ومن معاملة الله تعالى لعباده بالفضل: أن العبد إذا أنفق أعطاه الله تعالى أكثر مما أنفق، وكتب له أجر ما أنفق على أهله وعياله مع وجوب النفقة عليهم شرعا وعرفا
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 1- 2]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا
مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الشرائع ليصلح بها العباد،
ويهذب بها الأخلاق، ويدلهم على النجاة يوم المعاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا
خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ
عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من الأعمال الصالحة؛ فإنكم تعاملون ربا كريما،
يجزي جزاء عظيما على عمل قليل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
[الأحزاب: 70- 71].
أيها الناس:
من فضل الله تعالى على عباده المؤمنين أنه يعاملهم على أعمالهم الصالحة برحمته
وكرمه وجوده؛ فينعم عليهم بما لا يبلغونه بأنفسهم، ويجزيهم بأحسن أعمالهم، وخزائنه
سبحانه لا تنفد، وعطاؤه لا ينقطع ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97] ﴿قُلْ يَا
عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] ومن الأدلة على معاملة الله تعالى
لعباده بالفضل والجود والكرم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّمَا
بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ
إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا
بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا
قِيرَاطًا، ثُمَّ أُعْطِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى
صَلاَةِ العَصْرِ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ
أُعْطِيتُمُ القُرْآنَ، فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِيتُمْ
قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَقَلُّ
عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ
شَيْءٍ؟ قَالُوا: لاَ، فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ»
رواه البخاري.
وأجر العبادات كالصلاة
والزكاة والصيام والحج وغيرها من الأعمال الصالحة أعظم من كلفتها ومئونتها بكثير.
وأعظم شيء يقدمه العبد لله تعالى نفسه بأن يقتل في سبيله، وأجره أعظم مما قدم
بكثير؛ ولذا يتمنى أن يقتل في سبيل الله تعالى عشر مرات؛ لقول النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا
أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا
عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ»
متفق عليه. ومن كرم الله تعالى أنه يعامل المجاهد بنيته فيعطيه ما تمنى من الشهادة؛
وذلك أن رجلا بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الشهادة فقال له:
«إِنْ
تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»
فلما قتل شهيدا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صَدَقَ
اللَّهَ فَصَدَقَهُ»
رواه النسائي. فإن لم ينل الشهادة وقد طلبها كافأه الله تعالى بمنازل الشهداء؛
لحديث سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ
سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ
مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»
رواه مسلم.
ويظهر فضل الله تعالى على
عباده في كثير من العبادات؛ فمن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة مع أنه فاته القيام
والقراءة، ومن أدرك ركعة مع الجماعة أدرك الجماعة مع أنه فاته أكثرها، ومن أدرك
ركعة قبل خروج الوقت فقد أدرك الوقت مع أن أكثر صلاته كانت خارج الوقت؛ وذلك أن
الله تعالى يعامل عباده بفضله ورحمته وكرمه. ومن ذلك أيضا: قول النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ
بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ»
رواه الشيخان.
ومما يدل على أن الله
تعالى يعامل عباده بالفضل أنه سبحانه يغريهم بالإحسان فيما بينهم، فيعاملهم بمثل ما
يعاملون به إخوانهم المؤمنين، ويزيدهم من فضله سبحانه؛ وفي ذلك نصوص كثيرة، منها
قول الله تعالى ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:
60]، وهو يشمل إحسان العبد في عبادة ربه سبحانه، وإحسانه إلى خلقه، فمن أحسن إليهم
أحسن الله تعالى إليه، بل بأعظم منه، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ
كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ
اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ
اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ
الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
رواه الشيخان. فكل معاملة يعاملها الناس يعامله الله تعالى بمثلها، بل بأفضل منها.
وفي حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الرَّاحِمُونَ
يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ...»
رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وكان رجل يداين الناس ويتجاوز عنهم فتجاوز الله
تعالى عنه، وقال سبحانه:
«أَنَا
أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي»
رواه الشيخان.
ومن معاملة الله تعالى
لعباده بالفضل: أن العبد إذا أنفق أعطاه الله تعالى أكثر مما أنفق، وكتب له أجر ما
أنفق على أهله وعياله مع وجوب النفقة عليهم شرعا وعرفا؛ فكل الناس ينفقون على أهلهم
وأولادهم حتى الكفار والمنافقون، وفي الحديث القدسي:
«قَالَ
اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»
رواه الشيخان، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّكَ
لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا،
حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ»
رواه الشيخان.
والله تعالى يتقرب للعبد
على قدر تقرب العبد إليه، بل إن الله تعالى يزيد في القرب منه، قال سبحانه ﴿فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152]، وفي الحديث القدسي
«يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا
ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ
ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ
إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ
ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ
هَرْوَلَةً»
رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا
ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أيها المسلمون:
من معاملة الله تعالى لعباده بالفضل والجود والكرم أن العامل يؤجر بنيته إذا منعه
العذر من العمل الصالح، فيكتب له كما لو عمله مع أنه لم يعمله؛ كما في حديث جَابِرٍ
رضي الله عنه قَالَ:
«كُنَّا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: إِنَّ
بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا
كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ»
رواه مسلم، وقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِذَا
مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا
صَحِيحًا»
رواه البخاري.
وإذا دعا العبد لأخيه جوزي
بدعاء الملك له، وذلك أحرى بالإجابة، كما قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
«مَا
مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ
الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ»
رواه مسلم.
ومن معاملة الله تعالى
لعباده بالفضل: أن من نصر دينه كتب له النصر على أعدائه، مع ما يكتب له من الأجر
العظيم في الآخرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، وفي آية أخرى
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: 40].
ومن معاملة الله تعالى
لعباده بالفضل: أنه يعين من أراد الخير، مع ما يدخر له من الأجر؛ لقول النبي صلى
الله عليه وسلم:
«وَمَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ
يُصَبِّرْهُ اللهُ»
رواه الشيخان.
ومن معاملة الله تعالى
لعباده بالفضل: أنه إذا أصابهم بمصيبة أنزل عليهم الصبر والمعونة، مع ما يَدخر لهم
من الأجر ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11]، وفي الحديث
«إِنَّ
الْمَعُونَةَ تَأْتِي الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ الْمُؤْنَةِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ
يَأْتِي الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ»
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
«ولا
يستوحش من ظاهر الحال؛ فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في
أفعاله كما ليس كمثله شيء في صفاته؛ فإنه ما حرمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا
ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا
ليعيدهما إليها على أكمل حال... فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه، ويعطيه
بحرمانه، ويصحبه بسقمه، فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلا إلا إذا كانت تغضبه
عليه، وتبعده منه»
اهـ.
وصلوا وسلموا على نبيكم...