عندما جاء الرد الإيراني!

ما هي الأهداف الحقيقية للرد الإيراني الذي جاء في توقيت معلن للجميع؟ وما هي السيناريوهات المتوقعة للرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانية؟ وكيف ستتعامل الولايات المتحدة في حال تخطت تلك المناوشات الخطوط الحمر؟


أخيرًا بعد طول انتظار جاء الرد الإيراني، فمنذ قصف الصهاينة القنصلية في سوريا منذ ما يقرب من عشرة أيام، ووسائل الإعلام في الغرب، أو في داخل الكيان الصهيوني تنتظر هذا الرد وتتساءل عن طبيعته وحجمه.

واستمرارًا للمشهد جاء الإعلان الأمريكي الرسمي المسبق عن موعد الضربة في الليلة نفسها. والتي تمت فيها.

وفوجئ العالم في اللحظات الأخيرة قبل الضربة، بإعلان الحرس الثوري بأن الخطة المركبة للضربة سوف تكون بمسيرات تتبعها صواريخ باليستية، فالإعلان الإيراني عن إطلاق الصواريخ سبق إطلاقها بالفعل.

وفي لحظة انطلاق الصواريخ والمسيرات الإيرانية من قواعدها، خرج المتحدث باسم الجيش الصهيوني ليعلن بدء الهجوم الإيراني، وإن الكيان وحلفاءه في انتظار وصول المسيرات والصواريخ الإيرانية.

وفي أثناء ذلك تابع العالم على شاشات التلفاز مرور الصواريخ والمسيرات في أجواء الدول المجاورة.

ويتناقل الطرفان صورًا لمجلس الحرب الصهيوني، ثم نظيره الإيراني، أثناء انعقادهما في مخابئهما، ثم تنقل الشاشات تصدي الطائرات ومنظومات الدفاع الجوي لتلك الهجمات في مشهد سينمائي بامتياز.

ليخرج المتحدث باسم الجيش الصهيوني ويعلن نجاح الجيش الصهيوني بمساعدة من حلفائه في الغرب ودول الجوار في التصدي وإسقاط تلك الأجسام المهاجمة بنسبة ٩٩٪، وقال إن الهجوم الايراني شمل 350 عملية إطلاق فيها 60 طنا من الرؤوس الحربية، ولم يخترق سوى عدد قليل من الصواريخ أجوائنا كما وصف المتحدث، نتج عنها تعرض قاعدة نفاتيم الجوية لأضرار طفيفة بالبنية التحتية ولم يتأثر عملها.

وبعد عدة ساعات على إعلان بدء الهجوم، أعلنت بعثة إيران في الأمم المتحدة انتهاء الرد العسكري الإيراني

وأنها أنجزت الرد المطلوب، وأنها ستكتفي بذلك إلا إذا قام الصهاينة بالهجوم على إيران.

 

فمثلاً كانت قواعد الاشتباك بين حزب الله والكيان الصهيوني، أن منطقة المناوشات بينهما لا تتعدى في بداية الأمر ضمن نطاق 5 كيلومترات ثم زادت إلى 8، وصولاً إلى 20 كيلومترًا، ولا يزال ضمن هذا المدى الجغرافي.

بينما خرج قائد هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء علي باقري بتصريح يقول فيه إن بلاده نفذت عملية الوعد الصادق بنجاح، موضحًا أن هدف العملية هو استهداف القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرات الإسرائيلية التي اعتدت على القنصلية الإيرانية في دمشق.

ولكن ما كاد غبار سقوط الطائرات المسيرة ينقشع، حتى انشغلت وسائل الإعلام بالتصريحات الصادرة عن قادة الكيان هل سيتم رد صهيوني على الرد الإيراني الذي هو أصلاً كان ردًا على قصف صهيوني للقنصلية الإيرانية في دمشق.

وبعده سينشغل العالم بطبيعة الرد الإيراني على معاودة الرد الصهيوني، وهكذا على ما يبدو سيكون مسلسلاً طويلاً متعدد الحلقات.

وهنا تُثار عدة أسئلة:

أولاً هل هذا المسلسل من الهجمات المتبادلة بين كل من الكيان الصهيوني والإيراني هو مسرحية تم الاتفاق عليها؟ أم هو صراع حقيقي ولكن محسوب بين دولتين لهما طموح إقليمي في الزعامة والهيمنة؟

هل الرد الإيراني والذي تميز بهذا العدد الضخم الاستعراضي من الطائرات المسيرة، وفي نفس الوقت حجم الخسائر المحدود هذا كان متعمدًا؟ أم أن هذا الرد هو أقصى إمكانية لإيران وهذه هي قدرتها الحقيقة العسكرية الفعلية؟

والأهم من كل هذا ما تأثير ما جرى على الحرب المشتعلة في غزة؟

الوضع في المنطقة قبل الرد الإيراني

كان من أبرز نتائج اجتياح فصائل المقاومة بزعامة كتائب القسام مستوطنات غلاف غزة، أن هذا الهجوم قد غير البيئة الاستراتيجية في المنطقة، وأوقف محاولات إعادة تشكيلها، والتي كان يجري التخطيط لها أمريكيًا، بهدف ضمان استقرار تلك المنطقة المهمة في الاستراتيجية الأمريكية، لكي تتفرغ الإدارة الأمريكية للتهديدات الأكثر إلحاحًا والتي تتعلق بالصعود الصيني والروسي.

وبالرغم من أن إيران استفادت من تلك النتيجة، خاصة إن تلك الترتيبات كانت قد جرى استبعاد إيران منها، إلا أن إيران رفضت التدخل العسكري المباشر لصالح المقاومة، بالرغم من زيارات قادة المقاومة المتكررة لطهران.

فقد قال المرشد الإيراني في خطاب له يوم 10 أكتوبر أي بعد بدء حرب طوفان الأقصى بثلاثة أيام، إن "أولئك الذين يعتقدون أن هجمات حماس هي من عمل غير الفلسطينيين، أخطأوا في حساباتهم".

ونقلت وكالة رويترز في15  نوفمبر، نقلاً عن ثلاثة مسؤولين إيرانيين وحركة حماس، طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم، أن خامنئي وعد هنية بأن طهران ستواصل دعمها المعنوي والسياسي للحركة، لكنها لن تتدخل بشكل مباشر في الصراعات، وفي نفس الوقت ووفقًا لتقرير رويترز، ضغط خامنئي على هنية، وطلب منه إسكات أعضاء حركة حماس الذين يدعون علنًا النظام الإيراني وحزب الله إلى الانضمام إلى الحرب ضد الكيان الصهيوني.

وبذلك وضع خامنئي قواعد التعامل مع الحرب التي شنها الجيش الصهيوني على غزة، الدعم المعنوي والسياسي وليس العسكري.

ولكن تركت إيران لأذرعها في المنطقة مساحة من الاشتباك مع الصهاينة وفق قواعد لهذا الاشتباك.

فمثلاً كانت قواعد الاشتباك بين حزب الله والكيان الصهيوني، أن منطقة المناوشات بينهما لا تتعدى في بداية الأمر ضمن نطاق 5 كيلومترات ثم زادت إلى 8، وصولاً إلى 20 كيلومترًا، ولا يزال ضمن هذا المدى الجغرافي.

وخلاف النطاق الجغرافي وسقوط قتلى وجرحى من الطرفين، نقلت وكالة "رويترز" عن متحدث عسكري إسرائيلي قوله إن قواعد الاشتباك في الشمال (على الحدود مع لبنان) شديدة الوضوح.

ولكن الذي كان يوسع النطاق دائما هو الكيان الصهيوني، فيهاجم أهدافًا في العمق اللبناني مثل اغتيال القيادي في حماس صالح العاروري، أو قيادات عسكرية لحماس لبنان أو حتى بعض مقاتلي حزب الله، ولكن سرعان ما يعود جيش الكيان لقواعد الاشتباك.

ويمكن ملاحظة أن الهجمات الصهيونية على قيادات الحرس الثوري الإيراني في سوريا لم تتوقف.

 

الرد الإيراني كان مخططًا له إسرائيليًا وتمت هندسته أمريكيًا، وقد استفاد منه نتانياهو أكثر من أي طرف آخر: فقد أعاد توحيد الداخل الاسرائيلي خلفه، كما رمم علاقات الغرب مع الكيان والتي اهتزت وتأثرت بمجازر غزة

التصعيد الصهيوني

في الأسابيع الأخيرة ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وجد الرئيس الأمريكي المؤيد للصهيونية أن وضعه الانتخابي في وضع حرج، فالفروق بينه وبين ترامب ضئيلة جدا وفق استطلاعات الرأي، وبات يحتاج لأصوات المسلمين والتي مع ضآلتها إلا أنها يمكن أن تكون مرجحة خاصة في الولايات المتأرجحة كولاية ميتشجن، وفي نفس الوقت فإنه يحتاج للدعم الصهيوني الممول لحملته والذي يسيطر على الاعلام الأمريكي.

هنا حاول الرئيس الأمريكي اتباع سياسة تقوم على الحد من التغول الصهيوني المتوحش في غزة، خاصة أن هناك ما يبدو فشلاً عسكريًا صهيونيًا في تحقيق أهداف الحملة العسكرية في غزة سواء في القضاء على حماس أو حتى التمكن من إخراج الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.

ومارس بايدن ضغوطًا على رئيس الوزراء الصهيوني نتانياهو، للتحرك نحو تغيير استراتيجيته في هذه الحرب واتباع استراتيجية بديلة تقوم على تقليل الخسائر العسكرية الصهيونية والمدنية الفلسطينية، بالانسحاب من مناطق في القطاع، وتوجيه ضربات انتقائية وسريعة تستهدف قيادات المقاومة، وقطع طرق الإمدادات من أنفاق رفح، والدخول في هدن مؤقتة يتم من خلالها خروج أسرى الصهاينة.

ولكن ما لم يوافق عليه نتانياهو هو الهدنة والتي تعني التوجه إلى انتخابات جديدة في الكيان، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى هزيمته الحتمية، بل محاكمته على فشله في السابع من أكتوبر.

ومع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية على نتانياهو للدخول في هدنة وصفقة مع المقاومة، لجأ إلى سياسة الهروب إلى الأمام وهو التصعيد مع إيران، فكانت ضربة الأول من أبريل والتي هاجم فيها القنصلية الإيرانية في دمشق حيث يجتمع قيادات من الحرس الثوري الإيراني فتم قتلهم.

وليست المشكلة تتعلق باغتيال الصهاينة لقيادات الحرس الثوري، فإيران عادة لا ترد على تلك الاغتيالات، ولكن مغزى الضربة هو توجيهها إلى قنصلية دبلوماسية، وهو ما يُعتبر في الأعراف الدبلوماسية أراضي إيرانية، فكان يلزم إيران الرد هذه المرة حتى لا تفقد القدرة على الردع، ويشجع ليس الكيان فقط بل دول الجوار سواء باكستان أو العرب على مهاجمتها.

وفي نفس الوقت فإن هذا الرد لابد أن يكون مهندسًا، بحيث لا يتطور إلى حرب إقليمية تخسر فيها إيران استراتيجيًا ما كسبته في السنين الأخيرة.

خلف الكواليس

تتوارد الأنباء عن أن رد إيران قد جرى التفاهم عليه مع الولايات المتحدة عن طريق وسيط تركي.

ففي أعقاب الرد الإيراني بساعات كشف مصدر دبلوماسي تركي لوكالة رويترز، عن تبادل رسائل بين طهران وأنقرة وواشنطن خلال الأيام التي سبقت العملية الإيرانية ضد إسرائيل، فقد تحدث رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه) وليام بيرنز إلى نظيره التركي إبراهيم قالن خلال عطلة عيد الفطر وطلب منه العمل كوسيط في التوترات "الإسرائيلية" الإيرانية.

وأضاف الدبلوماسي التركي أن الولايات المتحدة نقلت إلى إيران من خلالنا أن رد الفعل الإيراني تجاه ضرب قنصليتها في دمشق، يجب أن يكون ضمن حدود معينة لن تتجاوزها.

ووفق المصدر التركي لرويترز فإن طهران أبلغت أنقرة مسبقا بعمليتها ضد إسرائيل، وأبلغتها أيضًا أن عملياتها تلك ستكون ضمن حدود معينة.

بينما يذكر الخبير في الشئون الإيرانية تاريتا بارسي، (وهو باحث إيراني المولد يحمل الجنسية السويدية ويعيش في أمريكا، ومؤلف الكتاب الشهير التحالف الغادر ..التعاملات السرية بين إيران وأميركا وإسرائيل، ويشغل حاليا نائب رئيس معهد كوينسي في واشنطن)، لموقع الجزيرة نت، ردا على سؤال حول طبيعة الرسائل التي توجهها إيران إلى واشنطن من خلال مهاجمة إسرائيل، فقال إنه "من الواضح أن ما حدث تم تنسيقه وترتيبه بين الولايات المتحدة وإيران من خلال القنوات الخلفية، فقد كانت نية طهران إظهار أنها تتحدى الخط الأحمر لإسرائيل بمهاجمتها من الأراضي الإيرانية، لأن إسرائيل تحدت الخط الأحمر الإيراني المتمثل في مهاجمة قنصليتها في دمشق. وبذلك، تعتقد طهران أنها استعادت ردعها دون توسيع الحرب.

وفي نفس الاتجاه يؤكد السفير ديفيد ماك، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، الذي سبق له العمل في قنصلية بلاده بالقدس، أن "الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامي هو أن طهران وواشنطن تستخدمان بعض القنوات على ما يبدو للحفاظ على نفسيهما من الوقوع في صراع مباشر بينهما. وفي الواقع، لقد أكد النظام الإيراني لإدارة بايدن أنه لن يستهدف القوات الأمريكية أو سفاراتها في المنطقة، وهو ما يعد إشارة جيدة جدًا، على حد تعبير المسئول الأمريكي.

الخلاصة

الرد الإيراني كان مخططًا له إسرائيليًا وتمت هندسته أمريكيًا، وقد استفاد منه نتانياهو أكثر من أي طرف آخر: فقد أعاد توحيد الداخل الاسرائيلي خلفه، كما رمم علاقات الغرب مع الكيان والتي اهتزت وتأثرت بمجازر غزة، والنتيجة تزايد احتمالات دخوله رفح حتى ولم يتم قبلها نقل اللاجئين الفلسطينيين، لتتم مجازر أخرى غير مسبوقة.

ولكن في نفس الوقت فإن هناك خطأ استراتيجيًا وقع فيه نتانياهو في سعيه لهذه الضربة. فقد أثبتت الضربة أن الكيان الصهيوني لا يستطيع حماية نفسه بإمكانياته العسكرية فقط، بل إن الدور الحاسم في حماية الكيان جاءت من المساعدة الخارجية، سواء جاءت من الولايات المتحدة بشكل أساسي أو بريطانيا أو فرنسا أو حتى من الدول العربية المجاورة.

أعلى