يمثِّل القرآن الكريم في حياتنا جميعاً نبراس هدى وطريق دلالة إلى الخيرية
العالمية التي جاء بها محمد - صلى الله على محمد - من بين جبال مكة الشامخة .
والمسلمون على مرِّ التاريخ مجّدوا القرآن وعظّموه في نفوسهم ، وجعلوه
تاجاً فوق هاماتهم ونوراً لصدورهم ، وشفاء لأسقامهم .
هذه الرؤية تشكلت في تاريخ المسلمين نموذجاً راقياً في تنمية الذات وصناعة
المجتمعات ، فأضحت أمة الإسلام خير أمة أُخرجت للناس ، وبسطت بالمصاحف التي حوتها الصدور
قوانين الشريعة الإسلامية عبر تاريخ خلفائها ومماليكها .
ولا تزال الخيرية في أمة القرآن الكريم في حياتنا المعاصرة وإلى قيام
الساعة حيث حُفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل خلافاً لغيره من الكتب السابقة
، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (
الحجر : 9 ) .
ولقد رفض المسلمون في أقطار الأرض تلك الحملة المسعورة التي هاجمت القرآن
الكريم وحاولت تدنيس قداسته بصور شتى وحالات تتعدى العدّ والذّكر ؛ فكيف نقرأ هذه الحملة
الشرسة ؟ وما واجبنا تجاه كل هذه الأحداث التي تنتهك حرماتنا ، وتدنِّس مقدساتنا ،
وتهاجم بلادنا بلاد الحرمين التي هي أعز البلاد لدى كافة المسلمين ، وتنتقص تعاليم
شريعتنا باسم التقدم والمدنية ؟ إنني من خلال هذه المقدمة لا أجد عملاً واجباً على
المسلمين اليوم مثل وجوب الوقوف أمام هذه الدعوات ، والسير بخطى ثابتة لدحضها وتفنيد
شبهها ، بعيداً عن السير بخطى العاطفة أو القرارات الوقتية الآنية ، ولهذا وذاك فإنه
ليسرني أن أقدم عبر هذه المجلة العالمية بعضاً من المقترحات التي أحسب أنها خطوات مهمة
للوقوف في وجه هذا التيار الجامح ، وهي بعض واجبي نحو كتاب ربي عز وجل :
- السعي لإقامة مؤسسة عالمية باسم القرآن الكريم ، وتكون تحت مظلّة منظمة
الدول الإسلامية ، ويكون مقرها مكة المكرمة ، ولها فروع في أشهر عواصم الدول الغربية
؛ لتقوم بالتعريف بالقرآن الكريم ، ودفع الشبه حوله ، وبث المكارم والأخلاق والأنظمة
التي جاء بها القرآن لحماية البشرية ، وتكون بعدد من لغات العالم .
- إقامة مؤتمرات سنوية عن القرآن الكريم بعدة لغات ، وتكون في عدة عواصم
في العالم ، ويُهيّأ لها حملة إعلامية قوية عبر شركات عالمية ، وتُتحرّى الأوقات المناسبة
لمثل هذا العمل العظيم ؛ كشهر رمضان مثلاً أو إجازة الصيف .
- تشجيع « مجمع الملك فهد رحمه الله » الذي اعتنى عناية كبيرة بالمصحف
حيث يوجد أكثر من ستمائة عين تقوم برصد المصحف قبل أن يصل إلى أيدي القراء ، إضافة
إلى كثافة الإنتاج الذي يصل إلى مئات الملايين التي وصلت إلى المسلمين في كل مكان في
العالم ، ولهذا ينبغي دعمه لطباعة وتوزيع مليارات النسخ في العالم من المصحف وترجمة
معانيه ، وإرسالها عبر شركات البريد وبعدة لغات ووضع عناوين لاستقبال ردود أفعال المراسلين
من دول العالم والتواصل معهم .
- إقامة رابطة عالمية عبر مؤسسة « رابطة العالم الإسلامي » للعاملين في
حقل القرآن الكريم من مؤسسات وجمعيات وباحثين ومواقع إنترنت ، ويكون لهم لقاء سنوي
للتعاون والتواصل في خدمة كتاب الله عز وجل .
- طباعة رسائل ( كتيبات ) توضح معاني القرآن الكريم ، وتشرح توجيهاته
ودروسه ، ويختار منها ما يخص العامة من الناس ، وتكون بحجم الجيب ، وتوزع أيضاً بعدة
لغات ، وعلى مستوى العالم الإسلامي والغربي ، وتكون منهجاً يدرس في المدارس العامة
.
- دعم المؤسسات والجمعيات والحلقات التي تهتم بالقرآن الكريم في جميع
دول العالم .
- الاهتمام ببرامج التفسير وحلقاته ومؤسساته إلى جانب علوم القرآن
الأخرى وحثّ الباحثين على العناية بذلك ، وإلقاء المحاضرات والندوات في هذا الجانب
،وتوعية الشارع العام للأمة .
- إقامة الدراسات الأكاديمية عبر الجامعات الإسلامية وغيرها للعناية بالقرآن
الكريم ، وإبراز أوجه البيان والإعجاز العلمي والتربوي والسلوكي والنظامي التي جاء
بها القرآن الكريم في ضوء العالم الجديد والتحديات المعاصرة .
- تكثيف المسابقات الدولية على غرار مسابقة الملك عبد العزيز رحمه الله
في مكة المكرمة ، ودعم هذه المسابقات ونشرها في بلاد العالم .
- الإكثار من الدورات المكثفة ودعمها ، والاهتمام بتطويرها وتشجيعها
، وتفعيل رابطتها للتواصل والتكاتف والتطوير .
- الاهتمام بجانب القوانين الإسلامية ، والتأكيد في كل المحافل الدولية
أن القرآن شريعة الدول الإسلامية ومنطلق حياتها ، وبث الصور المشرقة التي جاء بها الإسلام
والمتوافقة مع أهم مكتشفات العصر الحضارية ، سواء كانت في مجال الحياة العامة أو الخاصة
للأمة ، والتأكيد على السلام العالمي الذي جاء به القرآن ليكفله للأبيض والأسود والفقير
والغني في ظلّ العبودية الكاملة لله رب العالمين لا شريك له .
وإليك أخي القارئ الكريم هذه الوقفة لترى كيف أننا بحاجة إلى العمل الجاد
في هذا المجال مع معجزة الأرض والسماء كتاب الله المقدس جلّ جلاله :
ينقل أحد الدعاة (*) كلام أحد القساوسة وهو يسرد قصة إسلامه فيقول :
تخرجت من الفاتيكان معقل التنصير في العالم ، وبدأت أتنقل من بلد إلى
بلد لتنصير المسلمين ، وكانت أكثر زياراتنا لمصر ، فإنها مصدر من مصادر قوة المسلمين
، ثم جلست يوماً مع مجموعة من القساوسة والمنصرين ، فقلت لهم : لقد طفنا أكثر بلاد
الأرض ولم يبق إلا جزيرة محمد ( - صلى الله على محمد - ) لم تصل إليها دعوة المسيح
بزعمهم ولا بد من اقتحامها ؛ فهي معقل الإسلام العنيد .
فخططت ودبّرت للوصول والحصول على طريقة أدخل بها تلك البلاد يعني بلادنا
المباركة فنجحتُ في ذلك ، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخة مترجمة للقرآن لأكتشف
أسرار الإسلام وأتعرف على أخطاء القرآن فتكون هي طريقي لتنصير المسلمين ومحادثتهم
.
سألت هذا وطلبت من ذاك ولكنهم تأخروا عليّ مما يدل أحبتي على تقصيرنا
في دعوة الآخرين .
يتابع قائلاً : حتى حصلت على النسخة فأخذتها ، وأغلقت الأبواب وجلست ولا
أحد يراني إلا الله .
بدأت أقرأ وفي نيتي تتبّع واستخراج الأخطاء ؛ فإذا بسورة الفاتحة تحيّرني
وتأخذني إلى عالم آخر ، ثم أول مقطع من سورة البقرة يتحداني ويخبرني أن هذا الكتاب
خالٍ من الأخطاء ، مما زاد في حرصي على القراءة والتدبر ، وبدأتْ أقفال الكفر تنحلّ
وتنفتح ، وبدأ ظلام الشرك ينجلي ، وبدأت أمطار الهداية بالنزول ،وبدأ القرآن يجاوبني
عن كل الأسئلة والاستفسارات ، وبدأت أقول لنفسي : من هذا الذي يتحداني ؟ ومن هذا الذي
عنده كل هذه القدرة وكل هذه الصلاحيات حتى يتكلم في ملكوت الأرض والسماوات ؟ فجاءني
الجواب من أعماق قلبي : إنه الله جل جلاله ، إنه الله الذي قال بسم الله الرحمن الرحيم
: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ
عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ
يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً
وَلاَ نُشُوراً } (
الفرقان : 1-3 ) ، وقال أيضاً : { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّمَوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } ( إبراهيم : 1-3 ) .
سألته : كم استغرق إسلامك ؟ فقال : فقط عدة أيام .
فقلت : يا الله ! ما أقوى الحق ! كما قال الله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ
زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ( الأنبياء : 18 ) ، ثم يتابع المنصِّر السابق فيقول : كلما خطر على بالي سؤال ولبَّس
عليَّ الشيطان وجدت الجواب في القرآن .
ويقول أيضاً : وجدت أجوبة كثيرة في قوله تعالى في أول سورة البقرة : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
( البقرة : 4 ) .
وانطلق الذي كان قسيساً يوماً من الأيام داعياً إلى الله وباذلاً كل قواه
للدعوة إلى الإسلام ونصرة القرآن ، فاسمع إلى إنجازاته في سنوات :
أسلم على يديه عشرات الآلاف من الأمريكان و النصارى في كل
مكان .
ويقول : ولا زلنا نمدهم بعشرات الآلاف من المصاحف والكتيبات ، ولا زلت
أستلم عشرات الرسائل يومياً والاستفسارات .
وأخيراً : فإن العمل الجاد نحتاجه كثيراً في معالجة مثل هذه القضية التي
أرّقت كل مسلم في أصقاع المعمورة ، فسدد الله الجهود ونفع بالأسباب المبذولة وجعلها
تحت عنايته وتوفيقه .
(*) الشيخ خالد الراشد من شريط (تدنيس القرآن) .