إذا كانت العداوة للمؤمنين متأصلة في قلوب الكفار الوثنيين وفي قلوب أهل الكتاب؛ كما جاء في القرآن في آيات كثيرة، وكما دلت عليه أحداث التاريخ الماضي والواقع المعاصر؛ فإن عداوة المنافقين في هذه الأمة لا تقل عن عداوة المشركين وأهل الكتاب
الحمد لله الخلاق العليم؛ خلق البشر وهو أعلم بهم، وإليه مرجعهم ومعادهم، وعليه حسابهم وجزاؤهم، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الإنسان وهو أعلم بوصفه ومكنونه وعاقبته، ولا يجاوز الإنسان ما أخبر عنه ربه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ جاء بالحنيفية السمحة، وأمر بالعفو والرحمة، ودعا إلى القوة والعزة؛ فكان إمام الحنفاء، وسيد الرحماء، ومُقَدَمَ الأقوياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بدينكم فإنه الحق من ربكم، ولا يستزلكم الشيطان فإنه عدو لكم، ولا تغتروا بزينة الدنيا فليست مقركم، واعملوا للآخرة فإنها داركم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 5-6].
أيها الناس: من أصول اعتقاد المؤمن إيمانه بعداوة الكفار والمنافقين للمؤمنين؛ وذلك لأن الولاء والبراء يبنى عليها، وهي عداوة أزلية أبدية:
أما كونها أزلية: فإن الكفار من كل الأمم، وعلى مر الأزمان؛ نابذوا الرسل وأتباعهم، ووصفوهم بأبشع الأوصاف، وحاربوهم أشد محاربة، فأولهم نوح عليه السلام سخر قومه منه، ورموه بالضلال، وهددوه بالرجم ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء: 116]. ولما أغرقهم الله تعالى شفع نوح لابنه، فلم يقبل الله تعالى شفاعته فيه؛ لأنه مات على الكفر والعداء لله تعالى ﴿قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود: 46]، فانصاع نوح وانقاد لأمر الله تعالى. ووصفوا هودا عليه السلام بالسفاهة، وبالغوا في تكذيبه حتى أهلكهم الله تعالى ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [هود: 59]. وتحالفوا على قتل صالح عليه السلام ﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ [النمل: 49]، وهددوا شعيبا بتشريده من بلده ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الأعراف: 88]، وكادوا أن يرجموه حتى الموت فقالوا: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: 91]. وقال فرعون للمؤمنين ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف: 124]، وفعل ما هددهم به وهم ثابتون صابرون.
والكفار من بني إسرائيل قتلوا الأنبياء عليهم السلام، وآذوا موسى عليه السلام أذى شديدا وعيروه واتهموه كذبا وزورا ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: 5]، ولما أوذي النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فصبر» رواه الشيخان. وحالوا قتل عيسى عليه السلام فرفعه الله تعالى إليه. وحرقوا المؤمنين برسالة عيسى عليه السلام في الأخدود وهم أحياء، وطاردوا المؤمنين برسالته في كل مكان.
ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كذبه المشركون وآذوه، وعذبوا أصحابه رضي الله عنهم، وقتلوا عددا منهم؛ كما عذبوا بلالا وخبابا، وماتت سمية وزوجها ياسر تحت التعذيب، وسخروا من النبي صلى الله عليه وسلم، ووصموه بالجنون، واتهموه بالسحر والكهانة، وضربوه فأدموه، وخنقوه حتى كاد أن يموت، وتآمروا على قتله فنجاه الله تعالى منهم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].
وكذلك كذبه اليهود وآذوه مع علمهم بصدقه ونبوته كما بشرت به كتبهم، وأخبر الله تعالى عن موقفهم هذا في عدد من الآيات فقال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 89]، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]. ولذا حاول بنو النضير قتله فنجاه الله تعالى منهم، فأجلاهم من المدينة. ونقضت بنو قينقاع وقريظة العهد معه صلى الله عليه وسلم، ووضع السم له يهود خيبر، فمات من أثره بعد سنوات أربع من الألم، هو بآبائنا وأمهاتنا عليه الصلاة والسلام. فهذه عداوة المشركين وأهل الكتاب لأهل الإسلام منذ الأزل، ومع كل الرسل وأتباعهم.
وأما بقاء عداوتهم الأبدية فقد أخبر الله تعالى عنها في القرآن، وهو سبحانه خالق البشر، وهو أعلم بما في صدورهم؛ فقال سبحانه ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101]، وفي كفار أهل الكتاب قال سبحانه ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة: 109]، وقال سبحانه ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]، سواء كانت ملتهم المحرفة، أم كانت ملتهم المخترعة، وهي المذاهب المادية الإلحادية التي دانوا بها في نهضتهم الحديثة. وفي اليهود والمشركين بخصوصهم قال الله تعالى ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ﴾ [المائدة: 82].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131- 132].
أيها المسلمون: إذا كانت العداوة للمؤمنين متأصلة في قلوب الكفار الوثنيين وفي قلوب أهل الكتاب؛ كما جاء في القرآن في آيات كثيرة، وكما دلت عليه أحداث التاريخ الماضي والواقع المعاصر؛ فإن عداوة المنافقين في هذه الأمة لا تقل عن عداوة المشركين وأهل الكتاب. فهم قوم يظهرون النصح للمسلمين، وقلوبهم مع أعدائهم. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تكشف ما في قلوبهم من الغيظ على المؤمنين، والكيد لهم، والوقوف مع أعدائهم، قال الله تعالى ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ [آل عمران: 119-120]، وقال تعالى ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران: 167].
وغاية المنافقين في الكيد لأهل الإسلام هي غاية المشركين وأهل الكتاب، وهي إخراج المسلمين من دينهم، والقضاء على الإسلام جملة وتفصيلا؛ كما قال تعالى ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء: 89].
وحذر سبحانه وتعالى من المنافقين فأنزل سورة باسمهم، بين فيها جملة من صفاتهم وأقولهم، وكشف فيها شيئا مما تكنه صدورهم على أهل الإسلام، وحذر المؤمنين منهم فقال سبحانه ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [المنافقون: 4]. فمن نفى عداوة الكفار والمنافقين للمؤمنين فهو يكذب بآيات القرآن، ويخدع أهل الإيمان، ويخالف حقيقتهم في الماضي والحاضر. وهذا يستوجب الحذر منه ومن أهل الكفر والنفاق؛ لأنهم يضمرون الشر لأهل الإيمان. ﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [التوبة: 8].
وصلوا وسلموا على نبيكم...