقيقية لاختبار قدرة روسيا والصين على حماية نفوذهما العالمي، ورسم خطوط الردع مقابل الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي.

أعلى