(أصول وقواعد منهجية) الباب الثاني: قواعد في المنهج 1-2
الرئيسية - أصول
وقواعد منهجية
الباب الثاني: قواعد في المنهج
المبحث الأول:
قواعد في دراسة أحوال الصحــابة - رضي الله تعالى عنهم -.
المبحث الثاني:
قواعد علمية في الرد على المبتدعة.
المبحث الثالث:
قواعد في التكفير.
المبحث الأول
قواعد في دراسة أحوال
الصحابة - رضي الله تعالى عنهم –
للصحابة - رضي الله عنهم - منزلة عظيمة في
دين الإسلام، فهم خير من سار على هذه الأرض بعد النبيين - صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين -، شرَّفهم الله - عزَّ وجلَّ -، وأعلى منزلتهم بصحبة حبيبه ونبيه محمد صلى
الله عليه وسلم، وجعلهم الله - عزَّ وجلَّ - الأمنة على وحيه،
الحافظين لسُّنَّة نبيه، المبلغين لدينه، الناصرين للوائه - لواء التوحيد -
المدافعين عن حياضه، تواترت النصوص في تزكيتهم، ومدحهم، والثناء عليهم، والشهادة
لهم بالإيمان، فمن ذلك قوله الله - تعالى -: {مُحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِـحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
[الفتح: 29].
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: «وهذا
الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور».
وقال الله - تعالى -: {لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
قال أبو محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -:
«فمن أخبرنا اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل
السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم أو الشك فيهم ألبتة»[1].
وقد تقدَّم أنَّ ابن المطهر الحلي الرافضي
ملأ كتابه بألوان من الافتراء والكذب والسبِّ للصحابة - رضي الله تعالى عنهم -،
وصدق عليه قول عائشة الصديقة - رضي الله تعالى عنها -: «أمروا أن يستغفروا لأصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسبُّوهم»[2].
وردَّ ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ردَّاً
مفصلاً على أكاذيبهم، وبيَّـن أنَّ: «الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أعظم
حرمة، وأجلُّ قدراً، وأنزه أعراضاً، وقد ثبت من فضائلهم خصوصاً وعموماً ما لم يثبت
لغيرهم»[3].
وذكر أنَّ: «كلَّ ما في القرآن من خطاب
المؤمنين والمتقين والمحسنين، ومدحهم والثناء عليهم، فهم أول مَن دخل في ذلك من
هذه الأمة، وأفضل مَن دخل في ذلك مِن هذه الأمة، كما استفاض عن النبي صلى
الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: خير القرون القرن الذي
بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»[4].
«وخيار هذه الأمَّة هم الصحابة، فلم يكن في
الأمَّة أعظم اجتماعاً على الهدى ودين الحق، ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم».
«فكلُّ خير فيه المسلمون إلى يقوم القيامة،
من الإيمان والإسلام، والقرآن، والعلم والمعارف، والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة
من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو الكلمة، فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة،
الذين بلَّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة - رضي
الله عنهم - فضل إلى يوم القيامة»[5].
«والصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها،
ولهذا أحسن الشافعي - رحمه الله - في قوله: هم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى،
وفي كلِّ سبب ينال به علم وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا. أو كلاماً هذا
معناه.
وقال أحمد بن حنبل: أصول السُّنَّة عندنا:
التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: أيها الناس من كان منكم
مستنَّاً فليستنَّ بمن قد مات، فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد
كانوا أفضل هذه الأمة: أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلَّها تكلفاً، قوم
اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم،
وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال حذيفة - رضي الله عنه - يا معشر
القراء، استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً
بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً»[6].
«والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا
الله وأنَّ محمداً رسول الله، وأن القرآن حق، هم أفضل من جاء بالصدق وصدَّق به بعد
الأنبياء»[7].
«وهم الذين جاهدوا المرتدين، كأصحاب مسيلمة
الكذاب، ومانعي الزكاة وغيرهم، وهم الذين فتحوا الأمصار، وفارس والروم، وكانوا
أزهد الناس»[8].
لقد شرقت حلوق الرافضة بالصحابة - رضي الله
عنهم -، ولهذا بنوا دينهم على جَرحهم والطعن في عدالتهم، وتسفيه أعمالهم، واتهامهم
بالكفر والخيانة. ورأينا في واقعنا المعاصر كيف تطاول أشياخهم فضلاً عن سفهائهم
على الصحابة وأمهات المؤمنين بكل خبث وصفاقة - والعياذ بالله -، وليس المقصود في
هذا المبحث تفصيل القول في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - وبيان أحوالهم وسيرهم،
واستعراض الشبهات والأكاذيب التي افتراها الرافضة[9]، وإنما المراد: ذكر بعض
القواعد العامة في دراسة أحوال الصحابة - رضي الله عنهم -، حتى يُعصم الإنسان -
بفضل الله وقوته - من الزيغ والانحراف.
القاعدة الأولى:
الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الخلق بعد الأنبياء:
قال ابن تيمية: «ونحن قد تيقنا ما دلَّ عليه
الكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف قبلنا، وما يُصدِّق ذلك من المنقولات المتواترة من
أدلَّة العقل؛ من أن الصحابة - رضي الله عنهم - أفضل الخلق بعد الأنبياء»[10].
القاعدة الثانية:
الصحابة - رضي الله عنهم - كلهم ثقات عدول:
قال ابن تيمية: «فليس في هؤلاء [يعني الأئمة
الاثني عشر] من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم
وهو مميِّز إلا عليّ - رضي الله عنه - وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي صلى
الله عليه وسلم، كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون
فيما يُخبرون به أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ولله الحمد من أصدق الناس حديثاً عنه، لا يعرف فيهم من تعمَّد عليه كذباً، مع أنه
قد يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب، وليسوا معصومين، ومع هذا: فقد جرَّب
أصحاب النقد والامتحان أحاديثهم واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث، فلم يوجد عن أحد
منهم تعمَّد كذبة بخلاف القرن الثاني فإنه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب.
ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل
العلم بالحديث والفقه، حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية - رضي الله عنه - إذا
حدثهم على منبر المدينة يقولون: وكان لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وحتى بسر بن أبي أرطاة مع ما عرف منه، روى
حديثين، رواهما أبو داود وغيره، لأنهم معروفون بالصدق عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وكان هذا حفظاً من الله لهذا الدين، ولم
يتعمَّد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم
إلا هتك الله ستره وكشف أمره، ولهذا كان يقول: لو همَّ رجل بالسَّحر أن يكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأصبح الناس يقولون: فلان كذاب!»[11].
القاعدة الثالثة:
الكلام في الصحابة - رضي الله عنهم - يحتاج إلى علم وعدل وورع:
إنَّ الرافضة وكثيراً من المستشرقين
ومقلديهم من أهل الأهواء، يتعاملون مع تاريخ وأخبار الصحابة - رضي الله عنهم -
بعين التخوين والجهل، ويتجرؤون على جرحهم وإسقاط مكانتهم لأي شبهة عارضة، دون تورع
أو إنصاف، بل تراهم يتكلفون افتعال الشبهات لتسويق باطلهم والتلبيس علىالناس. وابن
تيمية في منهاج السنة النبوية يبني منهجاً محكماً في التزام الموضوعية والأمانة
العلمية في الحكم على الناس جميعاً، وخاصة الصحابة - رضي الله عنهم -، فهم أحق من
عدل عليهم في القول والعمل.
قال ابن تيمية: «ومعلوم أنَّا إذا تكلمنا
فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ
المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، فإَّن
العدل واجب لكلِّ أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقاً، لا يباح قط بحال.
قال - تعالى -: {وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨]،
وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر
الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى
نفس؟!، فهو أحق ألَّا يُظلم؛ بل يعدل عليه.
وأصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل. والعدل
مـمَّا اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته، والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مـمَّا
اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم. وليس المقصود الكلام في التحسين
والتقبيح العقلي، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضوع في مصنف مفرد، ولكن المقصود:
أنَّ العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو محبوب في النفوس، مركوز حبه في
القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه...
والمقصود: أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً، في
كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى
الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها،
والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم
وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في
كلِّ ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية، قال - تعالى -: {كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِـمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْـحَقِّ بِإذْنِهِ
وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
[البقرة: 213].
والمقصود هنا: أنه إذا وجب فيما شجر بين
عموم المؤمنين ألَّا يتكلم إلا بعلم وعدل، ويرد ذلك إلى الله والرسول، فذاك في أمر
الصحابة أظهر. فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور، من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو
ذلك، وجعله كافراً معتدياً على غيره في ولاية أو غيرها، وجعل غيره هو العالم
العادل المبرَّأ من كل خطأ وذنب، وجعل كل من أحب الأول وتولاه كافراً أو ظالماً
مستحقَّاً للسبِّ، وأخذ يسبُّه: فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل.
والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق،
فوالوا بعضهم وغلَوا فيهم، وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته، وقد يسلك كثير من الناس
ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم، فيحصل بينهم رفض في غير
الصحابة، تجد أحد الحزبين يتولى فلاناً ومحبيه، ويبغض فلاناً ومحبيه، وقد يسب ذلك
بغير حق، وهذا كلُّه من التفرَّق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله صلى
الله عليه وسلم، فقال - تعالى ـ: {إنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:
159]..»[12].
وقال في موضع آخر: «والكلام في الناس يجب أن
يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع، فإن الرافضة تعمد إلى أقوام
متقاربين في الفضيلة، تريد أن تجعل أحدهم معصوماً من الذنوب والخطايا، والآخر
مأثوماً فاسقاً أو كافراً، فيظهر جهلهم وتناقضهم... وكل من عمد إلى التفريق بين
المتماثلين، أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه أو أولى بالمدح منه، أو بالعكس: أصابه
مثل هذا التناقض والعجز والجهل. وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن
يمدح متبوعه ويذم نظيره، أو يفضل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق..»[13].
القاعدة الرابعة:
اجتهادات الصحابة - رضي الله عنهم - أكمل من اجتهادات المتأخرين:
أحق الناس بالاجتهاد أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، فهم أعلم هذه الأمة بدين الإسلام، وأرسخهم
فهماً لدلائله ومقاصده، ومن تمام الفقه والبصيرة العناية بمعرفة اجتهاداتهم وتحرير
أقوالهم.
ومما يؤسف له أن بعض المتأخرين ربما يعتني
بتحرير أقوال أشياخه ومجتهدي مذهبه أكثر من عنايته بتحرير اجتهادات الصحابة - رضي
الله عنهم -.
قال ابن تيمية: «وقد ثبت في موضع غير هذا
أنَّ اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات المتأخرين، وأنَّ
صوابهم أكمل من صواب المتأخرين، وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين، فالذين قالوا من
الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من من المتأخرين
بصحة نكاح المحلل، من أكثر من عشرين وجهاً، قد ذكرناها في مصنف مفرد، والذين قالوا
من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطـأ من جوَّز الحيل
الربوية من المتأخرين، والذين أنكروا ما قاله الصحابة، عمر وغيره، في مسألة
المفقود من أنَّ زوجها إذا أتى خُيِّر بين امرأته ومهرها قولهم ضعيف، وقول الصحابة
هو الصواب الموافق لأصول الشرع، والذين عدُّوا هذا خلاف القياس، وقالوا: لا ينفذ
حكم الحاكم إذا حكم به، قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم، فإن هذا
مبني على وقف العقود عند الحاجة، وهو أصل شريف من أصول الشرع.
وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئاً
هو فيه على الصواب، دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين، وإنَّ الذي أشار به علي بن
أبي طالب في قتال أهل القبلة، كان علي - رضي الله عنه - فيه على الصواب، دون من
أنكره عليه من الخوارج وغيرهم، وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل
الأيمان والنذور والطلاق والخلع، قولهم فيها على الصواب، دون قول من خالفهم من
المتأخرين.
وبالجملة فهذا باب يطول وصفه، فالصحابة أعلم
الأمَّة وأفقهها وأدينها»[14].
القاعدة الخامسة:
إذا اجتهد الصحابي فأخطأ فهو مأجور:
قال ابن تيمية بعد أن ذكر بعض اجتهادات
الصحابة: «.. وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة - رضي الله عنهم - إذا اجتهدوا
فأفتوا وقضوا وحكموا بأمر، والسُّنَّة بخلافه، ولم تبلغهم السُّنَّة، كانوا مثابين
على اجتهادهم، مطيعين لله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم، ولهم أجر
على ذلك، ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران.
والنَّاس متنازعون: هل يُقال: كل مجتهد
مصيب؟ أم المصيب واحد؟ وفصل الخطاب: أنَّه إن أريد بالمصيب المطيع لله ورسوله، فكل
مجتهد اتقى الله ما استطاع فهو مطيع لله ورسوله، فإنَّ الله لا يُكلِّف نفساً إلا
وسعها، وهذا عاجز عن معرفة الحق في نفس الأمر، فسقط عنه.
وإن عني بالمصيب: العالم بحكم الله في نفس
الأمر، فالمصيب ليس إلا واحداً، فإنَّ الحق في نفس الأمر واحد»[15].
القاعدة السادسة:
الصحابةُ - رضي الله تعالى عنهم - بشر ليسوا معصومين:
مما تميز به منهج أهل السنة عن الرافضة:
أنَّ أهل السنة لا يعتقدون أنَّ أحداً من الناس معصوم بعد النبي صلى
الله عليه وسلم مهما كانت منزلته، كالخلفاء الراشدين
وغيرهم. وهذا الاعتقاد له دلالة كبيرة في منهج التلقي وحماية أصول الدين، بعكس
منهج الرافضة الذين يعتقدون العصمة في أئمتهم، فأصبح ذلك قنطرة للتحريف والابتداع
والافتراء.
قال ابن تيمية: «والقاعدة الكلية في هذا
ألَّا نعتقد أنَّ أحداً معصوم بعد النبي صلى
الله عليه وسلم؛ بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم
الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تُكفَّر عنهم بحسناتهم الكثيرة،
وقد يبتلون أيضاً بمصائب يُكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك.
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كلَّ ما فعل
واحد منهم هو الواجب، أو المستحب، من غير حاجة بنا إلى ذلك، والنَّاس المنحرفون في
هذا الباب صنفان: القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفر الله له، والمادحون
الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور، فهذا يغلو في الشخص الواحد
حتى يجعل سيئاته حسنات، وذاك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات»[16].
وقال أيضاً: « أهل السُّنَّة عندهم أنَّ أهل
بدر كلُّهم في الجنَّة، وكذلك أمهات المؤمنين: عائشة وغيرها، وأبو بكر وعمر وعثمان
وعليّ وطلحة والزبير: هم سادات أهل الجنَّة بعد الأنبياء، وأهل السُّنَّة يقولون:
إنَّ أهل الجنَّة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ؛ بل ولا عن الذنب؛ بل يجوز أن
يذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً أو كبيراً ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين،
ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم:
أنَّ الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب المكفرة وغير ذلك»[17].
وقال في موضع آخر بعد أن ذكر أحوال بعض
الصحابة: «نحن لسنا ندعي لواحد من هؤلاء العصمة من كلِّ ذنب، بل ندعي أنهم من
أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنَّهم من سادات أهل
الجنَّة، ونقول: إنَّ الذنوب جائزة على من هو أفضل من الصديقين، ومن هو أكبر من
الصديقين، ولكن الذنوب يرفع عقابها بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب
المكفرة، وغير ذلك، وهؤلاء لهم من التوبة والاستغفار والحسنات ما ليس هو دونهم،
فلهم من السعي المشكور والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من
غيرهم مـمَّن بعدهم»[18].
- الباب الثاني: قواعد في
المنهج 1-2
- الباب الثاني: قواعد في
المنهج 2-2
[1] الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/148).
[2] أخرجه: مسلم في كتاب
التفسير (4/2317) رقم (3022).
[3] منهاج السُّنَّة النبوية (5/147).
[4] المرجع السابق (2/45 - 50).
[5] (6/366).
[6] (6/81).
[7] (2/33).
[8] (2/93 - 94).
[9] أفرد الأستاذ محمد مال الله ترجمة لكلِّ صحابي
على حدة، استخرجها من منهاج السُّنَّة النبوية، وفي كل ترجمة استعراض لأكاذيب
الرافضة، وردَّ ابن تيمية عليهم.. وهو جهد مشكورمحمود، أسأل الله له الأجر.
[10] (6/305).
[11] (2/456 - 458).
[12] (5/126 - 133).
[13] (4/337).
[14] (6/80 - 81).
[15] (6/27 - 28).
[16] (6/196 - 198)، وانظر: (6/203 - 205).
[17] (4/310).
[18] (4/336)، وانظر: (4/385).