إن
القلوب تصدأ وتقسو ، والنفس تضعف ، وتهبط بها دواعي الشهوات وهواتف الدنيا ،
والإنسان يعيش في هذه الدار في معركة مع النفس والهوى والشيطان . ولئن كان المقاتل
يحتاج للسلاح المعنوي والمادي ؛ فالذي يخوض في معركة المصير أولى بأن يعتني بإصلاح
نفسه .
والذي
يحمل لواء الدعوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها ،وصلتها
بالله-عز وجل- ، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة .
وما
تقرب إلى الله بأفضل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده ؛ فحريٌّ بنا أن
نضرب من ذلك بسهم وافر ، ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم : أن شرع لهم ما
يتعبدون به إليه سبحانه .
ولما
كان تحزيب القرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من طلاب العلم فضلاً
عن عامة الناس . في حين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في
ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا . لذا رأيت أن أجمع بعض ما
ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به .
تمهيد :
قال
ابن فارس (2/55) : ( الحاء والزاي والباء أصل واحد وهو : تجمع الشيء ، فمن ذلك
الحزب وهو الجماعة من الناس ، قال تعالى { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . والطائفة من كل شيء حزب . يقال : قرأ حزبه من القرآن ) وقال في (
النهاية ) (1/376) : ( الحزب ما يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كالوِرد ،
والحزب النوبة في ورد الماء . ومنه حديث أوس ابن حذيفة : (سألت أصحاب رسول
الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن ) .
ومعنى
ذلك : أن يجعل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه ، بحيث يختم
القرآن في كل شهر ، أو عشرين ، أو خمسة عشر ، أو عشر ، أو سبع ، أو غير ذلك .
1-
وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله عليه وسلم- : « من
نام عن حزبه » ، وقوله : « إنه طرأ على حزبي من القرآن » .
وقد
بوب غير واحد من الأئمة بتحزيب القرآن . وقال عقبة بن عامر : (ما تركت حزب سورة من
القرآن) . وقال نافع : (لا تقل : ما أحزبه) . وسوف يأتي تخريج هذه النصوص إن شاء
الله- عز وجل- .
2-
واستعمل عند السلف بلفظ الجزء ، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه وسلم- : « قرأت
جزءاً من القرآن » . وقال عبد الله بن عمرو : (هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة) .
وعن عائشة : (إني لأقرأ جزئي) . وعن ابن عباس وابن عمر : (أنهما كانا يقرآن
أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء) .
3-
واستعمل بلفظ الوِرد ، فعن ابن عمر قال : (كنت في قضاء وِردي) ، وعن الحسن : (أنه
كان يقرأ ورده من أوَّل الليل) .
المسألة الأولى : بعض فضائل تلاوة القرآن :
إن النصوص الدالة على فضل القرآن أشهر من أن تورد ، إنما نورد هنا بعض فضائل
تلاوته ؛ قال تعالى : { إنَّ
الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ *
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } ، وقال -عز وجل- : { لَيْسُوا
سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ
آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ
ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي
الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن
يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } .
أما
من السنة : فالأدلة على فضله كثيرة ، ومن فضائله :
1-
أن الماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يتتعتع فيه له أجران ؛ كما في حديث
عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود .
2-
أنه يقال له يوم القيامة : (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا) ؛ما أخرجه
أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً .
3-
أن له بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي والدارمي من حديث
ابن مسعود .
4-
أن الآية منه خير من الخلفة السمينة ، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة .
5-
أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة ، كما رواه الستة إلا ابن ماجه عن أبي موسى
الأشعري .
6-
أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة ، كما رواه مسلم عن أبي أمامة .
7-
تنزل السكينة لقراءته ، كما رواه الشيخان من حديث البراء .
8-
أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل- ، كما أخرجه الترمذي
من حديث أبي هريرة .
المسألة الثانية : مشروعية تحزيب
القرآن :
1-
حديث عبد الله بن عمرو ، وهو حديث طويل مشهور ، رواه جمعٌ من الأئمة بينهم الأئمة
الستة . ولفظه عند مسلم : (كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ؟ ) ، قال : فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
، وإما أرسل لي ، فأتيته ، فقال : ( ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن
كل ليلة ؟ ) فقلت : بلى يا نبي الله ؛
ولم أرد إلا الخير ، قال : ( فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم قال : ( واقرأ القرآن في كل شهر ) ، قال :
قلت : يا نبي الله : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : ( فاقرأه في سبع ، ولا تزد على
ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزورك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً )،قال : فشددت ؛
فشدد علي ، قال :
وقال
لي النبي-صلى الله عليه وسلم- : ( لعلك يطول بك العمر ) ، فصرتُ إلى الذي قال لي
النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه
وسلم- .
2-
حديث : « من نام عن حزبه » وقد أخرجه مسلم (747) ، وأبو داود (1313) ، والنسائي
(1790) ، والترمذي (581) ، وابن ماجه (1343) ، ومالك في ( الموطأ ) (1/ 200) ،
وأبو عبيد في ( فضائل القرآن ) (285) ، وعبد الرزاق في ( مصنفه ) (4747) ، وابن
حبان في ( صحيحه ) كما في الإحسان (2634) .
ولفظه
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من
نام عن حزبه أو عن شيء منه ؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر : \كتب له
كأنما قرأه من الليل ) .
3-
ما رواه أبو داود (1396) والمرزوي في ( قيام الليل ) كما
في (المختصر) (157) عن ابن الهاد قال : ( سألني نافع بن جبير بن مطعم فقال لي : في
كم تقرأ القرآن ؟ ، فقلت : ما أحزبه ، قال لي نافع : لا تقل ( ما أحزبه ) ؛ فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال : ( قرأت جزءاً من القرآن
) ، وصححه الألباني في ( صحيح أبي داود ) .
4-
حديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه : (قدمنا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في
وفد ثقيف ، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله-صلى الله عليه
وسلم- بني مالك في قبة له ، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء ؛ فيحدثنا قائماً على
رجليه حتى يُراوح بين رجليه ، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ، ويقول :
(ولا سواء ، كنا مستضعفين مستذلين ، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا
وبينهم ، ندالّ عليهم ويدالُّون علينا) ، فلما كان - ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي
كان يأتينا فيه ، فقلت : يا رسول الله : لقد أبطأت علينا الليلة ؟ قال : ( إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت
أن أخرج حتى أتمه ) ، قال أوس : فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف
تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ،
وحزب المفصل ) .
والحديث
قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في ( تهذيب السنن ) (2/113) عن ابن عبد البر : أن ابن
معين قال : ( حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب القرآن ليس بالقائم ) .
وضعفه الألباني في دفاع عن الحديث ، كما في ( ضعيف ابن ماجه
) (283) . لكن حسنه الحافظ العراقي في ( تخريج الإحياء ) (1/276) والحافظ
ابن حجر كما في ( الفتوحات ) لابن علان (3/229) . وأورده الحافظ ابن كثير في (
تفسيره ) محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق) . واحتج به شيخ الإسلام ابن
تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي .
وتد
تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم - ؛ فعندما تقرأ في ترجمة أحدهم تجد أنه كان
يختم القرآن في كذا وكذا ، وسيأتي بعض هذه الآثار .
المسألة الثالثة : هدي
السلف في تحزيب القرآن :
أولاً : ذكر من روي عنه الختم في
سبع : أخرج أبو عبيد في ( فضائل القرآن ) (291) بإسناده عن عائشة - رضي الله عنها
- قالت : ( إني لأقرأ جزئي - أو قالت : سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو على سريري
) .
وأخرج
الطبراني كما في ( المجمع ) (2/269) وقال : رجاله ثقات ، عن الأحوص قال : قال
عبدالله . ( لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث ، اقرأوه في سبع ،ويحافظ الرجل على
حزبه ) . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (502/2) دون قوله : ( وليحافظ ) .. وأخرج أبو
عبيد في ( فضائل القرآن ) (263) ، والبيهقي في ( السنن ) (2/ 296) عن ابن مسعود
-رضي الله عنه- : ( أنه كان يختم في غير رمضان
من الجمعة إلى الجمعة ) .
وقال
الحافظ : أخرج ابن أبي داود : عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري : ( أنهم كانوا
يختمون في سبع ) بأسانيد صحيحة .
وأخرج
أبو عبيد (266) عن إبراهيم : ( أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع ) ،وكذا رواه ابن
أبي شيبة (2/501) .
وأخرج ابن أبي شيبة (2/501) ، والفريابي (138) :
عن هشام بن عروة قال : ( كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع ) .
وأخرج
أيضاً (2/501) عن أبي مجلز : ( أنه كان يؤم الحي في رمضان
، وكان يختم في سبع ) .
وأخرج
ابن أبي شيبة بإسناده (2/501) : عن إبراهيم قال : ( كان عبد الرحمن بن يزيد يقرأ
القرآن في كل سبع ، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في خمس والآخر في ست ، وكان
إبراهيم يقرأه في سبع ) .
وقال ابن قدامة في ( المغني ) (2/611) :( قال عبد الله بن أحمد كان
أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة ، يقرأ كل
يوم سبعاً ،لا يكاد يتركه نظراً ،وقال حنبل : كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى
الجمعة ) .
وقال
إسحاق بن هانىء في ( مسائله ) (506) : ( وسئل : في كم يقرأ القرآن ؟ قال : أقل ما
يقرأ في سبع ) .
ثانياً : ذكر من روي عنه الختم من
الثلاث إلى السبع : سبق عن علقمة والأسود :( أنهما
يقرآن في خمس وست ) .
قال ابن علان (3/230) : ( قال الحافظ : أخرج ابن أبي داود من طريق
مغيث بن سمي قال : كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربع . ومن طريق بلال ابن
يحيى : لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة ، فإذا أصبحت قال بعضهم : لقد
خففتَ بنا الليلة ) .
ثالثاً : ذكر من روي عنه الختم في
أقل من ثلاث : وذكر ابن علان (231/2) : عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسود بن يزيد
: ( أنه كان يختم القرآن في رمضان كل
ليلتين ) وقال : سنده صحيح ، وأخرج الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير : (
أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين ) قال :
وأخرجه ابن أبي داود ، قال : وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك . ومن طريق واصل بن
سليمان قال : ( صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين ) .
*يتبع*