• - الموافق2025/05/08م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كيف تدمر دولة؟

يقدم البروفيسور ستيفن والت في مقاله المهم هذا نقدًا جذريًا لمسار السياسة الأمريكية، خلال إدارة ترامب الثانية، موضحًا كيف تسير الولايات المتحدة في طريق قد يؤدي بها إلى تدميرها ذاتيا.



المصدر: فورين بوليسي

بقلم/ ستيفن والت - أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد

 

إذا كنت من القراء المنتظمين لمقالاتي، فأنت تعلم أنني كثيرًا ما أوجه النقد إلى ما تقوم به الولايات المتحدة على الساحة الدولية. لقد اعتبرتُ رئاسة جورج بوش الابن كارثة في السياسة الخارجية؛ أما سنوات باراك أوباما الثماني، فكانت مخيبة للآمال، في حين كانت الولاية الأولى لدونالد ترامب فوضوية إلى حدٍ لا يُصدق، أما سنوات جو بايدن الأربع فقد شابتها إخفاقات استراتيجية وأخلاقية مؤسفة. ومع ذلك، لم يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أشهر فقط ليتفوق ترامب ومعينوه الجدد على الجميع في التهور وسوء إدارة السياسة الخارجية. وهذا الحكم يظل صحيحًا حتى لو لم تحدث فضيحة "سيغنال غيت" أصلًا.

ومن المفارقات أن هذا التراجع في السياسة الخارجية لم يبدأ في اليوم الأول من ولاية بايدن، ولكن من بداية فترة ترامب الثانية فإن الأمر مختلف تماما فإن العديد من قراراته لم تكن موجهة استنادًا إلى تقديرات استراتيجية، بل بناءً على حسابات انتخابية وتوجهات شعبوية. وقد أصبح من الواضح أن الولايات المتحدة، تحت حكم ترامب، تسير في اتجاه التدمير الذاتي.

عقب نهاية الحرب الباردة، بدت الولايات المتحدة كأنها القوة العظمى الوحيدة، التي تقود النظام العالمي وفقًا لرؤاها ومصالحها. إلا أن العقود التي تلت هذا التفوق شهدت تحولات استراتيجية وسياسية واقتصادية بدأت تنال من هذا الوضع المهيمن. وجاء ترامب ليكمل الصورة بشكل مهين.

أولاً: تخريب التحالفات الدولية التحالفات التي بنتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية كحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتحالفات الثنائية مع اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا شكلت جزءًا لا يتجزأ من النظام الدولي الذي قادته. هذه التحالفات لم تكن فقط أداة لموازنة القوى، بل أيضًا وسيلة لتقاسم الأعباء الأمنية والاقتصادية. لكن إدارة ترامب تبنت خطابًا عدائيًا تجاه هذه التحالفات، واعتبرتها عبئًا اقتصاديًا على واشنطن. رفض الرئيس التزامات الحلفاء، وهدد بالانسحاب من الناتو، وطالب الدول الأعضاء بزيادة مساهماتها المالية، متجاهلاً الفوائد الاستراتيجية التي تعود على أمريكا نفسها. النتيجة: بدأت الدول الحليفة في البحث عن خيارات بديلة، وتراجعت الثقة بالقيادة الأمريكية.

 

في عهد ترامب، أصبحت السياسة الخارجية أداة سياسية داخلية بامتياز. لم تُبنَ القرارات على تقييم استراتيجي دقيق، بل على حسابات تتعلق بإرضاء القاعدة الانتخابية

ثانيًا: الانسحاب من المؤسسات والاتفاقيات الدولية اعتمدت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سياسة المشاركة الفاعلة في بناء المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي. هذه المؤسسات كرّست الدور القيادي لأمريكا، وربطت صعودها بتعزيز الاستقرار العالمي. في المقابل، شهدت إدارة ترامب انسحابات متكررة من اتفاقيات رئيسية: اتفاقية باريس للمناخ، التي اعتُبرت علامة فارقة في التعاون البيئي الدولي؛ الاتفاق النووي مع إيران، الذي كان نتيجة مفاوضات متعددة الأطراف؛ وانسحاب مؤقت من منظمة الصحة العالمية في خضم جائحة كورونا. هذه الانسحابات لم تترك فراغًا فقط، بل سمحت لقوى أخرى مثل الصين وروسيا بملء هذا الفراغ وتعزيز نفوذها.

ثالثًا: تقويض الديمقراطية وحقوق الإنسان الولايات المتحدة لطالما قدمت نفسها كمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، واعتبرت هذه القيم جزءًا من هويتها العالمية. لكن ترامب اتخذ مواقف متساهلة بل أحيانًا متواطئة تجاه أنظمة استبدادية في روسيا، والمجر، والسعودية، وغيرها. كما لم يُظهر اهتمامًا واضحًا بانتهاكات حقوق الإنسان في الصين أو الشرق الأوسط، ما أضعف الحجة الأخلاقية الأمريكية. الأخطر من ذلك أن ترامب شكك في نزاهة الانتخابات داخل بلاده، وأيّد نظريات مؤامرة، مما أثار القلق بشأن حالة الديمقراطية الأمريكية نفسها.

رابعًا: تسييس السياسة الخارجية في عهد ترامب، أصبحت السياسة الخارجية أداة سياسية داخلية بامتياز. لم تُبنَ القرارات على تقييم استراتيجي دقيق، بل على حسابات تتعلق بإرضاء القاعدة الانتخابية أو تحقيق انتصارات إعلامية. مثال على ذلك، علاقته المتذبذبة مع كوريا الشمالية: من التهديد بالتدمير الكامل، إلى لقاءات ودية مع كيم جونغ أون دون تحقيق أي نتائج ملموسة. أو في حالة الصين، حيث تبنت الإدارة خطابًا عدائيًا أحيانًا، وتجاريًا انتقائيًا أحيانًا أخرى، دون استراتيجية واضحة الملامح. هذا التذبذب أضعف القدرة على تحقيق أهداف مستدامة.

خامسًا: إضعاف الجهاز الدبلوماسي تعد وزارة الخارجية الأمريكية العمود الفقري للسياسة الخارجية، بما تضمه من كفاءات وخبرات تراكمت لعقود. غير أن إدارة ترامب همّشت هذه المؤسسة، وجرى تعيين سفراء لأسباب سياسية لا مهنية، كما أُقصي دبلوماسيون بارزون بسبب اختلافهم في الرأي. التعيينات في المناصب العليا كانت تميل للولاء الشخصي لا الكفاءة، وأدى ذلك إلى نزيف في الكوادر وارتباك في الأداء، مما انعكس سلبًا على صورة أمريكا الدولية.

الحقيقة أن القوى العظمى لا تسقط بالضرورة بسبب غزو عسكري أو أزمة مالية مفاجئة، بل قد تبدأ بالتآكل من الداخل بسبب قرارات سيئة وتخلي عن القيم التي بنت عليها قوتها. اليوم، تبدو الولايات المتحدة في مفترق طرق: إما أن تستعيد موقعها عبر إصلاح سياساتها وإعادة بناء ثقة العالم بها، أو أن تستمر في مسار التراجع الذاتي. إن تدمير الدول لا يتم فقط بالسلاح، بل أيضًا بسوء الحكم، وانعدام الرؤية، وانقسام الداخل، وتضاؤل المصداقية الخارجية. ولذلك، فإن أكبر تهديد يواجه أمريكا اليوم قد لا يكون من خصم خارجي، بل من داخل البيت الأبيض نفسه.

أعلى