الأوبئة (القوة الربانية والضعف البشري)
الحمد لله القوي القهار، العزيز الجبار، ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن، وهو شديد المحال، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونلوذ به لوذ الخائفين، وندعوه دعاء المضطرين؛ فهو سبحانه رب العباد وخالقهم، وهو عز وجل مدبرهم وكافيهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يري عباده شيئا من قوته وقدرته؛ ليعرفهم به سبحانه، وليردهم إليه عز وجل، ويزيل بما أراهم غشاوة أبصارهم، ويلين به قسوة قلوبهم؛ فيبصروا طريقهم، ويراجعوا دينهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان دائم الخوف من الله تعالى؛ عظيم الرجاء فيه، شديد التوكل عليه، وكان إذا تخيلت السماء اشتد خوفه، وتغير لونه، وأقبل وأدبر، ودخل وخرج؛ يخشى أن يكون عذابا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا نقمته فلا تعصوه، واخشوا مكره فلا تأمنوه {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
أيها الناس: ربنا جل في علاه هو خالق الخلق ومدبرهم، وهو سبحانه يبتليهم ويعافيهم، ولو شاء سبحانه لأبدل بهم غيرهم، ولو شاء لأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهذه حقائق يقرؤها المؤمن ويسمعها في القرآن الكريم حتى استقرت في نفسه، وأيقن بها قلبه:
ففي شأن الخلق والتدبير {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40]، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5].
وفي شأن الاستبدال {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].
وفي شأن الإهلاك {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ» رواه أحمد. ولو أهلك الله تعالى البشر جميعا لما أهلكهم إلا بذنوبهم، ولكان عذابهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلمهم ربهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61].
وما يصيب بعض أقطار الأرض من كوارث كالزلازل والبراكين والفيضانات والأوبئة ونحوها فهي مسٌّ لطيف من الضرِّ يقدره الله تعالى على عباده؛ ليكون تذكرة للمؤمنين، وإنذارا للعاصين؛ رحمة من أرحم الراحمين، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].
إن البشر حين تغرهم قوتهم وعلومهم ومعارفهم، وما فتح الله تعالى لهم من دنياهم؛ يحتاجون إلى صدمة توقظهم، وتبين لهم حجمهم، فلا يتجاوزون حدودهم البشرية، ولا ينازعون الله تعالى في الربوبية.
إن فئاما من الناس يظنون أن البشر بما أوتوا من العلوم والمعارف والمخترعات قادرون على الأرض وما فيها، وأنهم أسياد الكون بلا منازع، وينسون ضعفهم وعجزهم، ويغفلون عن قدرة الله تعالى عليهم؛ فيذكرهم الله تعالى وينبههم ببعض آياته لعلهم إليه يرجعون.
ووباء(كورونا) الذي ضرب الأرض من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها؛ آية واحدة من هذه الآيات الربانية العظيمة التي يدلل بها سبحانه على قدرته وقوته، ويكشف بها عجز البشر وضعفهم؛ ويأتي ذلك في وقت قد اغتر فيه كثير من الملاحدة والماديين وضعاف الإيمان بقوة الإنسان الذي لا يقهر حسب رأيهم! وكيف يقهر حسب زعمهم وهو الذي اخترع الاتصالات، وقرب المسافات، وصنع الآلات، وزاد في الإنتاج، وحلق في الفضاء، وغاص في أعماق البحار، وفتت الذرة، واكتشف المجرة. وكيف تُقهر حضارة الإنسان حسب رأيهم وهي الحضارة التي اخترعت الإنسان الآلي ليقوم بمهام الإنسان الحقيقي، وقفزت قفزات هائلة في شتى العلوم والمعارف الدنيوية، والمكتشفات والمخترعات التي تحقق الرفاهية!! والذين اغتروا بهذا التطور البشري الهائل غرهم كذلك قوة بعض الدول ومخترعاتها ومكتشفاتها، وتقدمها في الطب والعلاج وعلم الأمراض وسائر العلوم والمعارف؛ مما يشهد به الجميع ولا ينكره أحد، ولكنه يبقى تحت علم الله تعالى وقدرته، وهو سبحانه واهب ذلك العلم لمن شاء من البشر برحمته وحكمته، وهو قادر على نزعه منهم بقوته وقدرته، وهو رغم ضخامته لا يساوي شيئا أمام قدرة الله تعالى وعلمه.
إن الحضارة المعاصرة قد خُدع كثير من الناس بقوتها وقدرتها ومعرفتها، حتى عاشوا حالة من الغرور المعرفي، والاعتداد بالعقل البشري بعيدا عن تعظيم الله تعالى، والاعتماد عليه، والخوف منه سبحانه.
لقد ظن بعض الناس أن الحضارة المعاصرة تقدر على كل شيء، ولا يردها شيء عما تريد، وهي الحضارة التي بدأت في عملية الاستنساخ الشهيرة قبل عقدين ونصف حين استنسخت نعجة من أخرى، وبشرت تلك الحضارة حينها بأنها ستطور عملية الاستنساخ لتشمل الإنسان، وتشارك الخالق سبحانه في الخلق، وقد علق على عملية الاستنساخ في حينها أحد الشعراء العرب المشاهير فقال: «ومعناه: أن العلماء بدءوا بتحدي السماء! ومعنى هذا أيضاً: أن الإنسان لم يَعُدْ له رب يؤمن به، ويركع في محرابه، ويصلي له، ويطلب رضاه وغفرانه؛ لأن المختبرات العلمية أخذت مكان الرب» وهذا الجحود للرب سبحانه، والكفران لنعمه على الخلق؛ هو الذي كان سببا في نبرة الاستعلاء والاستكبار والتحدي، نعوذ بالله تعالى من ذلك.
ومن باب الغرور المعرفي زعم بعض المنحرفين أن الطب سيصل إلى اكتشاف علاج يمنع الموت ويديم الحياة، في تكذيب صريح لآيات القرآن. وزعم بعضهم أن الدول العظمى قادرة على تحدي البحار والمحيطات والرياح والأعاصير والفيضان، وأنه لا يردها شيء عن إرادتها ما دامت تتفوق بالعلم؛ فإذا هذا الفيروس الصغير الضعيف الذي لا يرى بالعين المجردة يُظهر عجز البشر وجهلهم، ويقطع عليهم حيلتهم، حتى خافوه ورهبوا منه، وأغلقوا الحدود دون المصابين به، وعزلوهم عن الأصحاء. والأطباء والباحثون يصلون الليل بالنهار لاكتشاف لقاح له، وقد يصلون إليه بتوفيق الله تعالى لهم، لكن بعد أن بان عجز البشر وجهلهم وخوفهم وتخبطهم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وكلمات الله تعالى من علمه عز وجل، وجاء في حديث قصة موسى مع الخضر عليهما السلام قَالَ: «وَجَاءَ عُصْفُورٌ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ» رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى العفو العافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واقدروه حق قدره؛ فإنه سبحانه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، ولا ملجأ منه إلا إليه {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74].
أيها المسلمون: حادثة وباء (كورونا) ستكون من أهم الأحداث في هذا القرن، وسيحفظها التاريخ للأجيال القادمة، وتكتب بأكثر لغات البشر؛ لأنها شملت كل الدول، وأرعبت كل البشر، وشلت حركة العالم كله، وكبدت اقتصاده أكبر خسارة مالية في العصر الحديث، وسيكون لها ارتدادات كبيرة لا يعلم مداها إلا الله تعالى، تسفل بها أمم وتنهض بها أمم أخرى، وتتغير كثير من التحالفات والخرائط.
ولم يسلم من هذا الفيروس الذي لا يرى شريف ولا وضيع، ولا غني ولا فقير. جاب الدول كلها، وأصاب الأقوياء قبل الضعفاء. فمن لم يصبه مرضه أحاط به رعبه. كانت الكوارث قبل (كورونا) تضرب مدينة أو دولة فيسعفها الآخرون، أما كورونا فزار كل الدول، وأرعب الجميع، وكل دولة تقول: نفسي وشعبي أولى من غيري.. فيروس صغير هزم سبعة مليارات من البشر بدولهم وتقدمهم وحضارتهم؛ ليغرس فينا اليقين بأن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الإنسان مهما بلغ ضعيف، وأن الإنسان لن يعجز الله تعالى مهما بلغت قوته وحضارته، ولن يكشف ضره إلا ربه عز وجل {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17].
وهنا يجب أن يعترف البشر كلهم بضعفهم وعجزهم، وقدرة الله تعالى عليهم {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
هذا.. ويجب على أهل الجحود والاستكبار أن يراجعوا أنفسهم، ويثوبوا إلى رشدهم.. ويجب على قساة القلوب {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].. وعلى البشر كلهم أن يعلموا أنهم عبيد مخلوقون، ضعفاء مربوبون، لا يملكون من أمرهم شيئا إلا بإذن الله تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 25- 26].
وصلوا وسلموا على نبيكم...