كلما أقبل شهر رمضان أقبلت الخواطر في محاسبة النفس ومراجعتها ، والرغبة والأماني في
التزود الإيماني وشحن القلب وتزكية النفس وتحليتها ، وبالأخص في جانب تقوية
العلاقة بالله ، وليس هذا بمستغرب ؛ فالكل يشهد ومع التصحر الإيماني الذي أصاب
ويصيب النفوس بسبب المتغيرات والمستجدات على كل الأصعدة ، أصبحت النفس العاقلة
تشعر بل وتتألم لجوعتها الإيمانية في وقت مجاعة يكاد يصيب الكثير إن لم يكن الجميع
، لكنها لا تدري كيف تكسر حدة هذه الجوعة ولو بجرعة يسيرة رغم أن الزاد بين يديها
.
عجيب .. ! نفس تحمل الزاد بكل صنوفه ، ولا تستطيع أن تسد رمقها ؟ آهٍ
وآهٍ من هذا الزمن وبُنياته ! فإذا كان الأطباء يشكون الداء فمن سيصف الدواء ؟
سبحان الله ! هم يعرفون الدواء ويحملونه ، بل ويصرفونه ، لكن الكثير منهم لا
يستطيع تناوله .
لست أتحدث عن الصفوة ممن أعجزه الكسل ، أو أصابه الخوف والهلع ، أو
أغرقه الطمع والجشع ، بل عمن يسعى وينفع ، ويُعطي ويرفع ، ينفع الناس بكلماته
ويرفع هممهم بعظاته ، فأشغلوه وأشغلته همته وحب الخير للناس ، أتحدث عن الصفوة
ودُلاَّل الخير ، والنجوم التي يهتدي بها الناس ؛ حيث لا يكاد بال أحدهم يهدأ ، أو
يستجم ، وإن استجم الجسد فالفكر والعقل كالرحى لا يستقر .
فهؤلاء فرحهم برمضان كفرح من قال : « اللهم أنت عبدي وأنا ربك » أخطأ
من شدة الفرح ؛ فقد وجدوا ضالتهم برمضان حيث لذة العبادة ، ولحظات التدبر والترتيل
للقرآن ، وروحانية الصيام والقيام ، وروعة الخلوة والاعتكاف ، و .. و .. و ، لكن
هيهات فهم دُلاَّل للخير ومحركو القلوب ، وماذا يفعل الواحد منهم وقلبه يعتلج
ويحترق في حب الخير وتوجيه الناس ، ويعلم أن رمضان فرصة ؛ فهو شهر التوبة
والمحاسبة ، وشهر إقبال القلوب وصقلها .. لكنه أيضًا يعلم أن نفسه كغيرها من
النفوس بل أشد حاجة للتوبة ، والمحاسبة ، والتزود بالوقود ، فإن فاتت هذه المحطة
فقد لا يجد غيرها بسهولة ، فهو في صحراء مترامية الأطراف شديدة الغليان والذوبان .
إنها دوامة يصعب على كل أحد - وإن كان من الصفوة - أن يضبط توازنه في
إعصار كهذا ، خاصة عندما يشتكي القلب تفرقه وشعثه ، وبُعده وقسوته ؛ فكلنا يروح
ويغدو في أعمال وأشغال ، تطول معها الأحلام والآمال .
فتنبه أخي ، وقف ، واحذر ! فالنفس تحتاج لوقفات وخلوات ، لزيادة رصيد
الإيمان وسكب العبرات ، خاصة في زمن الفتن والشهوات ، الذي ننسى فيه كثيراً حاجة
النفس والذات لصفاء القلب ، وبقدر ما في القلب من النور سيكون قوة إشعاعه ؛ لأن
تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقيقة الإيمان ولذته ، ولذا قال أبو بكر
المزني : « ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة ، ولكن
بشيء كان في قلبه »[1] .
ومن تأمل في هذه المرحلة حال الصفوة - وهم ليسوا كغيرهم - وجد ضعفاً
وفتوراً وكسلاً في جوانب العبادة والسلوك ، ليس إهمالاً بل انشغالاً .
وأعلم أن الكثير منهم يشكو ويتألم ويتحسر لمثل هذا ، لكنها الشواغل
الدعوية والدخول مع الناس وللناس ، ونسيان النفس وحاجاتها ؛ فإن كان ؛ فلا يجب أن
يكون في رمضان .
إنه صراع المشاعر في نفوس الصفوة الأخيار عند إقبال رمضان ، ولذا كان - صلى الله عليه
وسلم - يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور ، ويؤثر عن إمام دار
الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله - أنه كان يترك حِلَق التدريس في رمضان ، ويتفرغ للعبادة وقراءة
القرآن ، هكذا هم الصفوة .
فتعالوا يا نجوم الزمان ! لانتهاز الفرص ، واستثمار هذا الموسم ؛
لتقوية العلاقة بالله ، وتصفية القلب مما علق عليه من الرَّيْن ؛ فرمضان جُنة
المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقربين ، يعيد للقلب والجوارح صحتها التي سلبتها
أيدي الشواغل والصوارف حتى وإن كانت خيراً ؛ فالعاقل يعلم يقيناً أن أول ما عليه
النجاة بنفسه ، وأنه إن لم يأخذ فلن يعطي ، وبحسب كمية الوقود يكون طول المسير
وأعلم أن الأمر صعب ، وأن التسديد والمقاربة أصعب ، لكني أهمس في أذنك همسة محب :
إن لم تستطع أن تملأ خزان الوقود أو أن تخفف من تلك الشواغل المباركة كل رمضان ، فلا أقل من استثمار عَشره
الأخير ، وخاصة بالاعتكاف ، فلا بد من خلوة للعاقل يخلو فيها بنفسه للذكر والفكر
والمحاسبة لتزكية النفس .
يقول عمر رضي الله عنه : « خذوا حظكم من العزلة »[2] .
وقال مسروق : « إن المرء لَحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها ، فيذكر
فيها ذنوبه ، فيستغفر منها »[3] ؛ فالخلوة بين الفينة
والفينة مع النفس ضرورة جدّاً لكي يتفرغ القلب وليس لها مثيل في سُنَّة الاعتكاف ،
وقد اعتكف خير الصفوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رغم كثرة شغله ، واعتكف
أصحابه معه وبعده ؛ فهم يعلمون أن في القلب شعثاً لا يلمُّهُ إلا الإقبال على الله
، وجمع كلِّيته عليه تعالى بحيث يصير ذكره سبحانه وحبه ، والإقبال عليه زادَه بل
وحلاوتَه .
فتنبه أخي لهذه المعاني ! واستعن بالله ولا تعجز ، واحذر يا دليل
الخير التسويف ، ومداخل إبليس ! فهو حاذق في مداخله على الصفوة . والله المستعان .
(1) جامع العلوم والحكم
(1/225) .
(2) رواه وكيع في الزهد ، و ابن المبارك أيضًا في الزهد وغيرهما .
(3) رواه أحمد في الزهد ، و ابن أبي شيبة في المصنف وغيرهما .