ينبغي للمؤمن أن يكثر من قراءة القرآن في شعبان، حتى يعتاد ذلك، فلا يدخل عليه رمضان إلا وقد ألف كثرة القراءة، فلا يصيبه الملل والسأم
الحمد لله الرحيم الرحمن،
الكريم المنان؛ امتن على عباده بالإيمان، وهداهم لصالح الأعمال، ودلهم على أفاضل
الزمان، وضاعف لهم فيها الأجر والثواب، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان كثير الصلاة والصيام
والتعبد لله تعالى، وكان أكثر ما يصوم تطوعا في شهر شعبان، ومع ذلك كان يصلي ويرقد،
ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، فهذه سنته، فمن رغب عنها فليس منه، صلى الله وسلم
وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا أوقاتكم بذكره سبحانه؛ فإن الأجل قريب، وإن
الحساب شديد، وإن الموت قد يفجأ العبد بغتة، ولا عمل بعد الموت، وإنما حساب وجزاء ﴿كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
أيها الناس:
المؤمن الفطن من وزن الدنيا بميزانها، وأعطاها مستحقها، ولم يجعلها أمله وغايته
ونهايته؛ فإن الدنيا مرحلة عمل وسعي، يعقبها موت وحياة برزخية في القبر لا يدري
العبد كم يمكث فيه، فربما مكث ألف سنة أو ألفين أو أكثر أو أقل، ثم يعقبها حياة
كاملة سرمدية في الدار الآخرة، ومن الغبن العظيم أن يعمل العبد لدنياه وهي بضعة
عقود فقط، قد تصل إلى قرن إذا عُمر الإنسان، وينسى حياة برزخية قد تمتد إلى قرون
طوال، ويهمل دار باقية سرمدية، لا موت فيها أبدا، بل بقاء وخلود؛ فإما منعم وإما
معذب. ومن أدرك ذلك حق الإدراك كان عمله لما بعد الموت أكثر من عمله لدنياه.
وشهر شعبان شهر عظيم يقع
بين شهر رجب المحرم، وبين شهر رمضان المعظم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر
الصيام فيه؛ كما جاء في حديث عَائِشَةَ رَضَيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:
«كَانَ
رَسُولُ الله
ﷺ يَصُومُ
حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، وَمَا
رَأَيْتُ رَسُولَ الله
ﷺ
اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ
أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ»
رواه الشيخان. وفي رواية لمسلم:
«وَلَمْ
أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ
يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا».
وقد بين النبي صلى الله
عليه وسلم سبب كثرة صيامه في شعبان؛ كما في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله
عنهما قَالَ:
«قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ
مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ
وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»
رواه النسائي.
فذكر النبي صلى الله عليه
وسلم سببين لصيامه في شعبان:
أولهما:
غفلة الناس عنه، وسبب هذه الغفلة أن شعبان وقع بعد شهر رجب، وهو شهر محرم، وقد قال
الله تعالى في الأشهر الحرم ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾
[التوبة: 36]، وقبل شهر رمضان، وهو شهر الصيام والقيام والقرآن والإحسان.
وهذا الحديث أصل في
استحباب ذكر الله تعالى في وقت الغفلة، وقد دل على ذلك نصوص عدة، منها: قول
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْعِبَادَةُ
فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»
رواه مسلم. والهرج هو الفتنة واختلاط الأمر، وحينها ينشغل الناس بالفتنة، ويغفلون
عن العبادة، فكانت العبادة إذ ذاك كالهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها:
قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَقْرَبُ
مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ»
رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وجوف الليل وقت نوم، وغالب من يسهرون
فيه يسهرون على لعب ولهو وغفلة، فحرض النبي صلى الله عليه وسلم على الذكر في ذلكم
الوقت لكثرة الغفلة فيه. ومنها: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ثَلَاثَةٌ
يُحِبُّهُمُ اللهُ»
وذكر منهم:
«وَالْقَوْمُ
يُسَافِرُونَ فَيَطُولُ سُرَاهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا أَنْ يَمَسُّوا الْأَرْضَ،
فَيَنْزِلُونَ، فَيَتَنَحَّى أَحَدُهُمْ، فَيُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَهُمْ
لِرَحِيلِهِمْ»
رواه أحمد وصححه ابن حبان. فهذا الرجل صلى في استراحة من سفر طويل، وهي حال غفلة
وطلب للنوم، فاستحق محبة الله تعالى. ومنها ما جاء في الحديث القدسي:
«يَقُولُ
اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا
ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ
ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ»
رواه الشيخان، والخلو بالنفس مظنة الغفلة، وذكر الله تعالى يدل على اليقظة، كما
يقطع فيه بالإخلاص؛ ولذا كان من السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم القيامة
«وَرَجُلٌ
ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»
رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن رجب رحمه
الله تعالى:
«وفيه
دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل؛ كما
كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة».
وفي حديث حذيفة رضي الله
عنه أنه حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب قَالَ:
«فَجِئْتُهُ
فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ
يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ»
رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وجاء عن جمع من الصحابة والتابعين أنهم كانوا
يصلون بين العشائين، وهو وقت غفلة.
«وفي
إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد: منها: أنه يكون أخفى، وإخفاء النوافل
وإسرارها أفضل... ومنها: أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس. وسبب
ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس
وطاعاتهم كثر أهل الطاعة؛ لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطاعات. وإذا كثرت الغفلات
وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم؛ لقلة من يقتدون بهم
فيها... ومنها: أن المنفرد بالطاعة ... قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم
ويدافع عنهم».
ومما ذكره النبي صلى الله
عليه وسلم من أسباب صيام شعبان: قوله صلى الله عليه وسلم
«وَهُوَ
شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ
يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»
فعمل العام يرفع في شعبان. كما أن في صيام شعبان رياضة على الصيام استعدادا لرمضان.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا
ما ينفعنا، وان يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته،
إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا
كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى واعملوا صالحا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [هود: 23].
أيها المسلمون:
ينبغي للمؤمن أن يكثر من قراءة القرآن في شعبان، حتى يعتاد ذلك، فلا يدخل عليه
رمضان إلا وقد ألف كثرة القراءة، فلا يصيبه الملل والسأم، ويروض نفسه على التلذذ
بآيات القرآن الكريم.
«قال
سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان
قال: هذا شهر القراء، وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ
لقراءة القرآن».
وليلة النصف من شعبان جاء
فيها حديثان ضعيفان لا يعول عليهما، وليس لها مزية على غيرها من الليالي، فلا يخص
نهارها بصوم، ولا ليلها بقيام، بل هي كسائر الليالي؛ فمن اعتاد على الصيام في شعبان
صام يوم النصف لأنه يصوم شعبان، ومن اعتاد قيام الليل قام ليلة النصف على عادته في
القيام، لا لأنها ليلة النصف من شعبان.
ويُنهى عن صيام آخر شعبان
إذا كان على سبيل الاحتياط لرمضان، لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«لاَ
يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَنْ
يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ»
رواه الشيخان. وفي حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال
«مَنْ
صَامَ اليَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
رواه أهل السنن. فإذا وافق يوما كان يصومه كصيامه الاثنين أو الخميس فلا بأس أن
يصومه؛ لأنه لم ينو بصيامه الاحتياط لرمضان.
وبكل حال فإنه ينبغي
للمؤمن أن يغير من حاله في شعبان؛ استعدادا لرمضان، وأن يكثر فيه من الصيام وقراءة
القرآن؛ لئلا يكون من الغافلين؛ ولكي يستعد لرمضان، فلا يدخل عليه إلا وقد ألف
الصيام والقرآن، فيكون أنشط في العبادة في رمضان.
وصلوا وسلموا على نبيكم...