• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأوبئة (العدوى بين الإثبات والنفي)

من أهم المهمات في أزمنة الأزمات، وانتشار الأوبئة والأمراض؛ تفقد القلب واستصلاحه بزيادة الإيمان واليقين، والتوكل على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه سبحانه؛ ففتك الخوف والقلق وضعف الإيمان بالإنسان أشد من فتك الأوبئة والأمراض


الحمد لله العليم الحكيم؛ لا يقضي قضاء إلا كان خيرا للمؤمنين، ولا يشرع شرعا إلا اجتمعت فيه مصالح الدارين، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رب رءوف غفور رحيم، يرحم العباد أكثر من رحمتهم بأنفسهم، فيلطف بهم في أقداره، ويمنحهم عفوه وغفرانه، ويفيض عليهم من أرزاقه وخيراته، ويفتح لهم أبواب توبته ودعائه، ويغشاهم بوابل رحماته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة؛ فإن الأيام تسرع بكم إلى القبور، ثم إلى النشور، ولن يجد العبد من دنياه إلا عمله؛ فإن كان صالحا سعد وفاز، وإن كان فاسدا خسر وخاب ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].

أيها الناس: مشيئة الرب سبحانه في خلقه نافذة، وسنته تعالى فيهم ماضية، وحكمته في أفعاله باهرة، يعلمها أهل الإيمان فيوقنون ويسلمون ويستسلمون، ويجحدها المستكبرون فينكرون ويجحدون ويكفرون. ولله تعالى في خلقه شئون يقضيها ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].

ومع تجدد فورة الوباء فهذا حديث عنه، وتذكير ببعض ما فيه من حكم الشريعة. والأوبئة يرسلها الله تعالى على البشر ابتلاء منه سبحانه لبعضهم، وعذابا لآخرين منهم، وتغييرا شاملا في حياتهم إذا اتسع انتشارها، وطال أمدها. وسواء كانت من صنع البشر، أم كانت قدرا محضا؛ فإنها لا تخرج عن تقدير الله تعالى ومشيئته ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: 30].

والعدوى بالوباء اختلف الناس فيها قديما وحديثا، فقوم أنكروها إنكارا قاطعا، وقوم غالوا في إثباتها، واعتقدوا فيها معتقد المشركين من أنها تعدي بطبعها لا بتقدير الله تعالى لها.

والنصوص النبوية في العدوى بالوباء كثيرة ومنوعة:

فمنها نصوص تنفي العدوى: ومنها حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الفَرَسِ، وَالمَرْأَةِ، وَالدَّارِ» رواه الشيخان، وحديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ: الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ» رواه الشيخان، وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ هَامَةَ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ» رواه الشيخان.

وجاء عن أبي بكر وعمر وابن عمر أنهم ما كانوا يتحرزون من المجذومين، وكانوا لا يأنفون من الأكل معهم، ولا يلتفتون إلى العدوى. وجاء عن سَلْمَانَ الفارسي رضي الله عنه أنه «كَانَ يَصْنَعُ الطَّعَامَ مِنْ كَسْبِهِ فَيَدْعُو الْمَجْذُومِينَ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ» رواه ابن أبي شيبة.

ومنها نصوص تثبت العدوى: ومنها حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وفي رواية «لاَ تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلَى المُصِحِّ» رواه الشيخان. وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: «أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» رواه الشيخان، وحديث أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا» رواه مسلم. وهذان الحديثان أصل في الحجر الصحي، ويفهم منهما أن سبب المنع من القدوم على أرض الوباء؛ لئلا تصيبه العدوى به، والمنع من الخروج منها؛ لئلا ينشر الوباء في الناس.

قال الخطابي رحمه الله تعالى: «في قوله: لا تقدموا عليه: إثبات الحذر، والنهي عن التعرض للتلف، وفي قوله: لا تخرجوا فرارا منه: إثبات التوكل والتسليم لأمر الله وقضائه، فأحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم».

وقال المدائني: «إنه قل ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت».

والنبي صلى الله عليه وسلم اجتنب رجلا مجذوما، ولم يصافحه؛ كما في حديث عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» رواه مسلم.

ومنها نصوص جمعت بين نفي العدوى وإثباتها: ومنها حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» رواه البخاري.

وهذه النصوص كلها متوافقة، وليس فيها تعارض ولا اختلاف؛ إذ إن العدوى المنفية في الأحاديث هي كون المرض أو الوباء معديا بذاته لا بتقدير الله تعالى؛ فإن أهل الشرك كانوا يعتقدون أن الأوبئة تعدي بذاتها، وهذا منفي شرعا وواقعا؛ فأما نفيه شرعا فكل النصوص التي فيها نفي العدوى. وأما واقعا فإن أناسا يكونون في بؤرة الوباء ولا يصابون به، ويصاب به آخرون هم أبعد منهم عن بؤرة الوباء، أو أكثر احترازا منهم. وهذا متكرر في القديم وفي الحديث؛ وذلك أن المصابين بالوباء -ولو كان طاعونا مميتا- يقوم أناس من ذويهم على خدمتهم ورعايتهم وتطبيبهم، وتغسيل من يموت منهم وتكفينه ودفنه، ولا يصابون بالوباء. ولو كانت الأوبئة معدية بطبعها لا بتقدير الله تعالى لهلك كل من خالط موبوءا، فمن الذي أصاب هذا وسلّم ذاك؟ ولو وقع ذلك لانقرض البشر من قديم الزمان؛ إذ إن الأوبئة والطواعين متكررة في تاريخهم، لا يخلو منها قرن، وبعضها مميت وشامل وتطول مدته. وأما العدوى المثبتة في الأحاديث فهي التي تكون بتقدير الله تعالى؛ ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتراز منها أخذا بالأسباب، لا اعتمادا عليها، فالاعتماد يجب أن لا يكون إلا على الله تعالى وحده. 

قال العلامة ابن مفلح الحنبلي: «حَدِيثُ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، نَفْيٌ لِاعْتِقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ، وَلَمْ يَنْفِ حُصُولَ الضَّرَرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، فَيَكُون قَوْلُهُ: لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، إرْشَادًا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى الِاحْتِرَازِ» وقال أيضا: «وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا فِعْلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ مَعَ مُلَابَسَةِ ذِي الدَّاءِ وَالْعَاهَةِ، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا عَنْهُ».

نسأل الله تعالى العفو العافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.

وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: من أهم المهمات في أزمنة الأزمات، وانتشار الأوبئة والأمراض؛ تفقد القلب واستصلاحه بزيادة الإيمان واليقين، والتوكل على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه سبحانه؛ ففتك الخوف والقلق وضعف الإيمان بالإنسان أشد من فتك الأوبئة والأمراض، ومم يخاف المؤمن؟ ولماذا يخاف؟ وهو يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن القدر قدره، وأن الخلق كلهم تحت قهره وسلطانه، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لا يكون ولو شاءه الخلق كلهم ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [التغابن: 11]، والمؤمن في كل أحواله على خير؛ لأنه بين سراء يجب عليه فيها الشكر، وبين ضراء يجب عليه فيها الصبر؛ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.

مع الأخذ في الاعتبار أن الاحتراز من الوباء لا يعارض التوكل على الله تعالى، وكذلك علاجه بعد وقوعه، فهو من تعاطي الأسباب التي يأخذ بها المؤمن، ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله تعالى.

ومن أصيب بالوباء، أو فات له حبيب فيه فواجب عليه أن يصبر ويحتسب ويسترجع، وسيعينه الله تعالى ويصبره؛ لأنه سبحانه ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء، وفي الحديث الصحيح «... وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» رواه مسلم. ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 51].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

 

أعلى