من الضروري الفصل بين القلب والنفس، فالنفس مذكورة في القرآن الكريم على ثلاثة أحوال: "النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة".
وكذلك القلوب على ثلاثة أشكال: "قلب سليم، وثان مريض، وثالث ميت.
شيئان محبوبان لذاتهما بعد التأمل والنظر: اللذة والكمـال، وشيئان مكروهان لذاتهما
الألم والنقص.
وفي الحقيقة لا فرق بينهما، فاللذة طريق لحصول كمـال حال المُلتذ، وما يكون كمالا
يكون لذيذا، كما هو شأن المكروه لذاته على ما تقدم والعكس بالعكس.
ولكن يُمكن التمييز في "اللذيذ" لـِمَا هو جسماني: باللذة، وما هو روحاني: بالكمال.
ومِن تَم فالكمال إما أن يكون في الذات أو في الصفات.
فأما الكمـال في الذات: بأن يكون غير قابل للعدم أو الفناء البتة، وهذا محال إلا في
حقه سبحانه.
وأما الكمال في الصفات فمحصور في شيئين: العلم والقدرة. ومعلوم أن مراتب العلم
والقدرة لا تنتهي وبالتالي فمراتب حب الانسان لهما والحرص على تحصيلهما لا تنتهي.
فإذا تقرر هذا، عُلم أن اشتغال النفس بطلب كمال العلم له لذة في الحال وسعادة في
الاستقبال، وأما تعلق النفس بالعالم الجسماني، فهو وإن كان كمالا، إلا أنه مشروط
ببقاء النفس بالجسد ثم ينقطع هذا التعلق فيزول ذلك الكمال.
ولهذا قال الرازي رحمه الله: "وأما التوجه إلى الافق الأسفل... فهو وإن كان يوجب
لذة في الحال، إلا أنه يوجب الألم العظيم بعد الموت، فلهذا السبب أطبق العقلاء على
أنه يجب على كل العقلاء أن يشتغلوا بتوجه الروح إلى العالم الأعلى ولصرفها عن
العالم الأسفل، فإن المتوجهين إلى عالم القدس وجدوا بقاء بلا فناء وعزا بلا ذل ولذة
بلا ألم وأمنا بلا خوف..."[1] فتعلق
النفس بالعالم الدنيوي سببه كونها في جسم خُلِق من تراب، وهنا لا مُناسبة البتة بين
التراب وبين رب الأرباب بأن يكون التراب حـاملا لهذه الروح اللإلهية والأنوار
الصمدية، وإنما هو دليل جوده ورحمته وقدرته. وهذا التعلق يوجب العلة والمرض كما قال
بن القيم رحمه الله: "وأما
مفسدات القلب الخمسة فهي كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع،
والمنام..."[2]
ومن هنا كان لزاما علينا تحرير موضع النزاع بين مرض القلب ومرض النفس.
فمرض القلب كمـا قـال بن تيمية رحمه الله: "هو نوع فسـاد يحصل له – أي للقلب - يفسد
به تصوره وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف
ما هو عليه، وإرادته بحيث يُبغض الحق النـافع ويحب البـاطل الضـار..."[3]
لهذا قـال سبحانه: ﴿في قلوبهم مرض﴾
[البقرة:10].
ومرض القلب ألَـمٌ يحصل في القلب، كالغيظ من عدو استولى عليك قـال تعـالى: ﴿ويشف
صدور قوم مومنين ويذهب غيظ قلوبهم﴾ [التوبة:14]، فشفائهم بزوال مـا حصل في قلوبهم
من الألم. ثم يقول بن تيمية رحمه الله: "فهذا شفـاء من الغم والغيظ والحزن وكل هذه
آلام تحصل في النفس"، فلم يحصل عنده التفريق بين مرض النفس ومرض القلب فهما عنده
بمعنى واحد.
وكذلك سـار نهج تلميذه بن القيم في كتب المدارج والداء والدواء والروح وغيرهـا من
مصنفاته.
وهنا دقيقة: القلب يموت بالجهل المطلق، فلا يسمع ولا يبصر كما قال تعالى:
﴿فإنها
لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ [الحج: 46]، ويمرض بنوع من الجهل
فله موت ومرض وحياة وشفاء، أعظم من حيـاة البدن وموته ومرضه وشفـائه، وقال سبحـانه:
﴿
كل نفس ذائقة الموت
﴾
[آل عمران:185] فموت النفس سببٌ لموت البدن، لكن موت القلب ليس بالضرورة سببا لموت
البدن.
وقد يظهر من كلام ابن سينـا أنه يخالف هذا حين قـال: "وهكذا فالنفس حادثة مع حدوث
البدن، وهي تستعمله، فهو إذن مملكتهـا وآلتهـا، وهي لا تموت بموت البدن بل تبقى..."[4].
قلت لا تعارض ها هنا فمعلوم عندنا شرعـا أن النفس تخلد، فالمقصود بالموت هنا
انقطاعها عن الدنيا لا انقطاعها عن الآخرة فالبرزخ أول منازلها كما هو مقرر عند أهل
السنة والجماعة.
لذلك كان من الضروري الفصل بين القلب والنفس، فالنفس مذكورة في القرآن الكريم على
ثلاثة أحوال: "النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة".
وكذلك القلوب على ثلاثة أشكال: "قلب سليم، وثان مريض، وثالث ميت.
فالنفس الأمارة بالسوء التي تدعو صاحبها وتأمره بفعل المعاصي، تكون سببا مباشرا في
مرض القلب والختم عليه، فكثرة الذنوب تورث القسوة، وقسوة القلب تورث الاعراض عن ذكر
الله والاعراض عن الذكر يورث المعيشة الضنكا، كما قال سبحانه:
﴿ومن
أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا﴾
[طه:124] فتحصل العلة النفسية. فمرض النفس هنـا أصلي غير مكتسب بمعنى أن طبيعة
النفس أو معدن النفس ميال إلى الدعوة إلى السوء، بخلاف أمراض القلوب فإنها كسبية،
فالإنسان عندما يُذنب تصيرُ على قلبه كِنانة - وجمعها أكنة - قال تعالى:
﴿إنا
جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه﴾
[الكهف:57] فيحصل الران على القلب كما قال تعالى:
﴿كلا
بل ران على قلوبهم﴾
[المطففين:14] فهذه كلها أمور مكتسبة.
فهذا فرق آخر بين مرض القلب ومرض النفس وهو أن السلامة من الأول تحصل بالتوبة أما
مرض النفس فعلاجها يكون بالتزكية والرياضة كما قـال تعالى:
﴿قد
أفلح من زكاها﴾
[الشمس:9]، وقال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: "ورياضة النفس لا تصلح إلا مع
نجيب"
وعلى كل فما جعل الله من داء إلا وجعل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله لذلك ان
كان علاج علل الأبدان طبيعيا، فإن علاج علل الأنفس والقلوب شرعي فكما أن الحكماء
اختصوا فطب الأبدان فالرسل والعلماء هم أطباء القلوب.
فهذا باختصار وتلخيص شديدين لم أرد حقيقة الغوص في تفاصيل الموضوع لأنه محل نزاع
وأهله يستدلون بالمنطق كثيرا ويخوضون في تفاصيل كثيرة فالأمر يحتاج مني مزيد بحث
فالمرأ مهما أوتي من العلم فإنه يبقى قليلا، فالروح خاصة وعالم الغيب عامة مما
استأثر الله تعالى بعلمه نسأله تعالى علما يوصلنا الى مقام العرفان و يجعلنا ممن
يخشاه غيبا وشهادة ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾.
المصادر
1)
النفس والروح وشرح قوامهما للفخر الرازي تحقيق محمد الصغير مطبعة الأبحاث الاسلامية
ص26.
2)
مدارج السالكين لابن القيم الجوزية تحقيق محمد المعتصم بالله دار الكتاب العربي
العربي ط 7 2003.
3)
أمراض القلوب وشفائها لأحمد بن تيمية دار القلم.
4)
أحوال النفس للرئيس ابن سينا الفصل السابع صحة استغنائها عن البدن تحقيق أحمد فؤاد
الأهواني دار إحياء الكتب العربية ط 1 1952م.
[1]
النفس والروح وشرح قوامهما للفخر الرازي ص26.
[2] مدارج السالكين لابن القيم الجوزية ج1 ص370.
[3]
أمراض القلوب وشفائها لأحمد بن تيمية ص7
[4]
أحوال النفس للرئيس ابن سينا الفصل السابع صحة استغنائها عن البدن