لقد تجاوز الدور المصري مرحلة تثبيت الهدنة، إلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وإبراز المنظور الواقعي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية احتلال
حماس تغير قواعد الاشتباك وتفرز معادلات جديدة
لقد أفرزت الحرب الأخيرة على غزة استراتيجيات جديدة في التعامل معها
خاصة بعد الانتصار الكبير الذي حققته المقاومة على المنظومة الصهيونية وتكبيدها
خسائر فادحة على المستوى السياسي والاقتصادي وغيرت آلية التعامل مع غزة التي أثبتت
أنه لن يكون هناك أي حل سياسي إن لم تكن لاعبا أساسيا فيه.
الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أقر بفشل إخضاع غزة عسكريا ودولة
الكيان أقرت بأن كل معركة تخوضها في غزة تجد فيها صعوبة كبيرة ومقاومة عنيفة وتزداد
المقاومة تطورا في مجال التسلح والتصنيع رغم الحصار والخناق المفروض عليها منذ
فترة. واستطاعت غزة أن تكرس معادلات جديدة على الأرض وأن تكون محور القضية
الفلسطينية وتؤكد بأن أي حل سياسي لن يكون إلا من خلالها وهذا ما أثبتته خلال الحرب
الأخيرة.
تسعى الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع
أصدقائها في منطقة الشرق الأوسط لدفع عجلة السلام بين الفلسطينيين والصهاينة من
جديد وإيجاد حل دائم للقضية الفلسطينية لذلك أوعزت للقاهرة من أجل التحرك على عدة
أصعدة في هذا الاتجاه من أجل إحداث اختراق في العديد من الملفات أهمها تثبيت وقف
إطلاق النار في غزة وإعادة الإعمار وإبرام صفقة التبادل بين حماس ودولة الكيان.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أوكل هذه المهمة لوزير مخابراته عباس
كامل الذي زار المنطقة الاثنين 31 أيار/مايو وجلس مع حماس برفقة عدد من وزراء
السلطة للتفاوض معها بشأن المرحلة المقبلة التي ستكون حماس فيها لاعبا أساسيا مما
يشكل ضربة قوية للسلطة الفلسطينية التي أدارت ظهرها للمقاومة الفلسطينية طيلة
السنوات السابقة وتركت غزة وحيدة في مواجهة آلة الحرب الصهيونية والحصار الذي كانت
سببا رئيسيا فيه ووقفت موقف المتفرج خلال الحرب الأخيرة على غزة.
كامل، عقد اجتماعاً مغلقاً مع رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار
وعدد من قيادة الحركة ونقل لهم اهتمام دولة الكيان بقضية جنودها الأسرى في قطاع
غزة، ومحاولتها ربط أي تقدم في ملف إعادة الإعمار بالإفراج عنهم. كما عقد اجتماعا
موسعا آخرَ، ضم قيادة عدد من الفصائل في قطاع غزة.
وأكد خلال اللقاء على أن التطورات التي تلت معركة سيف القدس تُوجب
ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وإنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الوطنية، الأمر
الذي يستدعي من مصر استمرار جهود المصالحة الفلسطينية، وأعلن خلال اللقاء أن بلاده
ستوجه دعوات لكافة القوى قريباً من أجل الحوار المباشر المعمق لاستكمال مسار إنهاء
الانقسام ووضع رؤية وطنية، وخارطة طريق فلسطينية تسمح بالتحرك الدبلوماسي على
الساحة الدولية، بهدف إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس.
تعود مصر من جديد إلى الواجهة في استعادة دورها وهيمنتها على الملف
الفلسطيني وإيصال رسالة للإدارة الأمريكية الجديدة بأنها حارس البوابة الذي يجب أن
تمر عبره المصالح الغربية، وتبديد تخوفاتها على دورها في ملف الوساطة، وتداعيات
موجة التطبيع الأخيرة على أمنها القومي ومصالحها الإستراتيجية.
لقد تجاوز الدور المصري مرحلة تثبيت الهدنة، إلى تنفيذ قرارات الشرعية
الدولية، وإبراز المنظور الواقعي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية احتلال، ويبدو
أن التوجه المصري أخذ شكلا جديدا، يقوم على فهم أشكال المقاومة الفلسطينية والتعامل
معها برؤية جديدة بهدف الخروج من دائرة الانقسام، ويتميز بكونه قريبا من إدراك
الصورة في وضعها العام، ومعرفة كيفية التعامل مع التحديات المستقبلية بصورة فيها
الكثير من العقلانية والهدوء.
إن الأزمة الفلسطينية الأخيرة أكدت بما يدع مجالا للشك أن مصر تتعامل
مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية أمن قومي ولا تسمح لأحد بتهديده وظهر ذلك جليا
منذ بدء العدوان الصهيوني عندما سعت مصر لتثبيت وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين
والصهاينة والإعلان مباشرة عن المبادرة المصرية التي أطلقها السيسي لدعم إعمار قطاع
غزة وفتح المعبر وإيفاد المساعدات الغذائية والصحية منذ اليوم الأول للعدوان
الصهيوني لمساعدة أبناء الشعب الفلسطيني.
إن الدور الذي مارسته القاهرة خلال المعركة ارتقى إلى كونه المدخل لدى
الإقليم والمجتمع الدولي إلى حـمـاس في مباحثات وقف إطلاق النار، وبدا ذلك في اتصال
الرئيس الأمريكي جو بايدن مع السيسي، وهذا يعيد الاعتبار الإقليمي لمصر، ويؤشر إلى
اعتمادها من الولايات المتحدة بوصفها لاعبًا مركزيًا في المنطقة، كما يعزز موقعها
في الحالة الفلسطينية وقطاع غزة على وجه الخصوص.
لا شك أن المعركة الأخيرة طورّت العلاقة إلى مستويات متقدّمة بين
القاهرة وحماس، وستحرص الأخيرة على البناء عليها، لكن لا يجب إغفال الإستراتيجية
والمسار العقلاني والمنضبط الذي سلكته الحركة في العلاقة مع مصر، على قاعدة المصلحة
الوطنية وتقديرًا لموقعها ووزنها الإقليمي.
لن تقف مصر غالبًا عند هذه المعركة، بل ستوظّف مكاسبها السياسية
باتجاه التقدّم أكثر في الملف الفلسطيني، وستقود ملف إعادة إعمار وما تضرر في قطاع
غزة وإدارة الدعم المالي العربي الموجّه لذلك، إنها فرصة ثمينة تحققت للقاهرة كي
تعمم رسالتها خارجيًا وإلى بعض الدول الخليجية التي حاولت منافستها على هذا الدور.
في المقابل، يجب النظر إلى زيارة ممثل السيسي على أنها تقدير مصري
أيضًا لحماس، التي أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية حتى أعادت الاعتبار لمن حولها،
وبدا ذلك في دعوتها رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية لزيارة القاهرة،
وستوظّف الحركة ذلك فيما يخدم جهودها لاستثمار المعركة سياسيًا، وغالبًا فإن الجهد
المتقدّم قد يكون باتجاه إعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
مرحليًا، فإن الظرف قد يكون مواتيًا لتطوير درجة التعامل المصري
الرسمي مع حماس وقطاع غزة، وهذا استحقاق له دلالاته وتبعاته، لكنه بالتأكيد أصبح
واجبًا بعد المعركة؛ في ضوء الدور الذي قادته الحركة وأجادته ممثلة عن الفلسطينيين
بالضفة والقدس وقطاع غزة.
ويمكن اعتبار ذلك مقدّمة لانفتاح سياسي عربي جاد يضغط باتجاه الاعتراف
بالموقع والمكانة الوطنية لحماس، الذي يلزم أن يقود الجميع جهودًا لوضعه في مكانه
الصحيح ودعمه، ثم سحب نتائج ذلك على حالة الحصار، وتحسين الواقع في قطاع غزة،
وتقدير أن حـماس في وضع لديها القدرة فيه على العمل من نقطة الصفر، أو العودة إليها