• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأخوة الإيمانية

الأخوة الإيمانية

من الأهمية بمكان أن يبدأ الإنسان بنفسه وقدر استطاعته في إبراء ذمته ،وتخليص رقبته ، والقيام لله - تعالى - بحقِّه ، وتوفية الحقوق لأصحابها في الزمان والمكان اللذين هو فيهما ، دون تلكؤ أو تباطؤ ؛ فالرويَّة في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة .

فلا يكفي أن يعرف الإنسان قيمة الأخوة الإيمانية وقدر الوحدة الإسلامية ثم هو لا يتحرك في الاتجاه الذي يحقِّق هذا المطلب الشرعي ، ويكتفي بمطالبة الآخرين ؛ فضلاً عن أن يكون معول هدم لصرح الوحدة ولمعنى الأخوة ، وهو ما يفرغها من محتواها ، وتصبح عبارة عن شعارات وهتافات لا واقع لها ولا رصيد .

رأى أحد العلماء أخاً له يجمع مسائل العلم ولا يعمل بها فقال : « يا هذا ! إذا أفنيتَ عمرك في طلب السلاح فمتى تقاتل به ؟ » .

وقالوا : « العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل » .

السلوك مرآة الفكر : لا يكفي أن نتعرَّف إلى معاني العقيدة ومسائل الأخلاق دون عمل بمقتضاها بحيث تصبح سلوكاً وصبغة .

قد نحفظ ما جاء في « معارج القبول » و « شرح الطحاوية » و « العقيدة الواسطية » ، ولكن نحن أحوج إلى ترجمته إلى توحيد عملي سلوكي ، وكذلك الأمر بالنسبة لمعنى الأخوة الإيمانية والوحدة ؛ فلا يكفي أن نردِّد هذه المصطلحات دون العمل بمقتضاها .

لا بدَّ من منهج إيماني لتحقيق معاني الأخوة والاتحاد ، وأن تتحقق بمثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم ؛ فهذا هو المنهج الذي رضي به ربنا ، ويلتئم به شملنا ، وتتوحَّد به كلمتنا ، ونكون به يداً واحدة على عدوِّ الله وعدوِّنا ، بعكس ما لو تعدَّدت مذاهبنا واختلفت فرقنا وطرائقنا وعقائدنا ؛ فهذا شيعي ، والثاني صوفي ، والثالث معتزلي .. وهذا ينادي بالاشتراكية ، وذاك ينادي بالديمقراطية .. وهذا يفتخر بالوطنية ، والآخر بالقومية ...

لقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ؛ كلها في النار إلا من كان على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، وأوضح أنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرين على الحق لا يضرُّهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، فكن واحداً من هؤلاء الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال الجاهلين وتأويل المبطلين .

لقد كان الخوارج نقمة على هذه الأمة في الوقت الذي كانت تواجه فيه فارس والروم ، وقد قاتلهم علي - رضي الله عنه - وقال عندما رآهم صرعى : « بؤساً لكم قد ضرَّكم مَنْ غرَّكم ، قالوا : ومن غرَّهم يا أمير المؤمنين ؟ ! قال : الشيطان وأنفسٌ أمَّارةٌ بالسوء سوَّلت لهم المعاصي ونبَّأتهم أنهم ظاهرون » .

وتعلمون فعل الصوفية بشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وفتح الشيعة أبواب بغداد لهولاكو ؛ فالوحدة مع أمثال هؤلاء مآلها إلى فُرْقة ، والتكثُّر بهم ضعف .

نعم ! بعض الشر أهون من بعض ، ولكن أنت في السعة ، ولا بدَّ من الأخذ بأسباب القوة الحقيقية والتركيز على دعوة التوحيد ؛ فكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة ، ووحدة الفكر قبل وحدة العمل ، ونظرة سريعة إلى أحوال أفغانستان بعد قتال الروس تذكِّرك بقيمة ما نقول ، والشواهد كثيرة .

قال - تعالى - : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ( الأنعام : 1 ) .

فالظلمات جمع ظلمة ، والنور مفرد ، والباطل كثير لا ينحصر ، وما الحق إلا واحد ، فاعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف من أتاه ، واسلك طريق الهدى ولا يضرُّك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ، ولا تغتر بكثرة الهالكين .

واعلم أن كل خير في اتِّباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف ، وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناًً ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، ولا تلتفت إلى من يعدُّ غرس العقيدة والتركيز على معاني الإيمان يفرِّق الأمة ويشتِّت جمعها ؛ فالناس إن لم يجمعهم الحق شعَّبهم الباطل ، وإن لم توحِّدهم عبادة الله مزَّقتهم عبادة الشيطان ، وإن لم يستهوِهم نعيم الآخرة تناطحوا على متاع الدنيا الزائل .

قال - تعالى - : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ } ( النساء : 84 ) .

وأنت لا تطالَب أن تكون كالشمعة تنير لغيرك الطريق وتحترق أنت ، بل سعيك لرأب الصدع وتحقيق معنى الأخوة إنما هو بمنزلة طلب طاعة لنجاة النفس وسعادتها في العاجل والآجل ، ونحن لا ننشد وحدة بخسارة الآخرة ، فلا تعطِ الناس رخصاً من جيبك الخاص ، ولا تجعل الحرام حلالاً لتكثير العدد ، ولا تتتبَّع زلات العلماء لتأليف القلوب ؛ فالغاية لا تبرِّر الوسيلة ، ومن تتبَّع رخص المذاهب تجمَّع

فيه الشر كله ؛ فكيف بمن تتبَّع زلات العلماء ؟ ! وأنت على ثغر من ثغور الإسلام ؛ فاحذر أن يُؤتَى الإسلام من قِبَلك ، والأخوة والوحدة لا تتمَّان بمجرد الكلام ، بل لا بدَّ من عمل وسلوك ، والدعوة بالسلوك أبلغ من الدعوة بالقول ، وترك كل واحد منا للبدع والمعاصي مما يعين على تحقيق هذه المطالب الكبيرة ؛ فواحد في الجيش يفسد تدبيره ؛ فكيف بألف ؟ ! والثقب في قعر السفينة يساوي قبراً في قعر المحيط ، وعدم تسوية الصفوف في الصلاة يترتَّب عليه اختلاف القلوب والوجوه ؛ فكيف يُستهان بعقيدة تخالف أهل السنة والجماعة ؟ ! قال - تعالى - : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ( آل عمران : 106 ) .

قال العلماء : « تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسودُّ وجوه أهل البدعة والافتراق » .

قال بعض العلماء : « ما تفرَّق اثنان إلا بذنب أحدثه أحدهما »[1] ، فقل : أنا ذلك العبد المذنب المسيء لأخي ، واللهِ أنا كنت أظلم .

كان الإمام الشافعي - رحمه الله - قد اختلف مع بعض إخوانه ؛ فلقيه في الطريق فأخذ بيده وقال : أما يليق وإن اختلفنا أن نبقى إخواناً ؟ وقال : « ما ناظرتُ أحداً إلا وأحببتُ أن يجري الحق على لسانه » ، وقال : « معي صواب يحتمل الخطأ ، ومع خصمي خطأ يحتمل الصواب » .

يا ليتك وأنت تسعى لتوحيد كلمة المسلمين أن تفرِّق بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه ، وما كل خلاف جاء معتبراً ؛ فهناك خلاف لا يفسد وُدّاً ؛ كالخلاف في قصر الصلاة في السفر .

وأما خلافنا مع الشيعة في سبِّ الصحابة وقولهم بعصمة الأئمة ، ومع الخوارج في التكفير بالكبيرة ، ومع الصوفية في صرف العبادة للمقبور ، ومع المرجئة في تأخير العمل ، ومع المعتزلة في تقديم العقل على النقل ؛ فهذا الخلاف غير منجبر .

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : « نعم ! من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافاً لا يعذر فيه ؛ فهذا يُعامَل بما يُعامَل به أهل البدع » .

وقد كان أبو بكر و عمر - رضي الله عنهما - يتناظران في المسألة لا يقصدان إلا الخير .

واختلفت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - مع معاوية - رضي الله عنه - في : هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة أُسري به ، أم لا ؟ واختلف قول الإمام أحمد مع الشافعي - رحمهما الله - في تكفير تارك الصلاة تكاسلاً ، حدث ذلك مع بقاء الأخوة الإيمانية ، فإذا كان كلما اختلف مسلمان في مسألة تقاطعا وتدابرا لم تبقَ أخوة إيمانية ؛ ففرِّق بين ما يسوغ وما لا يسوغ الخلاف فيه ، واجعل القطيعة والهجر طلباً للعلاج لا للبتر ولا للإهلاك ، فلا تزدْ في الكيفية أو الكمية فتُهلك صاحبك .

وقد كان من مذهب عمر و أبي الدرداء - رضي الله عنهما - و إبراهيم النخعي - رحمه الله - أنك لا تهجر أخاك عند المعصية ؛فإن الأخ يَعْوَجُّ مرة ويستقيم أخرى ، نحن لا نتعامل مع ملائكة أولي أجنحة مَثنى وثُلاث ورُباع .

ولذلك كان لا بدَّ من كظم الغيظ والعفو عن الناس واحتمال زلات الإخوان وأن تأتي لهم ما تحب أن يأتوك به .

قيل للفضيل : « ما الفتوة ؟ قال : الصفح عن عثرات الإخوان » .

ومن صدق في أخوة أخيه قَبِل عِلَلَه ، وسدَّ خلله ، وغفر زلـله .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « أَحَبُّ إخواني إليِّ أخٌ إن غبت عنه عذرني ، وإن جئته قَبِلني » .

واعلم أن الأخوة الخاصة لا تمنع من الأخوة العامة ؛ فَرُدَّ السلام ، وشمِّتِ العاطس ، وعُدِ المريض ، واتبعِ الجنازة ، وابذلِ النصيحة لأهلها ، وكن على بصيرة من أمرك وأمر الناس .

واعلم أنه لن يتأتَّى لك ذلك إلا بعلم وعمل ودعوة إلى الله تعالى ، فتعلم ما تؤدي به الحقوق لأصحابها وتكون به على تقوى لله في السر والعلن ، والغضب والرضا .

تعرَّف إلى قيمة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية والأصول والضوابط التي تحقق ذلك ؛ حتى لا تصبح المسائل عبارة عن مجرد حماسة أو عاطفة ، وتابِعِ العلم النافع بعمل صالح ؛ فالسلوك مرآة الفكر ، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل .

قال عمر - رضي الله عنه - : « إذا رزقك الله مودة امرئ فتشبَّث بها » وركِّز في دعوتك على بوابات الخير ومن جملتها معنى الأخوة .

تأبى الرماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّراً      وإذا افترقْنَ تكسَّرتْ آحادا

والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ،والإنسان بإخوانه كثير وبنفسه قليل وإن كان عبقرياً .

لا بدَّ من تذكرة النفس بالسنن الشرعية والسنن الكونية ؛ فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ، وبين الأوس والخزرج ، كما آخى بين كل اثنين كمعاذ بن جبل و ابن مسعود - رضي الله عنهما - و سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما .

وأنت ترى النمل والنحل يعملان عمل الفريق ، ونحن لا نستخلص العسل من الملكات ، فإن وُضِعْتَ في المقدمة أو المؤخرة فلا تأبه ، وتعامل مع الله - عز وجل - وأحسن المسير إليه سبحانه وتعالى .

ومن نظر إلى أنه مكلَّف ، وأن الخطاب يتوجَّه إليه قبل غيره ؛ سعى لإقامة الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية ؛ سواء سارع الآخرون في ذلك أو قصَّروا ؛ فكل امرئ بما كسب رهين ، وهذه الطاعة سالمة عن كل معارضة ؛ فإن لم تكن بانياً لقلاع الأخوة فلا تكن هادماً لها ، وإن لم تكن لبنة عاملة في صرح بناء الوحدة الإسلامية فلا أقل من دعوات صالحات عسى ربنا أن يؤلِّف بين قلوبنا ، ويوحِّد صفوفنا ، ويجعل بأسنا على عدوِّه وعدوِّنا .

فارفع أكفَّ الضراعة ، وتَحَيَّن أوقات الإجابة ، وألِحَّ على الله بالطلب ولا تعجل ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : « إني لا أحمل همَّ الإجابة ، ولكن أحمل همَّ الدعاء ؛ فإن العبد إذا أُلهم الدعاء فإن الإجابة معه » ، { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ( غافر : 60 ) .

إن دورك عظيم في تحقيق معنى الأخوة الإيمانية ؛ فتحمَّل الأمانة وأدِّ الرسالة واستعن بالله ولا تعجز ، وقل : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ( طه : 84 ) .

وفَّقك الله ، وأعانك على فعل الخيرات وترك المنكرات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .




(1) بل صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي نفسي بيده ! ما توادَّ اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما » أخرجه أحمد ، وصححه الألباني .

 

 

 

أعلى