وصية المثنى لسعد بن أبي وقاص قبيل القادسية
اعتنق الإسلام سنة 9هـ، وبعد مشاركته في القضاء على المرتدين في البحرين إلى جانب
العلاء بن الحضرمي، استنفر قومه للجهاد ضد الفرس، وأخذ يغير على تخوم مملكتهم، فبلغ
ذلك الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فسأل من كان حوله من بني تميم: مَنْ هذا
الذي تأتينا وقائِعهُ قبل معرفة نسبه؟ فقال له قيس بن عاصم المنقري: "أما إنه
غَيْرُ خامل الذّكر، ولا مجهول النسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العماد، ذلك
المثنّى بن حارثة الشّيبانيّ." وكان بنو شيبان (رهط المثنى) من هامات قبائل ربيعة
بن نزار، التي كانت تنتشر في الجاهلية، شرقي نجد، موغلة إلى الشمال حتى أعالي
الفرات. وكانت الوقائع تثور بينهم وبين الفرس بين الحين والآخر، فكانوا أجرأ العرب
على فارس، وكان العرب يسمون فارس الأسد،
لقوتها، وشدة بأسها، فسموا
ربيعة (ربيعة الأسد). وكان بنو شيبان هم أبطال معركة ذي قار، تلك المعركة الخالدة
التي حقق العرب فيها أول انتصاراتهم على الفرس وذلك غداة البعثة النبوية، وامتد بهم
المجد في الإسلام، فكان منهم بيوتات لها في الحرب والمكارم مآثر. ثم لم يلبث المثنى
أن وفد على أبي بكر في المدينة، يستحثه على قتال الأعاجم، ويضع امكانياته تحت
تصرفه، فاستبشر أبوبكر بذلك خيرا، وثبته في مكانه، أميرا على قومه. وعندما وجه
أبوبكر خالد بن الوليد لفتح العراق في مطلع عام 12هـ، بعد إخماد فتنة كذاب اليمامة
(مسيلمة)، كتب للمثنى بأن ينضم لخالد بمن معه، ففعل، فجعله خالد في طليعة جيشه،
وكان خير معين له في فتوحاته، وشهد أغلب وقائعه ضد الفرس، وكان له دور كبير في
انتصارات خالد في تلك الوقائع. وبعد أن أمر أبوبكر خالدا بالتوجه إلى الشام على رأس
نصف الجيش، قبيل معركة اليرموك، بقي المثنى في العراق يجاهد الفرس على رأس نصف
الجيش الأخر، فظل كالشجا في حلوقهم، رغم قلة جيشه، وانتصر عليهم انتصارا ساحقا في
معركة بابل سنة 13هـ، وفيها قتل الفيل، ولاحق فلولهم حتى أبواب المدائن. ومات شهر
برز ملك الفرس بعد هذه المعركة بحسرته، واختل عرش فارس بعده، فوفد المثنى على أبي
بكر في المدينة ليخبره بما حل في بلاد فارس من اضطراب داخلي، ولكي يحثه على انتهاز
هذه الفرصة للقضاء على دولة الفرس، فألفاه مريضا في النزع الأخير، فأبلغه بما جاء
من أجله، فاستدعى أبوبكر عمر، وكان قد أوصى له بالخلافة من بعده، وابلغه بدنو أجله،
وأمره أن يندب الناس للخروج للجهاد مع المثنى، في نفس اليوم الذي يموت فيه، ففعل
عمر ما أمره أبوبكر، وبعث جيشا إلى العراق بقيادة أبو عبيد الثقفي، ومعه المثنى بن
حارثه. وقد أبلى أبو عبيد الثقفي بلاء حسنا في الفتوح، ولكنه لم يلبث أن قتل في
معركة الجسر، التي انتهت بهزيمة قاسية للمسلمين، وتكبدوا فيها خسائر فادحة في
الأروح، وأكثرهم ماتوا غرقا بعد انقطاع الجسر، وذلك في شعبان سنة 13هـ، ولولا شجاعة
المثنى وثباته لفني المسلمون عن آخرهم في هذه الموقعة، فهو الذي أعاد عقد الجسر،
بعد انقطاعه، ووقف في أنجاد من العرب، يحمى المسلمين، حتى عبروا، وأصيب المثنى
أثناء ذلك بجروح بليغة، لكنه شفي منها، قبل أن تنتقض فيما بعد فتكون سببا في وفاته.
وعلى أثر مقتل أبوعبيد، تصدى المثنى لقيادة الجيش بكل جدارة واقتدار، وأقره الخليفة
على ذلك، وأمده بالمدد من المدينة، وكان فيمن أمده بهم بجيلة وأمرهم إلى جرير بن
عبد الله. فالتقى المثنى بالمجوس في معركة البويب في رمضان من نفس العام وهزم جيشهم
شر هزيمة، وقتل منهم أضعاف أضغاف ما قتلوا من المسلمين يوم الجسر، وبصورة اهتز لها
عرش المجوس.
وقد كان المثنى من أعظم أبطال الإسلام. وكان فارسا مقداما مدربا ذكيا حاضر البديهة،
حسن الرأي، ميمون النقيبة، صبورا لا يعرف اليأس، وفي غاية الصلاح والتقوى. وكان
نموذجا للرجولة الكاملة، والشجاعة البالغة، والمجد والسؤدد، والعمل المخلد، ولقد
أظهر خلال مسيرته الجهادية، إخلاصا نادرا للإسلام وأهله، وتضحية عجيبة لأجلهما،
ونكرانا للذات. فلم يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر أبي بكر ولا
عمر، بل كان مطيعا لهم، منفذا لأوامرهم بدقة في جميع حروبه وتصرفاته، كما كان مطيعا
لخالد بن الوليد، فحارب معه جنبا إلى جنب كأصدق صديق له من غير أن يبدو منه اعتراض
عليه، كما لم يبدو منه اعتراض على أبي عبيد الثقفي، ولا على غيره من القواد، بعد
ذلك، رغم كونه أكثر منهم خبرة، وأعرف بخطط العراق ومواقع البلاد، بل كان على العكس
من ذلك، فقد كان يشد أزر هؤلاء القادة، ويضع نفسه وقدراته وامكاناته تحت تصرفهم،
وكان يجمع لهم الجموع، ويحث القبائل العربية، على قتال الفرس إلى جانبهم، وتحت
قيادتهم. ولم تقدَّم في حقه أي شكوى إلى الخليفة، ولم تغره الدنيا فكان عفيفا شهما،
كذلك لم يحسد أحدا، ولم يطمع في الغنائم، وكانت حياته وقفا على الجهاد، وأبلى في
حروب العراق بلاء لم يبله أحد. وكان خطيبا فصيحا مؤثرا، وإذا أخطأ مرة في خطة من
خططه اعترف في الحال بخطئه وحذر القوم من الوقوع في مثلها.
ولما قرر الخليفة عمر بن الخطاب فتح العراق فتحا مستداما، وأوكل بهذه للمهمة
للصحابي الجليل سعد بن ابي وقاص، في مطلع سنة 14هـ، انتفضت في المثنى الجراحات التي
أصيب بها يوم الجسر، فمات في صفر سنة 14هـ، قبل أن يصل سعد إلى العراق. ولكي ندرك
مدى عظمة المثنى، وحرصه على مصلحة المسلمين وانتصارهم على الفرس، يكفي أن نعلم بأنه
عندما أحس بدنو أجله، كتب وصية لسعد بن أبي وقاص، يبين له أنجع الوسائل لمحاربة
الفرس، لأنه خبرهم وعجم عودهم، وسلمها لأخيه المعنى، وأمره أن يعجلها إلى سعد.
وبينما كان سعد، في انتظار قدوم المثنى عليه بشراف، جاءه نعيه، كما جاءته وصيته،
تحملها امرأته سلمى وأخوه المعنى. وكانت وصية المثنى لسعد: "قاتل الفرس، إذا استجمع
أمرهم وملأهم في عقر دارهم، على حدود أرضهم، على أدنى حجر من أرض العرب، وأدنى مدر
من أرض العجم، فإن يظهر الله المسلمين عليهم، فلهم ما وراءهم، وإن تكن الأخرى،
فاءوا إلى فئة، ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم، إلى أن يرد الله الكرة
عليهم". ولما انتهى إلى سعد، رأي المثنى ووصيته ترحم عليه، وعزم على تنفيذ وصيته،
وأمّر المعنى على قومه بني شيبان مكانه، وتزوج سلمى بنت آل حفصة زوجة المثنى.
وفي غضون ذلك تلقى سعد تعليمات جديدة من الخليفة عمر بن الخطاب، وكانت هذه
التعليمات تتفق في جوهرها، مع وصية المثنى له، فقد اختار الخليفة "القادسية"، لتكون
قاعدة لجيش المسلمين. وقد جاء في كتابه إلى سعد: ".. وإذا نزلت القادسية، والقادسية
باب فارس في الجاهلية، وهي أجمع تلك الأبواب لمادتهم، فتكون مسالحك على أنقابها،
ويكون الناس بين الحجر والمدر على حافات الحجر وحافات المدر..، ثم الزم مكانك فلا
تبرحه، فإنهم إذا أحسوك أنغضتهم رموك بجمعهم...فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم
لقتاله، ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم.. وإن تكن الأخرى كان الحجر في
أدبارهم فانصرفتم من أدنى مدر من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم وكنتم عليها أجرأ،
وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل، حتى يأتي الله بالفتح ويرد لكم الكرة
عليهم".
***