• - الموافق2024/11/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
دولة أوروبا المقسمة (3/3)

دولة أوروبا المقسمة (3/3)


دوائر النفوذ الأوروبية

لذلك فإننا نرى أوروبا تتطور إلى مجموعة من المجموعات الإقليمية. تلك المجموعات ربما يكون لديها أفكار مختلفة بشأن التصورات الاقتصادية والأمنية، بل إن دولة ما ربما تنتمي إلى أكثر من مجموعة، ولكن في المعظم فإن العضوية ستعتمد بصورة كبيرة على موقع الدولة في القارة. وذلك لم يحدث بين عشية وضحاها، فألمانيا وفرنسا والاقتصادات المركزية الأخرى لديها اهتمام كبير في الحفاظ على منطقة اليورو بشكلها الحالي على المدى القصير، ربما لعقد قادم أيضًا، لأن العدوى الاقتصادية القادمة من اليونان تعد بمثابة القلق الوجودي في اللحظة الراهنة على الكيان ككل، ولكن على المدى البعيد فإن المنظمات الإقليمية للكتل المتشابهة في التفكير يبدو أنه المسار الذي سيتطور في أوروبا، وبخاصة إذا قررت ألمانيا أن علاقتها مع دول منطقة اليورو الأساسية ووسط أوروبا أكثر أهمية من علاقتها مع دول الأطراف.

ونستطيع أن نقسم الكتل إلى أربعة مجموعات رئيسية ناشئة، والتي ليست بدورها مقصورة على تلك الجماعات، ولكنها نوع من النموذج لتصور العلاقات الناشئة بين الدول في أوروبا:

1- دائرة النفوذ الألمانية: (ألمانيا، النمسا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورج، جمهورية التشيك، المجر، كرواتيا، سويسرا، سلوفينيا، سلوفاكيا، فنلندا): تلك هي لب اقتصاديات منطقة اليورو وليست مضارة من القدرة التنافسية الكبيرة للدولة الألمانية، كما أنها تعتمد على التجارة الألمانية لمصلحتها الاقتصادية، كما أنها ليست مهددة من العلاقة المتنامية لألمانيا مع روسيا. ولكن فنلندا بسبب عزلتها عن بقية أوروبا وبسبب قربها من روسيا، فإنها ليست سعيدة بشأن عودة الظهور الروسي على الساحة الأوروبية والدولية، ولكنها عادة ما تفضل التوجه الألماني التوافقي الحذر عن التوجه الحاسم لجارتيها السويد أو بولندا. والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا هي الأكثر قلقًا من العلاقة الروسية الألمانية، ولكن ليس إلى حد قلق بولندا أو دول البلطيق، وربما يقررون أن يظلوا في دائرة النفوذ الألمانية لأسباب اقتصادية.

2- الكتلة الإقليمية الشمالية: (السويد، النرويج، فنلندا، الدنمارك، آيسلاند، إيستونيا، ليتوانيا ولاتفيا): تلك الدول في معظمها ليست في منطقة اليورو وترى عودة الظهور الروسي بصفة عامة على أنه مؤشر سلبي، ودول البلطيق ترى على أنها جزء من دائرة النفوذ الشمالية (وبخاصة دائرة السويد)، وهو ما يؤدي إلى مشكلات مع روسيا. وألمانيا تعد شريكًا تجاريًا هامًا، ولكن دول المجموعة تراها أنها منافس ومتسلطة بصورة زائدة، أما فنلندا فتربط ما بين تلك المجموعة وما بين دائرة النفوذ الألمانية، وتعتمد على ذلك.

3- مجموعة فايسيجراد (بولندا، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، المجر، رومانيا وبلغاريا). في اللحظة الراهنة فإن رباعية فايسيجراد تنتمي إلى دوائر مختلفة من النفوذ، فجمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر لا تشعر أنها منكشفة أمام الصعود الروسي مثل بولندا ورومانيا، ولكنهم غير راضيين تمامًا عن توجه ألمانيا تجاه روسيا، فبولندا ليست قوية بصورة كافية لقيادة تلك المجموعة اقتصاديًا بنفس الطريقة التي تهيمن بها السويد على الكتلة الشمالية، فخلاف التعاون الأمني، فإن دول فايسيجراد ليس لديها الكثير لكي تقدمه لبعضها البعض في اللحظة الراهنة. فبولندا تهدف إلى تغيير ذلك عن طريق التحالف والحشد لمزيد من التمويل للدول المنضمة للاتحاد الأوروبي حديثًا في الأشهر الستة القادمة من رئاستها للاتحاد الأوروبي. ولكن ذلك يظل لا يمثل قيادة اقتصادية.

4- أوروبا المتوسطية: (إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، اليونان، قبرص، ومالطا): تلك هي دول أطراف أوروبا، اهتماماتها الأمنية متفردة بسبب تعرضها للهجرة غير الشرعية عبر مسارات تركيا وشمال إفريقيا، ومن الناحية الجغرافية فإن تلك البلدان معزولة عن مسارات التجارة الرئيسية وتفتقد إلى مراكز الأموال في شمال أوروبا، فيما عدا وادي نهر بو الإيطالي (والذي لا يعد في كثير من الأحيان ينتمي إلى تلك المجموعة ولكن يمكن اعتباره ككيان مستقل وجزءًا من دائرة النفوذ الألمانية). ولذلك فإن تلك الاقتصادات تواجه مشكلات مماثلة من الاستدانة الزائدة وافتقادها إلى التنافسية، والسؤال هو: من يقود هنا؟

ثم بعد ذلك هناك فرنسا والمملكة المتحدة، فتلك البلدان لا تنتمي في الحقيقة إلى أية كتلة، فلندن تطل على القارة الأوروبية من غربها ولكنها بدأت مؤخرًا في إنشاء علاقة مع مجموعة أوروبا الشمالية ودول البلطيق، ولكن فرنسا في الوقت الراهن يمكن اعتبارها جزءًا من دائرة النفوذ الألمانية، فباريس تحاول أن تحافظ على دورها القيادي في منطقة اليورو وتعيد ترتيب القواعد المنظمة للعلاقة بين السوق والعمالة والمزايا الاجتماعية للحفاظ على اتصالها بكتلة العملة التي تهيمن عليها ألمانيا، وهي عملية مؤلمة للغاية كما يشير التقرير. ولكن فرنسا أيضًا من الناحية التقليدية تعد دولة متوسطية وتنظر في التحالفات مع دول وسط أوروبا من أجل إحاطة ألمانيا. كما أنها دخلت مؤخرًا في علاقة عسكرية ثنائية مع المملكة المتحدة، كنوع من السياج لعلاقتها الوثيقة مع ألمانيا. وإذا ما قررت فرنسا أن تخرج من شراكتها مع ألمانيا، فإنها تستطيع سريعًا أن تعيد السيطرة على دائرتها الطبيعية للنفوذ في البحر المتوسط، ربما بدعم من قوى أخرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وكان العرض الفرنسي لإنشاء اتحاد متوسطي كان بمثابة الحاجز السياسي وأداة سياسية لمثل هذا المستقبل.

 ثمن الهيمنة الإقليمية:

إن بديل "أقلمة" الأمن الأوروبي هو قيادة واضحة لألمانيا تؤكد على الاندماج الكامل لأوروبا سياسيًا واقتصاديًا، فإذا ما استطاعت برلين أن تتغلب على المشاعر الشعبية المعادية لليورو والتي يؤججها الملل الشعبي من إعانة الدول الأخرى داخل منطقة اليورو، فإنها حينئذ تستطيع أن تستمر في دعم دول الأطراف وتثبت التزامها لمنطقة اليورو وبالاتحاد الأوروبي ككل. كما أن ألمانيا تحاول أيضًا أن تظهر لوسط أوروبا أن علاقتها مع روسيا هي علاقة إيجابية بحتة للجميع باستخدام مفاوضاتها مع موسكو حول مولدوفا كمثال على القوة السياسية لألمانيا.

فدول أوروبا الوسطى تضع قيادة ألمانيا والتزامها بمصير أوروبا محل الاختبار، فبولندا تقلدت رئاسة الاتحاد الأوروبي في الأول من يوليو وجعلت من مبادرتها الأولى هو التزامها بزيادة التمويل للدول الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التعاون الدفاعي الأوروبي، وكلا المبادرتين تعدان اختبارًا لألمانيا وعرضًا لها في الوقت ذاته لإلغاء الاتجاه إلى أقلمة أوروبا من النواحي الأمنية. فإذا رفضت برلين إعطاء مزيد من الأموال إلى الدول الأعضاء الجدد بالاتحاد الأوروبي، فإن تماسك سياسة التمويل الأوروبي برمتها سوف تكون على المحك، وقد بلغت 177 مليار يورو في ميزانية الفترة من 2007 حتى 2013، وإذا ما رفضت ألمانيا زيادة الترتيبات الأمنية والدفاعية لأوروبا الكبرى، فإن وارسو وبراغ وعواصم أوروبا الوسطى الأخرى سيكون ردهم جاهزًا، ولكن السؤال هو إذا كانت ألمانيا جادة بالفعل بشأن قيامها بدور قائدة أوروبا وأن تدفع ثمن الهيمنة لأوروبا الموحدة أم لا، وهذا لن يعني فقط مزيدًا من الإعانات المالية، ولكن أيضًا الوقوف أمام روسيا. ولكن إذا وضعت علاقتها مع روسيا فوق تحالفها مع دول أوروبا الوسطى، فسيكون من الصعب على تلك الدول اتباع ألمانيا في سياساتها، وهذا سيعني البدء الفعلي في بناء هيكلية النظام الأمني الإقليمي داخل أوروبا بمجموعة فايسيجراد والمجموعات القتالية الشمالية ولدول البلطيق، وسيعني ذلك أيضًا أن دول وسط أوروبا سوف تجد طرقًا جديدة من أجل إعادة الوجود الأمريكي للمنطقة من أجل الضمانات الأمنية.

إن مفهوم الأمن الجماعي يتطلب من الدول أن تفهم أنهم يتقاسمون المصير ذاته، فالولايات الأمريكية فهمت ذلك بنهاية القرن الثامن عشر، وهذا هو السبب في أنهم تخلوا عن استقلالهم كولايات متفرقة، ووضعوا الولايات المتحدة في الطريق الصحيح نحو أن تصبح دولة عظمى، والأوروبيون، على الأقل في الوقت الراهن، لا يرون هذا الموقف (أو العالم) بنفس الطريقة، فالإعانات المالية لا يتم بذلها لأن اليونان تشارك ألمانيا المصير ذاته ولكن لأن المصرفيين الألمان يشاركون المصير ذاته لدافعي الضرائب الألمان، وهذا مؤشر على أن الاندماج تقدم إلى الحد الذي تشارك فيه الجميع المصير الاقتصادي فقط، ولكن ذلك ليس كافيًا من أجل بناء اتحاد سياسي.

إن إعانة اليونان ماليًا يرى على أنه إهانة لدافعي الضرائب الألمان، بالرغم من أن دافعي الضرائب الألمان ذاتهم استفادوا بصورة كبيرة من إنشاء منطقة اليورو، والحكومة الألمانية تفهم مزايا الحفاظ على منطقة اليورو، وهذا هو السبب في أنها تستمر في دفع الإعانات لدول الأطراف، ولكن هناك مناظرات على مستوى ألمانيا لتوضيح هذا المنطق للشعب الألماني، فألمانيا لا تزال تنتظر مناقشة مفتوحة مع ذاتها بشأن دورها ومستقبلها، وبخاصة ما الثمن الذي ترغب في دفعه لهيمنتها الإقليمية ودورها في عالم يتحول سريعًا إلى عالم تسيطر عليه القوى القادرة على تسخير مصادر قارات بأكملها.

فبدون فهم رصين ومتماسك داخل أوروبا بأن دولها كلها تتشارك في المصير ذاته، فإن فرص تحول أزمة الديون اليونانية إلى مثل "ثورة شايز" التي وحدت الأمريكيين سوف تصبح ضعيفة للغاية، فبدلاً من إنشاء الولايات المتحدة الأوروبية فإن مصيرها سوف يكون التقسيم المستمر حول الاهتمامات الإقليمية داخل القارة العجوز.

وفي النهاية فإن تجربة الاندماج الأوروبية تعد مثالاً لنماذج الاندماج الاقتصادي الناجحة، بالرغم من فشلها في التطور حتى الآن في التحول إلى اندماج سياسي وعسكري، إلا أنها تظل تمثل نموذجًا للدول العربية في إقامة وحدتها المنشودة، فالاتحاد الأوروبي بدأ في الأساس كمنظمة اقتصادية للحديد والفحم ومن أجل مواجهة الأطماع الألمانية في إعادة ظهورها بعد الحرب العالمية الثانية وتسليح نفسها، ولكن تلك المنظمة تطورت لتصبح كيانًا كبيرًا ضم إليه جميع دول أوروبا، وأصبح له عملته الموحدة وكيانه المعترف به دوليًا، وقد يكون مجلس التعاون الخليجي هو المنظمة التي يمكن أن تجمع الدول العربية لإنشاء تجمع أكبر لجميع دول المنطقة، بتغيير اسمها كما تغيرت منظمة الحديد والفحم الأوروبية التي انبثق منها الاتحاد الأوروبي، فمجلس التعاون الخليجي اليوم يبحث ضم دول مثل المغرب والأردن بل ومصر أيضًا، وهو الاقتراح الذي تقدمت به البحرين، وللعرب جميعًا أن ينظروا إلى التجربة الأوروبية بسلبياتها وإيجابيتها كنموذج لعملية الاندماج العربية المقبلة.

 

 

- دولة أوربا المقسمة (1/3)

- دولة أوربا المقسمة (2/3)

- دولة أوربا المقسمة (3/3)

أعلى