معنى الشمول : العموم ، والاستيعاب ،
والإحاطة بأمر ما . وعلى هذا الوجه جاء الوحي الإلهي بالإسلام ، دين الله لعباده
في كل العصور ، والذي بعث به رُسُلَه - عليهم السلام - إلى كل الأمم ، كما قال
الله تعالى : {
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ( النحل : 36 ) ، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ( فاطر : 24 ) .
الهداية الأولى : لقد أحكم الله الدين قبل نشأة الأمم ، أو
قيام الحضارات البشرية ، وعلَّمه للإنسان منذ أول الطريق ، حين أُهبط على
الأرض ؛ لأنه أساس هدايته وضرورة معاشه ومعاده ، كما قال - تعالى - : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ
يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ أَعْمَى } (
طه : 123-124 ) وهذا خبر الحق والصدق الذي لا يتخلف أبداً :
بأن شريعة الله لعباده هي الهداية الخالصة التي تعصمهم من الضلال والضياع في
كل شؤون الحياة ، والتي تفضي بهم إلى سعادة الأبد .
ثم هذا نذير قاطع بأن الإعراض عنها يؤدي إلى
ضنك الحياة ، وشقاء العيش وعماية النهاية ، وضرورة أن الإنسان لا يعيش
في فراغ ، فمن أعرض عن الحق لا بد أن يقع في الأباطيل ، وأن يتمرغ في أوحالها
وأهوالها ، قال الله تبارك وتعالى :} فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } ( يونس : 32 ) ، وهذا تقرير واضح بشمول الهدي الإلهي
لكل ما يحتاجه الإنسان في معاشه ومعاده ، حتى يتأكد الاتباع ، ولا يضطر الإنسان
إلى الإعراض في شيء من جوانب الحياة المتلاطمة .
الشريعة الدائمة العادلة :
وعلى هذا الهدي
تتابعت الرسل - عليهم السلام - بدين الله الجامع الشامل ، وجاؤوا بمنهج واحد مؤتلف
غير مختلف ، كما قال - تعالى - : {
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ
مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى : 13 ) ؛ ذلك لأن الشارع الموحي واحد لا شريك له .
والرسالة عبر أولي العزم جميعاً رسالة صادقة
هادية ، من فجر التاريخ النبوي الشريف إلى ختامه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم
امتداده إلى يوم القيامة ، قال - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ
الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) ، وهذه آية جامعة لخصائص الرسالة الإلهية ، وأنها
تقصد قصداً إلى تحقيق العدل ، وإقامة القسط بين الناس ، خاصة إذا تنازعوا واختلفوا
، كما قال - تعالى - : {
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (
البقرة : 213 ) .
الرسالة الخاتمة : وكان كل رسول يُبعث إلى قومه بالشريعة
الإلهية الجامعة ، وتعادلت كثرة الرسل -
عليهم السلام - مع تعدُّدِ الأقوام والأمم ، إلى أن بعث الله - تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة
الخاتمة ، فقام بعموم رسالته مقام الكثرة السابقة ، واجتمع له - صلى الله عليه وسلم -
الشمول من أطرافه جميعاً ، خاصة بالمعجزة
الخاتمة ( معجزة القرآن الكريم ) أو الفرقان الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل ، وجعله حجته الدائمة على جميع
البشر كلهم ، وصوت النبوة الممدودة إلى آخر
الدهر .
وفي هذه الرسالة الخاتمة اتسعت جوانب الشمول
الإسلامي ، وامتدت طولاً وعرضاً وعمقاً حتى استوعبت جميع الأفراد والأمم ، وقررت
كلَّ طيِّب من المبادئ والنُّظم ، وتوجهت بالخطاب الأعلى لكل الأزمنة والأمكنة ،
مع غاية التبيان في الخطاب ، وقوة الحجة ، وصحة الدليل والبرهان .
هذا الإجمال يحتاج إلى تفصيل ، وبيان ،
واستدلال من صريح الوحي الإلهي الجليل ، المحفوظ بأصليه الجامعَين ( القرآن الكريم
، والسُّنة المطهرة ) كما قال - تعالى - { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (
هود : 1 ) وكما قال - تعالى - مخاطباً رسوله الأمين { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن
تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } ( النساء :
113 ).
آفاق الشمول الإسلامي :
تعددت جوانب الشمول
الإسلامي ، واتسعت آفاقه في هذه الرسالة الخاتمة ، التي أراد الله - تعالى - لها
أن تكون خطابه الدائم إلى يوم القيامة ، وحجته الممدوة في حياة الرسول الخاتم -
صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته عليه السلام .
ويتمثل ذلك في ثلاثة أقسام :
• الشمول الظرفي : ( المكان والزمان ) .
• الشمول الشخصي : ( الأفراد والجماعات ) .
• الشمول التشريعي : ( المبادئ والأحكام )
وسنتحدث عن كلٍّ منها على الترتيب .
أولاً : الشمول الظرفي :
ونعني به أن الإسلام
خطاب إلهي موجَّه لكل البقاع في الأرض ولكل الأزمنة منذ بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور إيذاناً
بتصدع الكون ، وانتهاء مرحلة التكليف والاختبار في حياة الإنسان .
ولذلك كان خطاباً لأهل مكة الذين بدأ بهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم :} وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ( الشعراء : 214 ) .
وكان خطاباً لأهل الجزيرة العربية ، ومن
حولها من البشر ، كما قال تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ( الأنعام : 92 ) ، وقال - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ
أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ( الشورى :
7 ) وقد ثبت
عملياً أن أم القرى ( مكة ) هي مركز اليابسة ، وما حولها جميعُ الأقاليم في زمنه
- صلى الله عليه وسلم - وما بعده كما سيتضح فيما يأتي .
ثانياً : الشمول الشخصي :
ونعني به استيعاب
جميع الأشخاص العقلاء البالغين في توجيه الخطاب الإسلامي إليهم ، سواء كانوا أفراداً ، أو
كانوا كالأسرة أو القبيلة ، أو كانوا شعوباً وأمماً تحكمهم الأعراف والتقاليد في البوادي
، أو تحكمهم حكومات في دولة منظمة ذات
قوانين .
إن كل من يدرج على أرض الله مخاطَب بهذه
الرسالة ، ومكلَّف بها في أي مكان درج
، وفي أي زمان وُجِد ، كما قال - تعالى - في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ
} (
الأنعام : 19 ) فقوله - تعالى - : { لِأُنذِرَكُم بِهِ } خطاب
لأهل مكة أو العرب عامة برسالة القرآن وقوله - تعالى - : {
وَمَن بَلَغَ } أي أنه خطاب لكل من بلغه القرآن ، أو لكل من بلغ سن التكليف ، واللفظ عام في العرب
وغيرهم في معنييه :
- الأول من البلاغ بمعنى العلم به على وجه
صحيح .
- الثاني من البلوغ وهو حد التكليف الملزِم
بالخطاب الإلهي .
ومِن أَجْمَع وأصرَح الأيات في ذلك قوله -
تعالى - : {
قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ } ( الأعراف : 158 ) ؛ فهذا تقرير إلهي حاسم في شمول الرسالة
الخاتمة ، وأنها موجَّهة للناس جميعاً ، بدليل التاكيد
بلفظ ( جميعاً ) لرفع أي احتمال أو التباس بأن المراد بالناس بعضهم أو معظمهم أو أهل
زمان مخصوص منهم ، فأفاد ذلك أن
المراد هو جميع العقلاء الذين يصلحون لهذا الخطاب الإلهي التكليفي الشامل .
ومن هذه الأيات أيضاً قوله - تعالى - : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } ( الفرقان : 1 ) وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ( سبأ : 28 ) ، وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 ) .
ويلاحظ أن هذه الآيات الكريمة كلها مكية
نزلت في عهد الضعف قبل التمكين وقبل وجود أي قدرة للجماعة المسلمة الأُولى على
تحقيق هذه القضية ، وإنما سبقت في العهد المكي للتأسيس الاعتقادي ، وللتأصيل
الديني في ذاته ، وقد ضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع التطبيق العملي
بعد ذلك بسنوات ، حين أقام الدولة في المدينة المنورة ، ومهَّد الأمور من إبرام
صلح الحديبية مع مشركي مكة ، والذي كان فتحاً مبيناً ؛ كسر الله به حميَّة المشركين
في الجزيرة كلها ، وأزال به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدر المؤامرات
اليهودية في خيبر ، وحينئذٍ أمِنَت الطرق فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كُتُبَه إلى ملوك الفرس والروم و مصر ... وغيرها تحقيقاً وتطبيقاً لمبدأ عالمية
الإسلام أو شمول الأشخاص أفراداً وجماعات .
ثالثًا : الشمول التشريعي :
وهو الأساس الثابت في
الدين الإلهي للناس ، على ألسنة الرسل – عليهم السلام - في كل العصور ، مع مراعاة
بعض الفروق والتفاوتات المناسبة لكل الأزمنة أو الأمكنة أو الأقوام ، حسبما تقتضيه
الحكمة الإلهية المبنية على العلم المحيط .
والأصل في هذا هو قوله - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى : 13 ) .
وفي الرسالة الخاتمة بالذات أَكثَرَ القرآن
من تقرير الشمول الجامع ، بصيغ عديدة غاية في الصراحة والوضوح ، كما قال - تعالى -
: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( النحل :
89 ) .
والتبيان أبلغ من البيان ، والشمول مأخوذ
نصاً من قوله - تعالى - {
لِّكُلِّ شَيْءٍ } مما يحتاجه الناس في شؤون حياتهم إيماناً
وأخلاقاً وعبادات ومعاملات .
وقال - تعالى - في ختام العهد المكي { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (المائدة: 3 ) والآية الكريمة نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة .
والإكمال يرجع إلى معاني الجودة في الصفات (
الكيف ) والإتمام يرجع إلى معاني الشمول في الأعداد ( الكم ) .
فتعين من هذا أن الدين الذي رضيه الله -
تعالى - لعباده مستجمِع لكل الصفات الجيدة ، ولأعداد الأحكام في كل جوانب الحياة ؛
لأن الله - تعالى – هو الذي يشرِّع لعباده ، ولا يعطيهم ديناً ناقصاً أبداً ، كما
قال - تعالى - ذلك من قبل في العهد المكي{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا
قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ
مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
المُسْلِمِينَ * } (
الأنعام : 161-164 ) .
وقد قال ذلك في الإسلام الذي أوحاه للرسل من
قبل ، ومن ذلك على سبيل المثال ما قاله عن موسى - عليه السلام - { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً
لِّكُلِّ شَيْءٍ } (
الأعراف : 145 ) .
وهذا هو شأن الدين الإلهي في كل العصور ،
خاصة في الرسالة الخاتمة على ما نبينه في المقال التالي - إن شاء الله تعالى -
تفصيلاً وتدليلاً ؛ فكانت بذلك كله في مرتبة العقائد المقرَّرة ، والمسلَّمات
المتواترة بنقل الكافة عن الكافة ، لا تقبل جدلاً أو لجاجةً !
ولذلك استفاض علماء الإسلام في تقريرها ،
وتفصيلها ، وبيان جوانبها : كالمفسرين ، والمحدثين ، والأصوليين ، والفقهاء ، بما
وجدوا من فيوض النصوص في كتاب الله - تعالى - وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -
وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين على ما نُبيِّنه بإيجاز فيما يلي :
أولاً : فيوض من نصوص القرآن الكريم :
ومن المهم أن نلتفت
إلى كثرة الآيات الكريمة التي قررت وأكدت هذا الشمول التشريعي الجامع ، وقد كانت
آية واحدة كافية للإلزام وإقامة الحجة على العالمين ؛ فكيف إذا تكاثرت الآيات
الكريمة على هذا النمط في العهدين المكي والمدني على سواء؟ ومن ذلك قوله - عز وجل
- :
أولاً : في العهد المكي قبل قيام دولة
الإسلام :
( أ ) : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
} (
الجاثية : 18 ) .
( ب ) : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( النحل :
89 )
( ج ) : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } ( الشورى : 10 ) .
( د ) : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ } (
هود : 1
) .
( هـ ) : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ
إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً } ( الأنعام : 114 ) .
ثانياً : ثم في العهد المدني بعد أن مكَّن
الله - تعالى - للمسلمين وجعل لهم داراً وأنصاراً ، وإماماً يحكِّم شريعة الله -
تعالى - :
( أ ) : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ } (
البقرة : 208 ) .
وهذا أمر صريح للمؤمنين بأن يأخذوا بجميع
عُرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره أي : « أُمروا
كلهم أن يعملوا بجميع شُعب الإيمان ، وشرائع الإسلام - وهي كثيرة جداً - ما
استطاعوا منها » .
كما قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة .
( ب ) : { إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن
لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } (
النساء : 105 ) .
( ج ) : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ } (
النساء : 59 ) .
( د ) : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (
النساء : 65 ) .
( هـ ) : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكَ } (
المائدة : 49 ) .
( و ) : { أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
( المائدة : 50 ) .
( ز ) : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ( المائدة : 3 ) .
خلاصة الآيات الكريمة جميعاً :
أن الله - تعالى -
شرع لنا ديناً جامعاً ، وألزمنا إلزاماً باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وجعله فوق الكفاية ؛ بحيث لا نحتاج إلى
استعارة أي حكم أو تشريع من غيره ، ولذلك أَلزَمَنا بالدخول في
كافة شرائعه ، وحرَّم علينا تفرقته وتجزئته
تحريماً قطعياً ؛ لأن هذا ينافي الإيمان ، ويبطل دعوى صاحبه في دخول الإسلام .
وقد استفاض أئمة التفسير في تقرير هذه
المعاني عند تفسير هذه الآيات الجامعة ، وبيان تفصيلاتها الجزئية ، وما يندرج
تحتها في العقائد ، والأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات : كآيات البيع ، والرهن ،
والنكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرضاع ، والنفقة ، والميراث ، والوصية ... وغير
ذلك من شؤون الحياة جميعاً التي تربو على الإحصاء والعد ، بما يجِدُّ فيها من جديد
دائم ، ينضوي تحت هذا الشمول الجامع لقواعده ، وأصوله ، وشُعَبِه المتكاثرة .
ثانياً : كثرة شُعب الإيمان في ضوء السُّنة
المطهرة : والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الإيمان
بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان »[1] .
وقد ألَّف العلماء في شرح هذه الشُّعب كتباً
جليلة منها : كتاب ( المنهاج ) لأبي عبد الله الحليمي الشافعي ( توفي 403 هـ ) .
وكتاب ( شُعب الإيمان ) لأبي بكر البيهقي (
توفي 458هـ ) وقد زاد فيه على كتاب شيخه الحليمي ، وبلغ بالشعب : ( 77
) شعبة ، واستدل لكل منها بدليل من الكتاب أو السُّنة .
وقد بلغ بعضهم بها ( 79 ) شعبة كما روي ذلك
عن أبي حاتم بن حبان البستي .
وهل المراد هنا العدد بذاته ، أم المراد
بيان الكثرة وسعتها ؟ « لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها
ولا تريد التحديد بها » .
كما قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير
آية : {
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ( التوبة : 80 ) .
فإن أريد تحديد العدد ، فإن في كل شعبة
عشرات أو مئات من الأحكام التي تندرج تحتها ، وبذلك يخرج العدد عن حدود الحصر .
وإن أريد التكثير عاد المعنى إلى القصد
الأول ؛ فيثبت ( الشمول)في كل الأحوال ... والحمد لله رب العالمين .
نموذج من كلام العلماء في الشمول الإسلامي
: أورد الحافظ ابن حجر في شرح البخاري شيئاً من ذلك ، فقال
: « إن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب ، وأعمال اللسان ، وأعمال البدن :
- فأعمال القلب فيها المعتقدات والنيَّات ، وتشتمل على ( أربع وعشرين خصلة ) : الإيمان بالله ، ويدخل فيه :
الإيمان بذاته وصفاته ، وتوحيده ، وأنه ليس كمثله شيء .
والإيمان بملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر
خيره وشره ، والإيمان باليوم الآخر ، ويدخل فيه : المسألة في القبر ، والبعث ،
والنشور ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، والجنة والنار ، ومحبة الله ، والحب
والبغض فيه ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه ، ويدخل فيه : الصلاة
عليه ، واتباع سنته ... والإخلاص ، ويدخل فيه : تَرْك الرياء والنفاق ، والتوبة ،
والخوف ، والرجاء ، والشكر والوفاء ، والصبر ، والرضا بالقضاء ، والتوكل والرحمة
... والتواضع ويدخل فيه : توقير الكبير ، ورحمة الصغير ، وترك الكِبْر ، والعُجب ،
وترك الحسد والحقد ، والغضب .
- وأعمال اللسان : وتشتمل على ( سبع خصال ) .
- وأعمال البدن وتشتمل على ( ثمان وثلاثين خصلة ) منها ما
يختص بالأعيان ، وهي ( خمس عشرة خصلة ) وعدَّ منها : التطهُّر ، والعبادات جميعاً
... ومنها ما يتعلق بالاتباع ، وهي ( ست خصال ) : التعفف بالنكاح ، والقيام بحقوق العيال
، وبر الوالدين ، واجتناب العقوق ، وصلة الرحم ، وتربية الأولاد ... وفيها ما
يتعلق بالعامة ، وهي ( سبع عشرة خصلة ) : القيام بالإمرة مع العدل ، ومتابعة
الجماعة ، وطاعة ولي الأمر ، والإصلاح بين الناس ، وإقامة الحدود ، والجهاد ،
وأداء الأمانة ...
وحُسن المعاملة ، وفيه : جمع المال من حِلِّه ، وإنفاقه في
حقه ، ومنه : ترك التبذير والإسراف ، وإماطة الأذى ... » .
ويختم ذلك بقوله : « فهذه ( تسع وستون خصلة
) ويمكن عدُّها ( تسعاً وسبعين خصلة ) باعتبار أفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض مما
ذكره والله أعلم »[2] .
ويتضح أن الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه -
أدخل في ( شُعب الإيمان ) كل التكاليف التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، في كل
شؤون الحياة العامة والخاصة ، وهذا هو معنى الشمول الإسلامي كما بينه علماؤنا -
رضي الله عنهم - أخذاً من القرآن الكريم ، والسُّنة المطهَّرة .
أربع شعب جوامع : وقد وفَّق الله - تعالى - بعض العلماء
المعاصرين إلى اجتهاد نافع في حصر هذه الشُّعب الكثيرة ، بردها إلى أربع شعب كلية
جامعة ؛ لتكون أسهل في الحفظ ، وأيسر في الحصر ، وأكثر في استيعاب ما تحتها من
مفردات ومسائل وأحكام ، وأوضح دلالة على جوانب الشمول الإسلامي في التشريع
والتكليف ، وهي على الترتيب : ( شعبة الإيمان ، وشعبة الأخلاق ، وشعبة العبادات ،
وشعبة المعاملات ) وتفصيل ذلك كالتالي :
أولاً : شعبة الإيمان :
ونعني بها شعبة
التصديق الجازم ، والاعتقاد الخالص بأصول الدين ، من الإيمان بالله - تعالى - وملائكته ، وكُتبه ، ورُسُله ،
واليوم الآخر ، ويدخل تحتها كل ما
جاء في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة عن الإلهيات ، والنبوات ، والسمعيات ، وحقائق الغيب التي جاء بها الوحي المعصوم ، وهذا جانب
واسع جداً ، ولا يوجد مثله صحيحاً موثَّقاً عند غير المسلمين ،
بعدما حرَّف أهل الكتاب ما جاءتهم به رسلهم عليهم السلام .
ثانياً : شعبة الأخلاق :
وهي السجايا النفسية
الراسخة ، التي يصدر عنها السلوك الإنساني الخارجي من خلال إرادة حرة ، ونية صالحة .
والأخلاق هي الأصل الثاني في دين الله -
تعالى - لذلك أمر بأحسنها ، ونهى عن سيئها ، كما قال - تعالى - :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ
الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } ( النحل : 90) .
وقد استفاض القرآن الكريم في بيانها ،
وتحديدها ، والدعوة إليها ( أمراً ونهياً ) ابتداءً من العهد المكي ، عهد التكوين
والتأسيس الديني ، وتابع ذلك بكثرةٍ - أيضاً - في العهد المدني ، مما يدل على
أهميتها البالغة ، ومكانتها في دين الله - عز وجل - وضرورتها في كل جوانب الحياة .
ومن هذه الأخلاق الحسنة : الصبر ، والإخلاص ، والصدق ، والأمانة ، والعدل
، والفضل ، والعفة ، والتعاون ، والإيثار ، والبذل ، والسخاء ، واللين ، والعفو ،
والاعتدال في الأقوال والأفعال ، والوفاء بالعهود والوعود ، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ، والجهر بالحق ، والشورى ... إلخ .
ومن الأخلاق السيئة التي شدد في النهي عنها :
الخيانة ، والغدر ،
ونقض العهود ، والكذب ، وشهادة الزور ، والإسراف ، والغِلظة ، والفحش ، والكبر ، والغرور
، والفخر ، والبطر ، والرياء ، والحقد ، والحسد ، والغيبة ، والنميمة ، والسخرية
والتنابز بالألقاب ، والتجسس ، وظن السوء .. إلخ .
ثالثاً : شُعبة العبادات :
ونعني بها ما شرعه
الله - تعالى - ليكون عبادة له - سبحانه وتعالى - قولاً ، أو فعلاً : كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ،
والعمرة ، والطواف ، والجهاد ، والذكر ،
والتفكُّر في عظمة الله وبديع خلقه ، وتلاوة القرآن ... ونحو ذلك .
رابعاً : المعاملات :
ونعني بها الأحكام
التي شرعها الله - عز وجل - المتعلقة بتصرفات الناس ، وعلاقتهم ببعضهم البعض ، في
كل شؤون حياتهم : كأحكام البيع ، والرهن ، والتجارة ، والمزارعة ، والإجارة ،
والنكاح ، والرضاع ، والطلاق ، والعدة ، والهبة ، والهدية ، والنفقة ، والميراث ،
والوصية ، والحرب ، والصلح ، والهدنة ، ومعاملة الأسرى ، وتقسيم الفيء والغنائم ،
والحكم بالعدل ، والنهي عن الظلم ، والجور في الأموال ، والربا ، والزنى ... وغيره
.
وقد أُلحق بهذا الباب الشرائع والأحكام التي
تحمي الناس في دينهم ، ودمائهم ، وأعراضهم ، وأموالهم : كشرائع الحدود والقصاص ،
والجهاد في جانبه التعاملي ، بعد جانبه العبادي الذي مر ذكره .
وقد فصلنا ذلك في كتاب ( المنهاج القرآني في
التشريع ) لمن شاء المزيد .
« وهكذا استوعبت هذه الشعب الأربع جميع
الأحكام والتكاليف الإلهية التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، والتي اجتهد
العلماء قديماً في عدها لتوافق منطوق الحديث الشريف ، والتي تتسع لأضعاف هذا العدد
من حيث المعاني والمفهوم ، تصديقاً وتحقيقاً لقوله - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ( النحل
: 89 ) .
تنبيهات ضرورية تتعلق بالشمول الإسلامي :
وفي ختام هذا ننبه
إلى حقائق بالغة الأهمية تتعلق بالشمول الإسلامي :
أولاً : الشمول عقيدة متواترة : فهو حقيقة معلومة من الدين بالضرورة ، وعقيدة
يقينية منقولة إلينا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضي الله عنهم
- نقلاً متواتراً ؛ ولذلك يجب الإيمان بشمول الإسلام لكل شؤون الحياة من حيث
المبدأ ، ولا يحل إنكار الشمول أو إنكار جزء منه ، وإلا كان ذلك نفاقاً في الدين ،
أو ردَّة عنه .
أما النفاق فأدلته كثيرة جداً في الكتاب
والسُّنة ، ومنه الآيات المتتابعة في سورة النساء ، ومنها قوله - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } ( النساء : 61 ) .
وقوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ
يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( النور : 47 ) .
أما الردَّة ، فقد تقع بتجزئة الدين ،
وتبعيض أحكامه ، كما قال تبارك وتعالى :} أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا
جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ } ( البقرة : 85 ) .
فسمى الله - تعالى - التجزئة في الدين (
كفراً ) يُبطل الإيمان السابق ، ولذلك توعَّد عليها بخزي الدنيا ، وأشد العذاب في
الآخرة ، وهو لا يكون إلا للكفار ، كما قال الله - عز وجل - في آل فرعون : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ } ( غافر : 46 ) .
ولذلك حرَّم الله - عز وجل - أشد التحريم
هذه التجزئة للدين ، وهذه التفرقة بين أحكامه من حيث الإيمان بها ، والتصديق
بمشروعيتها ، وقد حذر الله – تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من
هذا العمل فيما لا يحصى من الآيات .
ولذلك كانت هذه القضية على غاية الوضوح في
الأمة الإسلامية طوال تاريخها ، وكانت من المسلَّمات حتى عند أهل الذنوب والمعاصي
، لا ينكرونها ، ولا يجادلون فيها ، إلا إذا كانوا من الزنادقة ، أو أهل البدع
والأهواء المهلكة !
فلما رُزئت الأمة بالاحتلال الأوروبي الكافر
، أشاع فيها هذه المفاهيم الخاطئة ، بجعل الدين مقصوراً على المفهوم الأوروبي
النكد : أي أنه علاقة بين العبد وربه فقط ، أما شؤون الحياة ، فيزاولها الإنسان ،
ويشرِّع لها ، أو يبتدع فيها بهواه ، أو كما قال بعض طواغيتهم : « يتولى الإنسان
المقعد مكان الله ! » تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً .
ومن هنا اندلع في العالم الإسلامي هذا
الضلال الوافد ، الذي يفرق بين الاعتقاد والاقتصاد ، وبين الدين والسياسة ، أو
يقسم الحياة بين الدين والقانون الوضعي ؛ فيجعل للدين الصلاة ... ونحوها ، ويجعل
للقانون كل ميادين الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية ، والتعليمية ...
إلخ .
وسيظل الصراع محتدماً بين الحق والباطل ،
حتى يفيء المسلمون إلى أمر الله ، ويكون الدين كله لله .
ثانياً : الشمول وعقيدة التوحيد :
فقد تقرر عندنا نحن
المسلمين أن الله - عز وجل - هو الحاكم الهادي ، وأنه - سبحانه - له وحده ( الخلق والأمر ) يحكم
ما يشاء ، ويشرِّع ما يريد ، ويأمر وينهى
ولا منازع له ، ولا معقِّب عليه في حكمه الجليل .
وقد شرَّع لعباده طوال التاريخ البشري على ألسنة
رسله - عليهم السلام - وبواسطة
كتبه الجليلة ، ووحيه الحكيم .
واستنكر على كل من يتطاول إلى هذه الخصوصية
الإلهية التي تفرد بها - سبحانه
وتعالى - كما قال - عز وجل - : {
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (
الشورى : 21 ) .
ولذلك جاءهم بدين كامل الصفات ، تام الأحكام
، ليس فيه أدنى نقص أو خلل فمن لم يؤمن بشموله واستباح الأخذ من غيره ، أشرك به -
سبحانه وتعالى - وكفر بمقررات الوحي الإلهي ، ولذلك كان على رأس المهمات :
الاعتقاد بوحدانية الله - تعالى - واليقين بشمول دينه الحق ، والكفر بكل طاغوت
يشرع من دون الله ما لم يأذن به الله .
وهذه قضية إيمانية قطعية ، ينبغي أن ينتبه
إليها كل موحد ، وأن يجعلها على رأس دعوته وجهاده في سبيل الله عز وجل .
ثالثاً : شمولنا وشمولهم :
لقد شاع في
الاستعمالات الحديثة مصطلح ( الأنظمة الشمولية ) وهي صفة ذم وطعن باطِّراد لِمَا
عُرف عن هذه الأنظمة من استبداد ، وغطرسة ، وظلم ، وما أوقعته بالناس من مظالم
ومآس فادحة ، وذلك كالشيوعية ، والنازية ، والفاشية ... إلخ .
فهل ( الشمول الإسلامي ) يشبه شيئًا من ذلك ؟
• من حيث ( المبدأ ) يختلف الشمول الإسلامي
عن كل ما عُرف في الأرض قديماً وحديثاً ؛ لأن شارعه هو الله
الرحمن الرحيم الذي {
كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ( الأنعام : 12 ) المتفرد بالحكمة التامة ، والعدل المطلق ،
والفضل العظيم .
• ومن حيث ( التشريع ) الذي أقامه الله -
تعالى - على الحق ، والخير ، والعدل ، والإحسان ، وجعل من مقاصده الكبرى الإصلاح
ومنع الفساد والإفساد في الأرض : {
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
} (
الحديد : 25 ) .
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
المُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا }(الأعراف
: 55-56 ) .
{ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ( الشعراء : 151-152
) .
• ومن حيث ( التطبيق ) الذي أمر فيه بكل خير
، ونهى فيه عن كل شر ؛ فأمر
بالأمانة والعدل : {
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا
الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ } (
النساء : 58 ) .
• ونهى عن الغدر والخيانة : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ( الأنفال : 58 ) .
• وأوصى برعاية الأسير : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
} (
الإِنسان : 8 ) .
• وجعل الحق والعدل فوق كل فوارق التمييز
والعنصرية المهلكة : {
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ
ذَا قُرْبَى } (
الأنعام : 152 ) ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } ( النساء : 135 ) .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) .
والمعنى : لا يحملنَّكم بُغْض المشركين على
الجور ، بل اعدلوا حتى مع هؤلاء الأعداء الذين يحادُّون الله ورسوله .
ومن هذه الرحمة المهداة كان فرض ( الجهاد )
لحماية الدين والأنفس ، مع غاية العدل والإنصاف : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } (
البقرة : 190 ) .
إننا لا نقصد إلى المقارنة أو الموازنة بين
الحق الإلهي واللغو البشري ، وإنما أردنا التذكرة بجلال الحق الإلهي المنير ،
ليزداد الذين آمنوا إيماناً ، وكي لا ينخدع أحد من المسلمين بأضاليل الجاهلية الجهلاء :
وما يستوي وحي من الله منزَّل وقافية في العالمين شرود
رابعاً : مراتب التكليف :
ومن إعجاز هذا التشريع الإلهي الشامل ،
وامتيازه ، وتفوقه ، وقيامه على تمام
الحكمة والرحمة : أن الله - عز وجل - جعل هذا ( الشمول التشريعي ) على مراتب متعددة ، وعلى درجات متنوعة ، وعلى صفات متكاملة
متماسكة ، تيسيراً على عباده ، وشحذاً لهمم الراغبين في الترقي
، ورفعاً لدرجاتهم في حياة ( الخلود الأبدي ) التي تسقطه مذاهب البشر من حساباتها المادية الغليظة ؛ فتحرم
أتباعها من سعادة الدارين .
لذلك تضمَّن هذا ( الشمول الإسلامي ) تشريعات
إلهية متعددة الجوانب ، ففيه :
• تشريعات للأفراد بأعيانهم كلٌّ بما يناسبه
: كالصلاة ، والزكاة ، والصيام .
• وتشريعات للجماعات فيما لا يستطيعه
الإنسان بمفرده .
• وتشريعات للحكومات لتكتمل دائرة الإصلاح
في الأمة الواسعة .
وجعل الله - تعالى - تشريعاته تدور بين (
الفرائض ) الملزِمة ، وبين الواجبات المقرَّرة ، أو بين الممنوعات المحرمة
والمباحات المتعددة ، أو المندوبات والنوافل التي يغري ثوابها الجزيل بمزاولتها
وفعلها ، عن رضاً واختيار وتطوع .
واختص - سبحانه وتعالى - بتحديد الحلال
والحرام ؛ لأنه يملك - وحده - العلم المحيط ، والحكمة المطلقة ، والقدرة الشاملة ،
لذلك أنكر أشد الإنكار على المخلوقات ، أن تزاول هذه المهمة البالغة ؛ لأنهم
محدودون علماً وحكمةً ، قاصرون فهماً وإحاطةً ، قابلون للتأثُّر بالأهواء والمصالح
، والوقوع في المظالم ، وأخطرها مظالم التشريع ومناهج الحياة التي تؤثِّر في (
ملايين ) البشر في أجيال متعددة !
قال - تعالى - : { قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ
فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ
لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } ( يونس : 59 ) .
{ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ
وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ
إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ( النحل :
116 ) .
وقد جاء بيان مراتب التكليف في القرآن
الكريم ، والسُّنة المطهرة ، كما قال - تعالى - : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ( النساء :
11 ) .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } ( البقرة : 183 ) .
( وكتب ) مثل ( فرض ) وزناً ومعنى .
ويقول - تعالى - في الطواف : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ } ( الحج : 29 ) .
وفي التطوع منه يقول - تعالى - : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ
البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 158 ) .
ومِن أَجْمَع الآيات الكريمة لمراتب التكليف
، وأنواعه ، وشُعبه الجامعة أية البر : { وَلَكِنَّ
البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( البقرة : 177 ) فهي شاملة لأصول الإيمان ، وعقائد الدين :
وتجمع شعب الإيمان كلها : من الإيمان ، إلى الأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات .
وهي تذكر الفرائض العليا ، ثم التطوعات ،
مثل : الزكاة المفروضة ،والحقوق المالية الواجبة ، والصدقات .
وهي تنبه على أصول الأخلاق بنوعيها :
الفرائض والفضائل كالوفاء بالعهود ،والصبر ، والصدق .
وقريب من هذا ( الشمول ) التشريعي الجامع
قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدوداً ،
فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا
تبحثوا عنها ».[3]
وقد نُقِل عن السمعاني قوله : « هذا الحديث
أصل كبير من أصول الدين » .
وحكى عن غيره : « ليس في أحاديث رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - حديث واحد أَجْمَعُ بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي
ثعلبة الخشني » .
وقال أبو واثلة المزني : « جمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم – الدين في أربع كلمات » .
وقال الحافظ ابن السمعاني : « فمن عمل بهذا
الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ،
ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق
الدين ؛ لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة »[4] .
فالحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا
الحق المبين . وصلى وبارك على محمد رسوله الأمين ، الذي بلَّغ الرسالة وأدى
الأمانة . ورضي الله عن الصحابة أجمعين . وعلى
ورثة الأنبياء من العلماء العاملين .
وهدى الله أمة الإسلام إلى أحسن الإيمان ، وخير
الأعمال ... آمين .
(1) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب شعب
الإيمان : 1/46 ، ورواه البخاري كتاب الإيمان ، باب أمور الإيمان : 1/9 بلفظ : «
بضع وستون شعبة » ورواه أصحاب السنن الثلاثة بلفظ : « بضع وسبعون شعبة » بالجزم ،
والمراد بالإيمان هنا : الدين الإسلامي كله .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 1/52
، 53 بتصرف يسير .
(3) رواه الدارقطني وغيره ، وحسنه النووي
في الأربعين ، وحسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في أماليه ، كما قال ابن رجب
في كتابه (جامع العلوم والحكم ج 2) .
(4) راجع في هذا ، كتاب : الجامع في شرح
الأربعين النووية ، للشيخ محمد يسري : 2/1081 وما بعدها .