عزز الصعود التركي في هذه المنطقة، نجاح تركيا في دعم شركائها في أذربيجان في استعادة اقليم ناجورنو كاراباخ، حيث أصبح قادة آسيا الوسطى الذين يجمعهم اللسان التركي، يرون الآن تركيا كخيار بديل لروسيا.
"لا يمكن تجاهل حقيقة طالبان"
هذا ما صرح به الرئيس التركي رجب أردوغان في بروكسل عقب لقائه بالرئيس الأمريكي جو
بايدن على هامش قمة الناتو قبل أكثر من أسبوعين، وأكد أردوغان
في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اللقاء:
أنه ناقش مع نظيره الأميركي إمكانية إبقاء قوات تركية في أفغانستان بعد الانسحاب
الأميركي من هذا البلد المقرر في سبتمبر.
وقال "إذا كان يطلب من تركيا البقاء في أفغانستان فإن دعما أميركيا دبلوماسيا
ولوجستيا وماليا سيكون بالغ الأهمية"، لافتا إلى أنه على تواصل في هذا الملف مع دول
أخرى مثل باكستان والمجر"، مضيفا بالتأكيد، لا يمكن تجاهل حقيقة طالبان. نستطيع
مواصلة المحادثات معهم بسبل مختلفة".
ولكن ما لم يقله أردوغان في مؤتمره الصحفي لماذا هذا الحرص التركي على البقاء في
أفغانستان؟
وما هي الأسباب التي تجعل أمريكا تدعم تركيا في أفغانستان كما صرح أردوغان؟
والأهم ما
هو
موقف طالبان من البقاء العسكري التركي في أفغانستان؟
لا شك أن هناك أزمة تواجه الولايات المتحدة في أفغانستان، فهي في حيرة من أمرها بين
البقاء وتحمل تكلفته العالية، وبين ترك الأرض الأفغانية وعودة التهديدات الإرهابية
كما تصفها الإدارة الأمريكية وتنقلها وراءها آلة الاعلام العالمية.
وحين أبرمت إدارة ترامب اتفاقية خروج القوات الأمريكية من أفغانستان مع طالبان،
مالت هذه الادارة إلى اختيار الخروج لأن حسابات هذه الإدارة أنه لا يمكن البقاء
للأبد وتحمل تكاليف بقاء هذه القوات، التي تصل ووفقا لدراسة أجرتها جامعة براون في
عام 201 والتي رصدت عملية الإنفاق على الحرب في كل من أفغانستان وباكستان، بحوالي
978 مليار دولار.
وعندما جاءت إدارة جديدة أوائل هذا العام بزعامة جو بايدن، فإنه حرص على تثبيت
الاتفاق ولكنه أجله أربعة شهور، ليكون خروج القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11
سبتمبر من هذا العام، بدلا من الذي كان قد وافق عليه سلفه الرئيس السابق دونالد
ترامب والذي كان من المقرر أن يكون في الأول من مايو الماضي، وقال بايدن كلمته
المشهورة: "حان الوقت لإنهاء أطول حرب خاضتها أمريكا".
وبذلك اتفقت النخب الأمريكية على الخروج من المستنقع الأفغاني، ولكنها في الوقت
نفسه تعاني من حالة قلق شديد بالنسبة لموقف طالبان، ومن الذي يضمن تعهداتها
للولايات المتحدة بعدم استضافتها لأي جماعة أو تنظيم مسلح تعتبرها أمريكا تهديدا
لأمنها القومي، وألا تستخدم الأراضي الأفغانية مركزا لانطلاق عمليات عسكرية ضدها
مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
فالولايات المتحدة لا تثق بالشريك الباكستاني، حيث تدرك جيدا أن الاستخبارات
الباكستانية هي التي تقف وراء طالبان وأنها هي السبب الأكبر لصمودها طيلة عشرين
سنة، وأنه لولا الدعم الباكستاني لما صمدت طالبان حتى اليوم.
ولذلك بدأ الدور التركي في الظهور...
هل تكون تركيا هي الضامن لطالبان؟
لا نعرف بالتحديد من الذي أخرج فكرة بقاء القوات التركية لضمان ألا تتخذ طالبان
الأرض الأفغانية منطلقا لعمليات ضد الغرب.
هل هي أمريكا أم أنه عرض تركي لأمريكا؟
الخيار الأقرب هو عرض تركي...لماذا؟
لأن الدولة التركية منذ ان صارت جمهورية بعد سقوط الخلافة العثمانية في عشرينات
القرن الماضي، تتبع استراتيجية تقوم على ركيزة تقديم الخدمات إلى الغرب مستغلة
موقعها الجغرافي المميز وروابطها التاريخية والعرقية مع شعوب المنطقة، مقابل
الاحتفاظ ببقاء إستانبول داخل الدولة، ومنع تقسيمها والقبول بالعلمانية وتغريب
المجتمع وابعاد الإسلام كمنهج حياة.
وبعد مجيء حزب العدالة بزعامة أردوغان اتبع نفس الاستراتيجية ولكن لتخدم هدفا آخر
هو استعادة مكانة تركيا الإقليمية والعالمية، وكسبيل للصعود في سلم النظام الدولي.
هنا يبدو أن تركيا سعت لتطوير دورها في أفغانستان لتحقيق عدة مصالح أهمها:
أولا/ تزيد من النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطي والقوقاز:
هذه المنطقة الحيوية والتي يبلغ عدد سكانها الشباب أكثر من 200 مليون نسمة، ولديها
ناتج محلي إجمالي مشترك يقترب من تريليوني دولار.
فضلا على أن تلك الجمهوريات وهي: كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجكستان، وتركمنستان،
وأوزبكستان، تتأثر بتركيا لغويا ودينيا وتاريخيا، وازداد النفوذ التركي في هذه
الدول منذ عام 1991 عندما حصلت تلك الدول على استقلالها من الاتحاد السوفيتي.
وعزز الصعود التركي في هذه المنطقة، نجاح تركيا في دعم شركائها في أذربيجان في
استعادة اقليم ناجورنو كاراباخ، حيث أصبح قادة آسيا الوسطى الذين يجمعهم اللسان
التركي، يرون الآن تركيا كخيار بديل لروسيا.
ومن هنا تأتي أهمية أفغانستان بالنسبة لتركيا، حيث تتجاور العديد من هذه الجمهوريات
مع أفغانستان وتتداخل الحدود معها وتتأثر بالحرب الدائرة على أراضيها.
ثانيا/ أفغانستان وطريق الحرير
أطلقت تسمية طريق الحرير على شبكة التجارة والمواصلات التي ربطت بالدرجة الأولى بين
الصين والغرب بدءاً من القرن الثاني قبل الميلاد، ولاحقا بين الصين وآسيا الوسطى،
واقتصر في البداية على خطين بري وبحري يربطان جنوب وشرق آسيا بأوروبا واستخدما
للنقل التجاري.
ومع الصعود الصيني الجديد بدأت فكرة طريق الحرير في الظهور مرة أخرة ولكن بآليات
مختلفة.
في ديسمبر من عام 2017، أعلن وزير الخارجية الصيني، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع
وزراء خارجية كل من الصين وباكستان وأفغانستان: إن الصين وباكستان ستدرسان توسيع
نطاق الممر الاقتصادي بين البلدين ليضم أفغانستان.
كان هذا بداية تدشين لمحاولة الصين وباكستان ودمج أفغانستان في مبادرة الحزام
والطريق من خلال إلحاقها بأحد أهم الممرات الاقتصادية ضمن المبادرة، وهو ممر الصين-
باكستان، والذي يتضمن ربط إقليم شينجيانج (شمال غرب الصين) ببحر العرب والمحيط
الهندي عبر شبكة من السكك الحديدية والطرق البرية داخل باكستان، وصولا إلى ميناء
جوادر الباكستاني على بحر العرب.
ولكن ما دخل تركيا بهذا الطريق؟
تظهر تركيا حماسا كبيرا لإعادة العمل بطريق الحرير التاريخي لتعزيز مكانتها الدولية
كمركز بين قارات العالم، بالإضافة إلى تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة.
وترى تركيا في هذا المشروع بارقة أمل في تحررها من مجموعة من القيود الغربية في
التجارة والنقل البحري والجوي والبري وفتح آفاق واسعة في خططها لتعزيز تواصلها
السياسي والاقتصادي مع آسيا وإفريقيا، والأهم فتح طرق جديدة للوصول إلى الجمهوريات
التركية في آسيا الوسطى بعيداً عن الطرق التي تمر من روسيا وإيران.
فهناك طريقان يمكن من خلال أحدهما العبور بالتجارة بين شرق آسيا إلى أوروبا:
الأول هو ممر الوسط، حيث يصل بين تركيا والصين مروراً بجورجيا وأذربيجان وبحر قزوين
(بواسطة عبارات) ومنه إلى تركمانستان وكازاخستان ثم أفغانستان وباكستان. ومن أبرز
ميزات الممر، أنه منخفض التكاليف بالمقارنة مع الطريق الثاني الذي يطلق عليه ممر
الشمال، حيث أن مسافة الأول أقصر بألفي كم من الثاني، ومن المتوقع أن يختصر زمن
المرور 15 يوماً بالمقارنة مع ممر الشمال، وسيؤدي المشروع إلى اتصال تركي أقوى
وأسرع مع دول آسيا الوسطى المقربة منها لا سيما تركمانستان وكازاخستان وأذربيجان.
ثالثا/ رأب الصدع بين الولايات المتحدة وتركيا
يمثل العرض التركي بتواجد قواتها في أفغانستان، محاولة تركية لترميم العلاقة بينها
وبين أمريكا والتي تضررت خلال السنوات الماضية وكان لها تأثيرها في أن تركيا وجدت
نفسها في حالة أشبه بالحصار الاقتصادي والعسكري والسياسي.
تركزت موضوعات التصادم التركي الأمريكي في ثلاث مشكلات رئيسة وهي:
صواريخ اس 400 الروسية، وأزمة أكراد سوريا، وغاز شرق المتوسط.
فتركيا كانت متمسكة بشراء منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية إس 400 بدلا من منظومة
باتريوت، والتي يسطر عليها حلف الناتو وتعتبرها تركيا مصدرا للتجسس عليها فضلا عن
قلة كفاءتها، أما أمريكا فتعتبر أن شراء تركيا هذه المنظومة خرقا لحلف الناتو
وترويج لسلاح روسي منافس للسلاح الأمريكي.
وازداد توتر هذه العلاقة مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض، عكس العلاقة مع ترامب،
فترامب وأردوغان كانت تجمعهما علاقة شخصية حميمة، بحسب الباحث ستيفن كوك من مجلس
العلاقات الخارجية، ويقول الباحث الأمريكي من أصل تركي غالب دالاي في مقال نشره
معهد بروكينغز للأبحاث إن الرئيس الأمريكي السابق حمى تركيا من العديد من الإجراءات
العقابية المحتملة، لكنه عندما قرر في نهاية ولايته معاقبة تركيا لحيازتها صواريخ
إس-400 الروسية وفق ما يقتضي القانون الأمريكي، فعل ذلك بعد مقاومة طويلة.
وتأمل تركيا من تقديم خدماتها لأمريكا في أفغانستان أن تعيد العلاقات المتوترة مع
أمريكا إلى سابق عهدها.
ولكن المفاوضات التركية الأمريكية لازالت جارية حول عدد من الشروط التركية، أهمها
التمويل وموافقة طالبان ودخول قوات دول أخرى كباكستان والمجر في التحالف مع تركيا.
وبالرغم من أن طالبان أعلنت عن رفضها للتواجد التركي ولكن بيانها حمل بعض العبارات
الواسعة التي قد تحمل شروطا معينة، فتصريحات المتحدث باسم طالبان في قطر توحي أن
طالبان يمكن أن تقبل بوجود تركي ولكن ليس تحت ظلال الناتو ولكن كقوة سلام وحماية.
وربما تركيا تراهن على العلاقات الحميمية التي تربط تركيا بباكستان، والتأثير
الباكستاني على طالبان.