• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تنبيه الغافلين لرحمات رب العالمين في رمضان

"رمضان بين النفحات والرحمات"


الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على سيد ولد أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فإن فلاح العبد في صلاح قلبه واستقامته وإقباله على ربه وأنسه به، وطاعته والحرص على نَيْل محبته، إلا أن العبد تعتريه آفات تبعده عن طريق الله تبارك وتعالى، فقد ينسى ويغفل أو يفرط ويذنب، ولا يخلو العبد بضعفه البشري من تقصير وذنب، وقد فتح الله ربنا سبحانه أبواب رحمته لعباده، ولم يقنّط عباده من رحمته، فهو التواب الرحيم الذي مَن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن أعرض عنه ناداه من قريب، ومن ترك من أجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد رضاه أراد ما يريد، أهل ذكره هم أهل مجالسته، وأهل شكره هم أهل زيادته، وأهل طاعته هم أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنّطهم من رحمته؛ إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو رحيم بهم، يبتليهم بالمصائب ليطهّرهم من المعايب[1]، فالحسنة عنده بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عنده بواحدة، فإن ندم عليها واستغفر غفرها له، يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.. سبحانه وتعالى.

 إن الله جل وعلا رحيم بنا، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، ورحمة الله تعالى وسعت وشملت كل شيء، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى، المسلم والكافر، البرّ والفاجر، الظالم والمظلوم، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الله وأطراف النهار يطعمهم ويسقيهم ويسترهم ويعافيهم ويمُنّ عليهم ويشفيهم، قال الله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156].

ومما يدل على عظم رحمة الله تعالى ما صح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة"[2].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي، إذ وجدت صبيًّا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا : لا ، والله ! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها".[3]

ورحمة الله تعالى هي التي تُدخل عباده المؤمنين الجنةَ يوم القيامة، ولن يدخل أحدٌ الجنة بعمله فقط، كما قال عليه الصلاة والسلام : (لن يُدخل أحداً عملُه الجنة) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : (لا ، ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ، فسددوا وقاربوا ، ولا يتمنين أحدكم الموت: إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)[4].

وإن من رحمة الله بعباده إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع لتستقيم حياتهم على سنن الرشاد بعيدًا عن الضنك والعسر والضيق، قال تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].

ومن العبادات التي شرعها الله رحمةً بالعباد أن فرض عليهم صيام شهر رمضان ففيه أسرار وحِكَم ورحمات كثيرة، وهو باب عظيم لقطع الغفلة وتذكير الناسي وعودة الشارد، وفيه يجمع الله شتات النفوس وغفلات القلوب، ويأخذ بأيدي عباده إلى واسع رحمته.

  وقد خصّ الله تعالى الصوم بأنه له من بين سائر الأعمال، وهو يجزي به، وإن كانت أعمال البر كلها له، وهو يجزي بها؛ لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بلسان ولا فعل فتكتبه الملائكة الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم والمشرب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أطْيَبُ عِنْدَ الله٬ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ»[5]،  وفي هذا شرف للصوم وعلو منزلته بين سائر العبادات.

   قال الإمام النووي: "اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحدٌ غير الله تعالى به، فلم يعظِّم الكفار في عصر من الأعصار معبودًا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك، وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه فيه حظ قاله الخطابي"[6].

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وقوله في حديث أبي هريرة (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر وإنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب"[7].

من أسرار الرحمة في رمضان:

لا شك أن رمضان موسم رحمة يرحم الله به الأمة، فيرفعها من الجهل إلى العلم، ومن التقصير إلى الطاعة، ومن الجفاء والبعد إلى القرب والمحبة، رحمةً في الأوقات والأبدان، والمجتمعات، ولله ربنا نفحات مباركات في هذا الشهر الكريم نعرض لبعضها في عجالة فنقول وبالله تعالى التوفيق:

1- غفران ما تقدم من الذنب:

من رحمات الله تبارك وتعالى بالناس في شهر رمضان أن تفضل ربنا سبحانه وتعالى علينا بأنه من صام رمضان إيماناً به واحتساباً له غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنوبه جميعاً، فمن فضائل الصيام أنه من مكفّرات الذنوب لمن صام رمضان إيمانًا بالله واحتسابًا لله تعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه»[8].

ومن آثار صوم رمضان الحسنة الجميلة ارتباطه بطاعات أخرى كقيام الليل في رمضان، فإن فيه أجرًا ومنزلة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه»[9].

ثم يترقى العبد إلى منزلة أعلى في آخر الشهر في صورة عظيمة من صور الرحمة، أن يوفق الله العبد لقيام ليلة القدر، وهذا مشروط بالإخلاص في العمل لله، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتساب التعب والأجر عند الله سبحانه وتعالى.

قال الإمام النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم (من قام رمضان إيمانا واحتسابا) معنى إيمانًا تصديقًا بأنه حق مقتصد فضيلته، ومعنى احتسابًا أن يريد الله تعالى وحده لا يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص"[10].

وفي المقابل حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تضييع رمضان وخسارته، لئلا يكون الإنسان محرومًا من رحمات الله الواسعة في شهر الرحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيرًا فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله»[11].

وإن من أعظم الشقاء وغاية الحرمان أن يُحرم العبد رحمات الله المتتالية في شهر رمضان العظيم،  نسأل الله أن يجعلنا من المرحومين.

2- جماعية الطاعة:

من صور الرحمة في رمضان اجتماع المسلمين على الطاعة، فلو أن الله تبارك وتعالى كلّف كل واحد منا بصيام 30 يومًا وحده وقيام 30 ليلة منفردًا عمن حوله، لوجد صعوبة كبيرة وكان هذا العمل فيه مشقة عظيمة، ولكن من رحمة الله تبارك وتعالى بالأمة أن جعل الطاعة جماعية، ففي رمضان يصير الغالب على المجتمع حرصه على الصيام مع أعمال الطاعة والخير والبر، فالمساجد تمتلئ، وأعمال البر والصدقات يتسابق فيها المتسابقون، والأخلاق السمحة تُفرض نفسها، والكل يقرأ القرآن ويجلسون في المساجد، وما ذلك إلا بما أودعه الله في هذا الشهر من بركات، وتيسيره للناس سبل الخير عن غيره من الشهور.

وانظر إلى صيام الست من شوال وقارنها بصيام رمضان، تجد أن الطاعات التي ينفرد بها الكثيرون في غير رمضان، تصبح في رمضان أمرًا عامًّا، وهو ما يحفّز المرء على النشاط في الطاعة؛ وهو ما يعلي لديه من بناء الإيمان، والذي يقوم بدوره بهدم الآفات.

 ونظرًا لأن الإنسان يتأثر بمن حوله، ورؤيته لمشاهد الطاعة لدى العباد تحفّزه، أوصى الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، وقد تضافرت الأدلة لتؤكد على أهمية مصاحبة الأخيار، ففي الحديث: "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"[12].

3- شهر حمية ورحمة للبدن:

من رحمة الله تبارك وتعالى بالعباد أن جعل الصيام وقاية وحماية وتنظيفًا للبدن مما فيه من سموم وأدواء، ففي الصوم صحة البدن، وخلوصه من الأخلاط الرديئة..

وفي الصوم إضعاف للشهوات التي تزداد مع الأكل والشرب وإطلاق النظر، فيأتي الصيام ليكسر هذه الشهوات، فيحفظ الإنسان جوارحه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: الصيام جُنَّة؛ يستجن بها العبد من النار، وهو لي، وأنا أجزي به"[13].

 قال المناوي: "وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة، وحفظ الجوارح، وفي الآخرة من النار"[14].

إن البدن طوال العام مع العمل يكل ويملّ وقد تصاب أجهزة الجسم بالآلام والأسقام، والأفضل أن تستريح الأعضاء بعضًا من الأوقات لتستعيد نشاطها وقوتها مرة أخرى، فمن رحمة العزيز العليم أن جعل للمعدة وقتاً تستريح فيه كما يستريح غيرها من الأعضاء.

وبامتناع الإنسان عن الشهوات بالصوم المشروع؛ ترتقي نفسه وتسمو روحه، وكأنها تقترب من الملأ الأعلى الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون؛ فيكون هذا السمو الروحي، وكسر حدة الشهوات عاملاً مهمًّا ليتخلص المرء من حصار الآفات.

ولما كان فضول الطعام والشراب، والكلام والمنام، وفضول مخالطة الأنام مما يقطعه عن ربه، ويزيده شعثاً، ويشتته في كل واد، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات التي تعوقه عن سيره إلى الله تعالى.

والإنسان إذا صام وذاق مرارة الجوع حصل عنده عطف ورحمة على الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم من القوت فتصدق عليهم وأحسن إليهم.

4- رحمة في تحديد الزمن:

شاءت إرادة الله سبحانه أن يجعل الشهر القمري رمضان محلاً للصيام، ولهذا الشهر علامته الكونية الكبيرة، القمر بدءاً وانتهاءً يحمل في طياته عوامل الوضوح والثبات، فلا تستطيع سلطة أو جماعة أن تُخفيه أو تحرّف المسلمين عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ»[15].

واختيار السنة القمرية في التوقيت له فيها حِكَم عظيمة، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بحوالي عشرة أيام، فعلى هذا يتقدم شهر رمضان كل عام عنه في السنة الماضية عشرة أيام، وعلى هذا ففي خلال ستة وثلاثين عاماً لا يبقى يوم من أيام السنة إلا وقد صامه المسلم، يشهد له بصومه لربه.

اليوم القصير.. واليوم الطويل.. واليوم الحار.. واليوم البارد. وبذلك يتساوى المسلمون في كل أقطار الدنيا في مقدار الصيام وشدته، ولولا هذا لكان نصيب أهل المناطق الحارة أشد من نصيب أهل المناطق الباردة، وناس يصومون يوماً طويلاً أبد الدهر، وناس يصومون يوماً قصيراً، فلله الحمد والمنَّة أن أكرمنا بشهر المنافع والخير والبركات: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن علق الصوم والإمساك على علامتين سماويتين يسهل تمييزهما هما طلوع الفجر، وغروب الشمس، وفي ذلك ضبط للوقت يستطيعه أي إنسان في أكثر مناطق العالم كما قال سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

ومن رحمة الله بعباده أن منح الناس في رمضان وقتاً يعوّضون فيه كل ما فقدوه في صيام اليوم من حاجة الجسد، وذلك بإباحة الطعام والشراب والنكاح ليلاً، ومنعه منهم نهاراً، وبذلك يتمحض الصيام نفعاً خالصاً للإنسان بدنياً ونفسياً.

وفي تعيين شهر رمضان بالذات شهراً للصوم، دون ترك التعيين للإنسان ليختار شهراً معيناً لنفسه من السنة، فيه إشعار للمسلمين بوحدتهم، ومن تعويدهم النظام والانضباط والاستسلام لله عزَّ وجلَّ، وفيه فتح الباب لأعمال موحدة من الخير، ينال كل مسلم من المسلمين فيها نصيبه، وإعلان لدخول المسلمين جميعاً في يوم واحد مدرسة واحدة فيها الصيام والقيام، والبذل والإحسان، وتلاوة القرآن.

5- نداء رمضان: يا باغي الخير أقبل:

إن أبواب الأجر في الإسلام كثيرة، وإن أسباب اكتساب الحسنات متعددة، وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة، فضلاً من الله - عز وجل - على عباده، وينادي مناد في أول ليلة من رمضان فيقول: «يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر»[16].

إن الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنزل فيه القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلا أن بعض الناس أرخص لياليه، وأرهق فيها بصره مع الفضائيات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال ويتطلع لها لعل فيها سعادة السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربح الناس وهو الخاسر.

6- فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النيران:

ومن رحمة الله بعباده في رمضان أن ساعدهم على الطاعات وهيّأ لهم الوسائل المعينة على ذلك، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين"[17] [متفق عليه]. ففي شهر رمضان المبارك يفتح الله سبحانه وتعالى أبواب الجنة على مصراعيها لكل تائب توبة نصوحة وفق شروطها الشرعية المعتبرة وتغلق بوجهه كل أبواب الجحيم.

ومن فضائل الصوم في الآخرة ما اختصهم الله به من أبواب الجنة، فجعل سبحانه في الجنة بابًا يسمى باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، قال صلى الله عليه وسلم : «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ»[18].

واعلم أخي الكريم أن غلق أبواب النار في رمضان حقيقة لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر. قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]، إنها النار.. التي رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها لما رآها: "لم أر منظراً كاليوم قط أفظع" (رواه البخاري). وقال عنها -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، قالوا وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار" رواه مسلم.

7- تصفيد الشياطين ومردة الجن:

ومن رحمات الله تبارك وتعالى بالناس في شهر رمضان المبارك أن الله سبحانه وتعالى يصفد الشياطين الذين يسعون في الأرض فساداً. ففي الصحيحين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إلى غيره .

وفي رواية الترمذي وابن ماجه وغيرهما: "إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب , وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادي : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".[19].

فالشياطين في رمضان يضعف سلطانهم على أهل الإيمان وأهل الصيام، ويقوى سلطان أهل الإيمان وإرادتهم للخير، فلا يتمكن الشيطان ولا يصلون إلى أهل الإيمان وأهل الصيام مثل ما كان يصلون إليه ويتمكنون منهم في غير رمضان، بخلاف الكفار الذين لا يراعون حرمة لشهر رمضان، فليسوا داخلين في هذا الحديث، ففي شهر رمضان يقوى إرادة المؤمنين للخير، وتضعف إرادتهم للشر.

لذلك نرى أن كثيراً من العصاة يتوبون إلى الله توبة نصوحة في شهر رمضان فيلزمون المساجد ويحافظون على الصلوات والصيام وغير ذلك من الخيرات، كما نلاحظ كثرة المصلين في المساجد وقلة المتنازعين في المحاكم ومراكز الشرطة.

8- الاستيقاظ بالأسحار:

الليل واحة المتقين، تجتمع فيه شتات الهموم، وتصفو النفوس ويتوجه العبد للقاء الحي القيوم، والسَّحَر وقت شريف، يقترب الله جل وعلا من عباده، لعلهم يتوبون أو يناجون ربهم ويُنزلوا حاجتهم به، ويستغفروه ويتوبوا إليه، ولكن كثيرًا من المسلمين طوال العام يكونون نائمين في هذا الوقت الشريف، فإذا جاء رمضان قاموا إلى السحور فذكروا ربهم وصلوا ركعتين في جوف الليل ودعوا ربهم واستغفروه.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"[20]، استجابوا لنصيحة نبيهم صلى الله عليه وسلم حين نادى فيهم: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" [21]

ولما سُئل الحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورًا من نوره"[22].

وما أروع ليل رمضان، يتقلب العبَّاد بين أنوار الساعات المباركة في ساعات رمضان، فتهتز قلوبهم من روعة المشهد ولذة الإيمان، فتنساب الدموع.

إن أغلى ما في تلك الساعات من ليالي رمضان: تلك الدموع التي تنساب في الليل، وإنها لتغسل الران من على القلوب، وتخلص الروح من قيود الأرض، تزرع الإخلاص في الليل ليجني حصاده في عمل النهار، يرقى بها العبد ويسمو، ولا يعدل لذتها عنده شيء.

تلك الدموع التي تصنع العُبّاد والفرسان، تلك الدموع التي أدرك عبد الله بن عمرو بن العاص معناها وقيمتها فقال: "لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار"[23].

الجيل القرآني الفريد:

يا لروعة هذا الجيل القرآني الذي تخرج من مدرسة النبوة، وصُنعوا على عين أستاذها، كيف الحال لو صار ذرف الدموع في جوف الليل اتجاهًا عامًّا وسمة أساسية لمجتمع، ها هو أبو تراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف أحوال الأصحاب، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول علي: "والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صُفرًا شعثًا غبرًا بين أعينهم كأمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم".[24]

أيها المقبل على ربه! ما أحوجك في رمضان إلى توبة صادقة ودمعة صادقة، تغسل عنك أدران الذنوب، تكون عنوان ضراعاتك لمولاك، وبرهان خوف ورجاء ومحبة للرحمن، علها تكون طوق النجاة.

أيها العبد المتلهف لغيث الرحمات: دمعة في ليل رمضان كقطرة الندى، تجلي الغشاوة والصدى، تنير درب المسير، تحلي الطعم المرير، ترضي الإله القهار، ترفع عن قلبك الران، إن ذقت طعمها فلن تنساها، فترقب الليل حتى تلقاها.

ماذا بعد الكلام؟

ـ احمد الله تعالى أن بلغك رمضان، فهناك أناس قد حرمهم الله تبارك وتعالى، من تلك النعمة وتوفاهم قبل رمضان.

- استقبل شهر رمضان بالتوبة والاستغفار واحرص على جِلاء الصدى عن قلبك لتسلم لك الجوارح، وتسهل عليك الطاعة، وتنشط فيها.

- استعن بالله في العبادة والطاعة وارجوه أن يوفقك ويأخذ بناصيتك إليه.

- احرص على استغلال السوق الرابحة وهي مفتحة الأبواب قبل أن يغلق سوق رمضان، ونوّع في الطاعة بين الذكر والتلاوة والصدقة والقيام وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وإعانة الفقراء،... رغبة ورهبة لله تبارك وتعالى.

- العشر الأواخر من رمضان مقبلة عليكِ، فاجتهد في الطاعة في هذه العشر، من قيام الليل وقراءة القرآن، وأري الله من نفسك خيرًا.

- ادع الله أن يبلغك ليلة القدر.

- اختم الشهر بالاستغفار والتوبة والندم على التقصير، وارج من الله القبول، وحسِّن ظنك بربك.

أسأل الله أن يستعملنا في طاعاته وأن يمنّ علينا بالقبول والعفو والعافية، وأن يسبل علينا عافيته ومغفرته ورحماته، والحمد لله رب العالمين.

 :: موقع مجلة البيان الالكتروني 

 


[1] - عدة الصابرين لابن القيم (1/244).

[2] - صحيح مسلم (6908).

[3]-  متفق عليه، البخاري (5653) ومسلم (6912).

[4] - متفق عليه: البخاري (5349) ومسلم (7042).

[5] - متفق عليه: البخاري (1846)، ومسلم (1151).

[6] - شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (8/29).

[7] - جامع العلوم والحكم (1/351).

[8] - متفق عليه: البخاري (38) ، ومسلم (760).

[9] - متفق عليه: البخاري (37) واللفظ له، ومسلم (759).

[10] - شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (6/39).

[11] - صحيح الترغيب والترهيب للألباني (490).

[12] - رواه أحمد وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، (5019).

[13] - حسنه الألباني في صحيح الجامع (7757).

[14] - فيض القدير للمناوي (4/319).

[15] - متفق عليه: البخاري (1909) ومسلم (1081).

[16] - رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني.

[17] - متفق عليه:  البخاري (1799) ، ومسلم (1079) .

[18] - متفق عليه: البخاري (3257)، ومسلم (1152).

[19] - رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني.

[20] - متفق عليه: البخاري (1094) ، ومسلم (758).

[21] - صحيح سنن الترمذي للألباني (3579).

[22] - إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/412).

[23] - صفة الصفوة، ابن الجوزي، (1/658).

[24] - البداية والنهاية، ابن كثير، (8/7).

أعلى