الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام
على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن التقوى من أهم الصفات التي يحرص الإسلام
على تحلِّي المسلمين بها ؛لما لها من أثر عظيم على حياة المسلم في الدنيا ، ولما
يناله بسببها من خيرات الآخرة وكرامتها ، لذلك كان المقصد الأعظم والهدف الأسمى من
كل التشريعات هو الوصول بالمسلم إلى منزلة المتقين .
ونحن حين ننظر فيما أمر الله تعالى به أو
نهى عنه ؛ سواء ما كان متعلقاً بالقلب أو بالجوارح ، نجد النصوص الواردة فيها كلها
تؤكد على تلك الحقيقة .
والتقوى حالة قلبية ومنزلة إيمانية رفيعة ،
ومرتقى عالٍ لا يُنال إلا بالمجاهدة والمصابرة ؛ فهي تطبع صاحبها بطابَع الخشية
لله في السر والعلن ، كما تحمله على المراقبة الدائمة لأقواله وأفعاله ومقاصده ،
وتتعاهد قلبه حتى لا يعكر صفو إيمانه شيء مما يدخل به الشيطان على النفوس ، فلا
يكاد يُدخِل الشيطان عليه شيئاً من باطله إلا انتبه له . فالتقوى تجعل للمسلم حاسة
قوية يدرك بها كيد الشيطان ؛ فإذا مر به الخاطر الشيطاني فإن تقواه تعصمه منه حتى
يصير مستبصراً مستيقظاً وعارفاً بمداخله وضلالاته كما قال الله تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } (الأعراف : 201) ، فتجعل التقوى من داخل المسلم على نفسه حسيباً
رقيباً ، يمسك بزمامها ويقهرها قهراً على فعل الطيبات وترك المنكرات ، حتى تلين
ويسلس قيادها له ، فلا تعود تأمره إلا بخير ولا تدله إلا على خير ، وتلتصق التقوى
به التصاقاً حتى تصير له بمنزلة اللباس الذي لا يفارقه .
قال تعالى : { يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي
سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ ءَايَاتِ
اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (الأعراف : 26) ،فكما أن اللباس كان زينة الظاهر فإن التقوى
زينة الباطن ولا تكمل الزينة إلا بوجود الزينتين .
وقد أظلّتنا المنحة السنوية والنفحة
الربانية ، فأقبل علينا شهر رمضان
الذي كتب الله علينا صيامه وسن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيامه ؛ حتى
نحقق فيه التقوى ونتحلى بها . قال الرازي في تفسير قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة
: 183) : « الصوم يورث التقوى ؛ لما فيه من انكسار الشهوة
وانقماع الهوى ؛ فإنه يردع عن الأشَر والبطَر والفواحش ، ويهوِّن لذّات الدنيا
ورياستها ؛وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ؛ فمن
أكثرَ الصوم هان عليه أمر هذين وخفَّت عليه مؤنتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن
ارتكاب المحارم والفواحش ، ومهوِّناً عليه أمر الرياسة في الدنيا ، وذلك جامع
لأسباب التقوى ، فيكون معنى الآية : فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين
الذين أثنيت عليهم في كتابي ، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم » [1] .
فليس المقصود من الصيام الجوع والعطش
المجردين من تأثيرهما على المسلم .
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «
من لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامه وشرابه » [2] . والزور يشمل الكذب والجهل والسفه ، وقد
بين الله تعالى أن القصد من كل ما شرعه سواء في العقيدة أو الشريعة أن تصبح التقوى
صفة لازمة للمسلم ؛ ففي ستة مواضع من القرآن يعقِّب الله تعالى على التشريع بقوله
: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة : 183) ، وفي ستة مواضع أخرى بلفظ : { لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ } ، ولذلك جاء الأمر بالتقوى
والوصاية بها لكل من أرسل الله تعالى لهم الرسل ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ
وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } (النساء : 131) ، وكانت وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض
أصحابه الأمر بالتقوى ، فقال لأبي ذر - رضي الله عنه - : « اتقِ الله حيثما كنت » [3] . وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه -
قال : « صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت
منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ! كأنها موعظة مودع ؛
فأوصنا ! فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... » [4] .
وقال أنس - رضي الله عنه - : جاء رجل إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! أريد سفراً فزوّدني ! فقال :
« زوّدك الله التقوى » .. الحديث [5] ؛ فأول ما بدأ به التقوى . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث
أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً [6] . وكان الأمر بالتقوى وصية الرسل لأقوامهم ؛
فها هو ذا نوح و هود و صالح و لوط - عليهم السلام - كل منهم يقول لقومه : { أَلاَ
تَتَّقُونَ } .
وكانت وصية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - من بعد ذلك ؛ فها هو ذا أبو بكر - رضي الله تعالى - عنه خطب في المسلمين ،
فقال : « أوصيكم بتقوى الله » [7] ، وها هو ذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
يقول : « أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله » [8] ، « وكُنَّ نساء أهل المدينة إذا أردن أن
يبنين بامرأة على زوجها ، بدأن بعائشة فأدخلنها عليها ، فتضع يدها على رأسها تدعو
لها ، وتأمرها بتقوى الله وحق الزوج » [9] ، وها هو ذا عمر بن عبد العزيز - رحمه الله
- يكتب لبعض عماله فيقول : « أوصيك بتقوى الله » [10] .
والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة جداً لا
يمكن أن نستقصيها هنا . وقد جاء الأمر بالتقوى في كتاب الله تعالى في أكثر من ستين
موضعاً ، كما وردت مادة ( التقوى ) وما تفرّع منها في أكثر من مائة وتسعين موضعاً
مما يدل على الأهمية الكبرى للتقوى في ميزان الإسلام .
وبجولة يسيرة على آيات الكتاب العزيز نجد أن
المراد من المأمور به أو المنهي عنه تحقيق التقوى . قال الله تعالى فأصل الأمر
بالإيمان : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة : 21) ، وقد بيّن الله تعالى حكمته في الأمر بالقصاص فقال
: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة : 179) ، وقال عندما أمر عباده بالصيام : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183)، ولما أمر عباده باتباع الصراط المستقيم والبعد عن
الطرق المخالفة له .
قال سبحانه : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (الأنعام : 153) ، وعندما نهى المسلمين عن مباشرة النساء في
الاعتكاف قال : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة : 187) .
ويقول الله تعالى عندما أمر عباده ببعض
مناسك الحج التي منها ذبح الهَدْيِ :{ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ
دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } (الحج : 37) .
وقد تكلم أهل العلم عن حد التقوى ؛ فعن علي
- رضي الله تعالى عنه - قال :« التقوى الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والرضى
بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل » .
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - : «
أن رجلاً قال له : ما التقوى ؟ قال : هل وجدت طريقاً ذا شوك ؟ قال : نعم ! قال :
فكيف صنعتَ ؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه . قال : ذاك
التقوى » [11] ، وقال ابن القيم : « وأصل التقوى معرفة ما
يتقى ثم العمل به ؛ فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره
الله به ونهاه عنه ، ثم يلتزم طاعة الله ورسوله » ، وقال : « وأما التقوى فحقيقتها
العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً أمراً ونهياً ، فيفعل ما أمر الله به إيماناً
بالأمر وتصديقاً بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه إيماناً بالنهي وخوفاً من وعيده ،
كما قال طلق بن حبيب : إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى ! قالوا : وما التقوى ؟
قال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله
على نور من الله تخاف عقاب الله ،وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى » [12] .
* بعض فضائل التقوى :
وقد بيّن الله تعالى
أن خير ما يتزود به الإنسان في سفره إلى الله والدار الآخرة هو التقوى ، فقال
تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (البقرة : 197) ، وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - « أنه
خرج إلى المقابر ، فلما أشرف على أهل القبور رفع صوته فنادى : يا أهل القبور !
أتخبروننا عنكم أو نخبركم خبر ما عندنا ؟ أما خبر ما قِبَلَنا فالمال قد اقتُسِمَ
،والنساء قد تزوجن ، والمساكن قد سكنها قوم غيركم ، هذا خبر ما قِبَلَنا ،
فأخبرونا خبر ما قِبَلَكم ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : أمَا واللهِ لو استطاعوا
أن يجيبوا لقالوا :لم نرَ زاداً خيراً من التقوى » [13] ، ويقول ابن القيم : « فكما أنه لا يصل
المسافر إلى مقصده إلا بزاد يبلِّغه إياه ، فكذلك المسافر إلى الله تعالى والدار
الآخرة لا يصل إلا بزاد من التقوى ؛ فجمع بين الزادين » [14] .
وقد ربط الله الفلاح بالتقوى فقال : { وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (البقرة:189)، فالذي
يُرجى فلاحه هو المتقي . وكانت من أعظم المنة على المتصفين بصفة التقوى أن الله
تعالى لم يجعل له أولياء غيرهم فقال تعالى : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ } (الأنفال : 34) ، وحصر قبول الأعمال فيهم فقال تعالى : { إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ } (المائدة : 27) ، حتى يقول أبو الدرداء : « لَأَن أستيقن أن الله
قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : { إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} (المائدة : 27) » [15] .
وكان مطرف بن عبد الله يقول : « اللهم تقبل
مني صلاة يوم ، اللهم تقبل مني صوم يوم ، اللهم اكتب لي حسنة ، ثم يقول : { إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ }(المائدة:27)[16] » .
وقد خصهم الله تعالى بمعيّته التي لا يضام
من كان معه فقال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة : 194) قال قتادة : « من يتقِ
الله يكن معه ، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام
، والهادي الذي لا يضل » [17] .
وجعل لهم محبته فقال : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (آل عمران:76) ، ومن كرمهم على ربهم أنهم
يُحشرون إليه وفداً : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } (مريم : 85) ، قال علي - رضي الله عنه - : « لا ، واللهِ ما على
أرجلهم يُحشَرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم يرَ الخلائق مثلها ،
عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة » [18] . وجعل للمتقين بصيرة نافذة تورثهم فرقاناً
يفرقون به بين الحق والباطل .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الأنفال : 29) .
وبالتقوى يحفظ المسلم ذريته بعد موته ؛ فمن
أهمّه أمر ذريته بعد الموت فليتق الله ربه ؛ قال تعالى :{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا }(النساء:9).
وكانت تقوى الله تعالى هي المخرج للمسلم من
المضايق الدنيوية والأخروية ،وهي السبيل إلى سعة الرزق حيث يأتيه الرزق من حيث لا
يتوقع . قال الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ
مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }(الطلاق:2-3)، وفي تقواه تعالى تكفير
السيئات وتكثير الأجر وتعظيم الثواب . قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } (الطلاق : 5) ، وكانت تقوى الله مما ييسر للعبد أمور دينه ودنياه ؛
كما قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ
أَمْرِهِ يُسْرًا} (الطلاق : 4) ، قال ابن القيم : « فالمتقي
مُيَسَّرة عليه أمور دنياه وآخرته ، وتاركُ التقوى وإن يُسِّرَت عليه بعض أمور
دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى ، وأما تيسير ما تيسر عليه
من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم ، ولو قدر أنها لم تتيسر له
فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقى ؛ فإن طيب العيش
ونعيم القلب ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا ، وهو أجلُّ من نعيم
أرباب الدنيا بالشهوات واللذات » [19] . وجعل للمتقين أعظم الانتفاع والاهتداء بكلامه فقال : { ذَلِكَ
الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة : 2) ، ومن كرامتهم عليه فقد أعدَّ لهم جنات عريضة لا
يقدرها حق قدرها إلا الذي خلقها ، فقال : { َسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } (آل عمران : 133) ،وجعل لهم العاقبة
الباقية وخصهم بها فعُقباهم خير وأمرهم لا يؤول إلا إلى خير ،فقال : { وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ } (الأعراف : 128) . وعندما يَرِدُ
الناس على الصراط فلا ينجو مما هم عليه إلا المتقون . قال تعالى : { ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } (مريم : 72) .
هذه منح عظيمة وعطايا ربانية لا يقدر أن
يحدها حادّ ،وها هو ذا شهر الصيام ، شهر التقوى والقيام ومدارسة القرآن ، شهر
الجود والإحسان ، أقبل علينا بخيره ومِنَحِه وبركاته ، فهل من إقبال صادق على الله
يقدِّر هذا الشهر حقه وقدره ، وأوبة وتوبة يمحو الله بها الخطايا ويقيل بها من
العثرات ويقي من الزلل ، ونكون بها من المتقين ؟ اللهم اكتب لنا ذلك واجعلنا من
الذين يتقونك حق التقوى .
(1) مفاتيح الغيب ، للرازي ، في تفسير
قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) الآية .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الصوم ، رقم
1903 .
(3) أخرجه الترمذي : كتاب البر ، رقم 1987
، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني : حسن ، وفي رواية أنه من مسند معاذ .
(4) الترمذي : كتاب العلم ، رقم 2676 ،
وقال : هذا حديث صحيح .
(5) الترمذي : كتاب الدعوات ، رقم 3444 ،
وقال : هذا حديث حسن غريب ، وقال الألباني : حسن صحيح .
(6) أخرجه مسلم : كتاب الجهاد ، رقم 1731
.
(7) مصنف ابن أبي شيبة : 8/144 .
(8) مصنف ابن أبي شيبة : 8/577 ، السنن
الكبرى للنسائي : 6/485 .
(9) مصنف ابن أبي شيبة : 3/398 .
(10) الإبانة الكبرى ، لابن بطة .
(11) فتح القدير : 1/52 .
(12) الرسالة التبوكية ، ص 10 .
(13) التمهيد لابن عبد البر : 20/242 .
(14) إغاثة اللهفان : 1/58 .
(15) تفسير ابن كثير : 3/85 .
(16) مصنف ابن أبي شيبة : 8/245 .
(17) حلية الأولياء : 2/340 ، جامع العلوم
والحكم : شرح الحديث التاسع عشر .
(18) رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في
زوائد المسند ، رقم 1335 .
(19) التبيان في أقسام القرآن ، ص 36 .