أوصاف القرآن الكريم {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}
الحمد لله الرحيم الرحمن {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 2 - 4] نحمده فهو الكبير المتعال، الكريم المنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أمر عباده بالإيمان وصالح الأعمال، ووعدهم عليه أوفى الجزاء، والصيام صبر، والعمل في شهر الصبر ليس كالعمل في غيره {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ «كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا فيما بقي من الشهر الكريم؛ فقد ذهب شطره وبقي شطره؛ فمن عمل صالحا فيما مضى فليحمد الله تعالى على توفيقه، ولا يستكثر عمله، وليصبر النفس على ما بقي من الشهر؛ فإن ما بقي أفضل مما مضى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6- 7]، وليحذر من الرياء والعجب فإنهما يحبطان العمل. ومن كان مفرطا فليتب من تفريطه، وليتدارك ما فاته فيما بقي من شهره، وليختمه بخير فإن الأعمال بالخواتيم، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
أيها الناس: أنزل الله تعالى القرآن حياة للقلوب، وشفاء لما في الصدور، وهداية للمؤمنين، وأنسا للمتهجدين، وعلما للمتدبرين، وبشرى للمسلمين.
وللقرآن أوصاف كثيرة عظيمة دلت عليها آياته؛ فهو موصوف بالمجد، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، وفي آية أخرى قال الله تعالى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22]. والمجد يطلق على الرفعة والشرف والهيمنة والسلطان والكرم ونحوها من المعاني الفخمة الكبيرة. ومعناه: واسع الصفات عظيمها،كثير النعوت كريمها، والرب سبحانه موصوف بأنه مجيد، ويرجع ذلك إلى عظمة أوصافه وكثرتها وسعتها، وإلى عظمة ملكه وسلطانه، وإلى تفرده بالكمال المطلق، والجلال المطلق، والجمال المطلق، الذي لا يمكن للعباد أن يحيطوا بشيء منه.
ومجد القرآن من مجد الله تعالى؛ فالقرآن كلامه، وكلامه سبحانه صفة من صفاته عز وجل، والله تعالى موصوف بالمجد في القرآن؛ كما في قوله سبحانه {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73] وفي آية أخرى {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 14- 15]. وَإِذَا قَرأ المصلي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ الله تعالى «مَجَّدَنِي عَبْدِي»، وفي الرفع من الركوع يصف الله تعالى فيقول: «أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ». ويختم الصلاة الإبراهيمية في التشهد فيقول: «إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
ومن مجد القرآن المجيد: أنه كلام الله تعالى، ولا مجد لكلام غيره كمجده، ولا شرف له كشرف القرآن. فمن تلاه فإنما يتلو كلام المجيد سبحانه وتعالى، ويناجيه بكلامه.
ومن مجد القرآن المجيد: أنه مملوء بتعريف المؤمنين بالله تعالى وبما يرضيه، وهذا أعظم المجد وأعلاه؛ لأنه متعلق بأشرف العلوم والمعارف وأنفعها، وهو معرفة الله تعالى ومعرفة الطريق الموصلة إليه.
ومن مجد القرآن المجيد: بقاؤه إلى آخر الزمان، وحفظه من الضياع والتبديل والتغيير والتحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وليس ذلك لكتاب غيره؛ فإن الكتب الأخرى تضيع وتبدل وتحرف، ويختلف الناس فيها.
ومن مجد القرآن المجيد: أنه أكثر الكتب شهرة ومعرفة في الأرض، ولا يكاد أحد لا يعرف القرآن إلا من عاش في الغابات والأدغال والكهوف، أو اعتزل الناس والإذاعات والفضائيات ووسائل التواصل الجماعي؛ وذلك أن القرآن أكثر كتاب يقرأ ويسمع في الأرض؛ فهو يقرأ في الصلاة، ويتعبد بتلاوته، ومئات الملايين من المسلمين يقرؤون آياته كل يوم، وهو كذلك أكثر كتاب يسمع في الأرض، وأكثر كتاب يحفظ عن ظهر قلب {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. ولنا أن نتخيل كم من الناس يستمعون إليه كل يوم في الصلوات الجهرية وفي صلاة التراويح، وكم من البشر يسمعونه عبر الإذاعات والفضائيات وكافة البرامج المرئية والمسموعة؛ حتى إن كفارا أسلموا بسبب سماع القرآن، ومنهم من لم يسلموا لكنهم يستمعون إليه ويتأثرون لسماعه ويبكون، ومنهم من يحفظ آيات وسور منه. فهل بلغ كلام آخر غير القرآن هذا المجد والشرف والشهرة في الأرض؟! كلا.. ولا يدانيه.
ومن مجد القرآن المجيد: أن سلطانه عظيم؛ فهو مهيمن على ما سبقه من الكتب {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. فهو حاكم عليها، وليس محكوماً عليه؛ فما وافق القرآن منها من أخبار صُدقت، وما عارض القرآن منها من أخبار كُذبت؛ إذ هي مما حرفته الأيدي أو اخترعته. وما وافق القرآن من أحكامها أخذ به، وما عارض القرآن من أحكامها لم يؤخذ به؛ إذ قد يكون منسوخا أو مخترعا. فما وجد من آثار النبوات السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها تابع له، وهو حاكم عليها، وهذا من شرف القرآن ومجده.
ومن مجد القرآن المجيد: أن أخباره موثوقة، فلا يتطرق إليها الشك بحال من الأحوال {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وشرف الخبر في صدقه ومصدره، وكذلك أحكام القرآن نافذة، سواء كانت أحكاما قدرية فهي واقعة لا محالة {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] أو كانت أحكاما شرعية فهي من مجد القرآن وشرفه؛ لأنها حق وعدل ونفع للبشر؛ فهي من عند الله تعالى. وهو كذلك كتاب محكم، ليس فيه تناقض ولا اختلاف البتة {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، والكلام يكتسب الشرف والقبول بكونه صدقا وحقا وعدلا ومحكما {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
ومن مجد القرآن المجيد: أنه يمنح المجد والشرف لأهله، فحفاظه لهم شرف الدنيا بالتقديم في الإمامة والنكاح والدفن وغيرها، والمشتغلون بعلومه ومعانيه يؤب الناس إليهم في أمور دينهم تفقها وسؤالا واستفتاء؛ وهذا من أعظم المجد والشرف؛ ويكفيهم مجدا وشرفا أنهم أهل الله تعالى كما جاء في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ» رواه ابن ماجه. وفي حديث آخر قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» رواه مسلم.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا حفظ القرآن وتلاوته وتدبره والعمل به، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2- 3].
أيها المسلمون: حري بالمؤمن وهو يعلم مجد القرآن ومجد أهله أن يلزمه قراءة وحفظا وتدبرا وعملا؛ ليأخذ حظه من مجد القرآن وشرفه، وهذه الأيام هي أيام القرآن، وفيها عشر رمضان الأخيرة، وهي معظمة، وقد «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» و«كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» كما حكت ذلك عائشة رضي الله عنها. بل كان يعتكف العشر الأواخر يلتمس الليلة العظيمة التي أنزل فيها القرآن، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؛ كما جاء في حديث عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» متفق عليه.
فحري بأهل الإيمان والصيام والقرآن أن يحرصوا على سنة الاعتكاف إن فتحت المساجد، فإن لم تفتح كتب الأجر لمن كان من عادته أن يعتكف ولمن نواه فلم يقدر عليه، وأن يفرغوا أنفسهم للقرآن. فمن عجز عن الاعتكاف فلا يغلب على أن يقضي أكثر وقته مع القرآن، ولا سيما في الليل {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 4 - 6].
وصلوا وسلموا على نبيكم...