الصدام بين طالبان وباكستان... الأسباب والمآلات

كيف يمكن فهم العلاقة بين حركة طالبان في أفغانستان وباكستان، كيف تطورت العلاقة من التعاون الوثيق إلى التراشق الإعلامي وأحيانا العمليات المسلحة، وما هو مصير تلك العلاقات المعقدة؟


في شهر مارس ومنذ عدة أسابيع، قامت طائرات تابعة للجيش الباكستاني لأول مرة بقصف ما قالت باكستان إنه معاقل لطالبان باكستان في محافظتي خوست وبكتيكا شرقي أفغانستان والمتاخمتين للأراضي الباكستانية، وهو ما أسفر عن مقتل مدنيين بحسب الرواية الأفغانية، بينما نفت باكستان أن يكون الضحايا من المدنيين، وقالت إنهم مقاتلين تابعين لجماعة طالبان باكستان.

وقالت باكستان إن الضربة الجوية، جاءت ردًا على عملية انتحارية أسفرت عن مقتل سبعة من الجنود الباكستانيين في مناطق شمال وزيرستان القبلية المتاخمة لأفغانستان، قامت بها مجموعة تابعة لحركة طالبان الباكستانية بزعامة جل بهادور المقيم بحماية طالبان أفغانستان.

وعلى الفور، أصدرت وزارة الدفاع الأفغانية بيانًا تعهدت فيه بالدفاع عن الأراضي الأفغانية بكل السبل والطرق، كما حذرت من عواقب التصعيد الباكستاني.

وظهر وزير الدفاع الأفغاني الملا محمد يعقوب نجل مؤسس حركة طالبان الملا محمد عمر على الشاشات، مرتديًا الزي العسكري، وبعدها ردت طالبان بقصف مدفعي وصاروخي لنقاط عسكرية وأمنية باكستانية.

 

 قام الأمن القومي الباكستاني في العقود الأخيرة على ثلاث دعامات: الحفاظ على السلاح النووي، والعمل على استرداد كشمير، وتوسيع النفوذ أفغانستان لتكون ممرًا لها إلى آسيا الوسطي، ومن ثم منح باكستان العمق الاستراتيجي الذي تفتقده.

وتعجب الكثيرون، فقد كانت التوقعات تقول إن الدولتين ستكونان في حالة وئام، خاصة بعد أن استردت طالبان الحكم في أفغانستان بمساعدة باكستانية، والتي وفرت للحركة ليس فقط ملاذًا آمنًا بل العدد والعتاد وأحيانًا التدريب في حربها المريرة ضد المحتل الغربي بزعامة الولايات المتحدة، وعانت باكستان في سبيل ذلك ما عانت، بعد أن أعلنت أمريكا على لسان رؤسائها بدءًا من بوش ومرورًا بأوباما وانتهاءً بترامب أن باكستان هي التي يجب أن تُشَن عليها الحرب أيضًا وليست أفغانستان فقط.

ولكي نفهم أسباب هذا التدهور في العلاقة بين للطرفين، يلزمنا أولاً قراءة تاريخ العلاقة بين طالبان أفغانستان وباكستان، وعلى ضوئها نستطيع تحليل خصائص تلك العلاقة، كما يجب دراسة نشأة طالبان باكستان وأفكارها، لندرك لماذا تتعاطف معها طالبان أفغانستان، وعلى ضوء هذين العاملين يمكن استنتاج أسباب تدهور العلاقة بين باكستان وطالبان أفغانستان.

صعود طالبان أفغانستان والدور الباكستاني

قام الأمن القومي الباكستاني في العقود الأخيرة على ثلاث دعامات: الحفاظ على السلاح النووي، والعمل على استرداد كشمير، وتوسيع النفوذ أفغانستان لتكون ممرًا لها إلى آسيا الوسطي، ومن ثم منح باكستان العمق الاستراتيجي الذي تفتقده.

وعندما برزت طالبان عام 1994، كانت بمثابة الأمل بالنسبة للنظام الباكستاني، وخاصة جهاز المخابرات الباكستاني لتحقيق الأمن القومي الباكستاني، فدعم الحركة وكان على رأس عملاء الجهاز في هذا الأمر ما اشتهر بلقبه الحركي العميد إمام واسمه الحقيقي أمير سلطان طرار، والذي تم تعيينه كقنصل عام لباكستان في قندهار ثم في هرات، وأمدت شبكته طالبان بالسلاح اللازم لبسط سيطرتها على جميع أنحاء أفغانستان.

وبواسطة هذا الدعم، حققت طالبان انتصارات هامة في ميدان المعركة حيث استولت على هرات وجلال آباد والعاصمة كابل بحلول خريف عام 1996. وتقول مصادر غربية أن وكالة الاستخبارات الباكستانية قد قامت بتدريب حوالي ثلاثة وثمانين ألفًا من المجاهدين الأفغان بين عامي 1983 و1997.

ولكن التاريخ المفصلي الأهم في تاريخ تلك العلاقة بين الطرفين جاء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. إذ إنه بعد هذا التاريخ تركز الاهتمام الأمريكي والعالمي على العلاقات الباكستانية الأفغانية، فبعد الهجمات من تنظيم القاعدة والذي كانت طالبان توفر له ملاذا آمنا، سمح حرس الحدود الباكستانيون في نقطة تفتيش تقع في ممر خيبر بمرور قوافل متجهة إلى أفغانستان. وقال مسئولو استخبارات غربيون إنه تحت أغطية الشاحنات كانت هناك بنادق وعتاد وأجهزة إطلاق صواريخ مرسلة لمقاتلي طالبان والملا محمد عمر.

وفي حوار أجري في أكتوبر 2006، لم ينف الرئيس الباكستاني السابق برفيز مشرف أن يكون هناك بعض من رجال الاستخبارات المتقاعدين الذين ساعدوا حركات التمرد في أفغانستان، ولكنه أنكر وجود أية روابط نشطة بعد ذلك.

ولم يساهم حينها إقالة رئيس المخابرات الباكستانية الجنرال محمود أحمد، والذي كان يتم وصفه بالرجل القوي في باكستان، في تهدئة الولايات المتحدة وتوصيل رسالة أن باكستان لم تعد تدعم طالبان.

وبالرغم من ذلك فقد استمرت التقارير الغربية والأمريكية تنهال باستمرار التعاون بين المخابرات الباكستانية وطالبان، خاصة مع التقدم العسكري الذي باتت تحرزه الحركة، حتى إن قائد قوة الحلف الأطلسي في أفغانستان في ذلك التوقيت الجنرال الأمريكي ديفيد ماكيرنان، صرح لوكالة فرانس برس إن جهاز المخابرات الباكستاني متواطئ مع طالبان.

 

نشأت في هذه المقاطعة جماعات طالبان باكستان، حيث تمتزج الطبيعة القبلية مع روح الإسلام في خليط أصبح يطلق عليه طالبان باكستان، أو كما سماهم الصحفي الباكستاني زاهد حسين محاربو القبائل.

وفي عام 2009، كشفت صحيفة بوسطن غلوب الأمريكية في افتتاحيتها حقيقة السياسة الباكستانية ووصفتها باللعبة المزدوجة الغادرة وقالت: إن جيش باكستان واستخباراتها يصطادان عناصر من تنظيم القاعدة ويسلمانهم إلى الولايات المتحدة، ولكنهما لا يضربان طالبان، مضيفة أن باكستان تعول كثيرًا على الحركة في التصدي لما وصفته بالنفوذ الهندي في أفغانستان.

ولكن من الملاحظ، أن تلك المساندة الباكستانية كانت موجهة في الأساس إلى فصيل داخل طالبان وهو شبكة حقاني، بينما اتبعت نهجًا محايدًا تجاه باقي مجموعات طالبان، وإن احتفظت معهم بعلاقات.

طالبان باكستان

في عام 2008، صرح وزير الدفاع الأمريكي في ذلك التوقيت، روبرت جيتس في شهادة له أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي، إذا سألتموني اليوم، وبعد النجاح الذي حققناه ضد القاعدة في العراق، عن أكبر تهديد للوطن فسأقول لكم إنه في غرب باكستان على الحدود مع أفغانستان.

ومقاطعة القبائل أو الاسم الرسمي لها ولاية الحدود الشمالية الغربية تلك، هي إحدى ولايات أربع تتكون منها باكستان، وهي البنجاب والسند وبلوشستان.

وهذه الولاية هي الملاصقة لحدود باكستان مع أفغانستان، ولذلك يطلق عليها ولاية الحدود علمًا أن طول هذه الحدود يبلغ أكثر من 2000 كيلومتر.

ونشأت في هذه المقاطعة جماعات طالبان باكستان، حيث تمتزج الطبيعة القبلية مع روح الإسلام في خليط أصبح يطلق عليه طالبان باكستان، أو كما سماهم الصحفي الباكستاني زاهد حسين محاربو القبائل.

ومنطقة القبائل تلك تنقسم إلى سبع أقاليم: وهي باجور وخيبر وكورام ومهمند وشمال وزيرستان واوراكزاي وجنوب وزيرستان، وتباشر طالبان باكستان بمجموعاتها المختلفة أنشطتها المسلحة في السبعة أقاليم تلك.

وفي دراسة بحثية لمركز دراسات هندي، اعتبرت أن صعود طالبان باكستان لم يكن مفاجأة بل أرجعته إلى ثلاثة عوامل: الأول التحولات التي أحدثتها سياسات أسلمة المجتمع الباكستاني في عهد ضياء الحق، والسبب الثاني هو تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة، والسبب الأخير هو فشل الحكومات الباكستانية المتعاقبة في توفير الخدمات الأساسية أو فرص العمل.

ويعلل الباحث الباكستاني أحمد رشيد، ظهور طالبان باكستان، أن قبائل البشتون التي استقبلت الطالبان الأفغان ورجال القاعدة بعد هزيمتهم في كابول في العام 2001 في ذلك الحين، لم يكن هؤلاء الإسلاميون الباكستانيون منظّمين حتى لو كانوا قد قاتلوا مع الطالبان في أفغانستان في سنوات التسعينات. ولكن السنوات التي قضوها إلى جانب الطالبان الأفغان والقاعدة أحدثت تأثيرا فيهم. وهكذا تعزّز نفوذ قبائل البشتون هذه وقامت بتشكيل ميليشياتها الخاصة، كما أصبح لها برنامجها السياسي الخاص. لقد نجحوا في طلبنة شمال غرب باكستان، على حد تعبيره.

ويعتبر سماح الجيش الباكستاني، للطائرات الأمريكية ومشاركته أحيانًا في ضرب مجموعات طالبان الباكستانية، عزز في تأجيج المشاعر لدى تلك المجموعات ضد باكستان، والتي بدأت رسميا في شن حرب عصابات ضد الحكومة الباكستانية، إما بهدف إسقاطها أو على الأقل الاستقلال بمنطقة القبائل واتحادهم مع البشتون داخل حدود أفغانستان.

بينما باكستان لا تريد تكرار انفصال بنجلاديش عنها، لذلك اتخذ الجيش مواقف متشددة تجاه طالبان باكستان.

طالبان بعد الانسحاب الأمريكي

لا يتمتع الملا هبة الله زعيم طالبان بنفس كاريزما الملا عمر، لذلك اتسمت قياداته لطالبان بعدم القدرة على توحيد فصائلها وصهرها في بوتقة واحدة، والتي ظلت تقاتل الاحتلال الأمريكي طيلة عشرين عاما.

لذلك عقب الانسحاب الأمريكي، بدت بعض مظاهر الخلافات، والتي عمل الملا هبة الله على احتوائها، وكانت من أهم بنود الخلاف هي العلاقة مع باكستان، خاصة بين شبكة حقاني وزعيمها سراج حقاني، ومجموعة يقودها نجل الملا عمر محمد يعقوب، وبالرغم من أنه تم عمليًا الوصول إلى صيغة توافقية بين المجموعتين بحيث تولى سراج حقاني وزارة الداخلية، بينما تولى محمد يعقوب وزارة الدفاع، إلا أن موضوع العلاقة مع باكستان ظلت من بين مواضيع الخلاف، حيث تشعر مجموعة حقاني بالامتنان لباكستان لأنها في نظرهم وقفت مع طالبان، وقدمت لهم الدعم حتى الانسحاب الأمريكي، بينما ترى مجموعة  محمد يعقوب أن قيادة باكستان تشن حربًا على إخوانهم طالبان باكستان، لذلك يجب عليهم دعمهم في مواجهة الجيش الباكستاني.

ولكن تظل تبعات تلك المواجهة الأخيرة بين طالبان أفغانستان والجيش الباكستاني خطيرة، والتي ربما تفضي إلى انقسام في حركة طالبان أفغانستان، وهذا لا تريده بالطبع القيادة الباكستانية.

أعلى