الإكثار من الصدقة والإنفاق في ضروب البر هما مفتاح الدعاة
والمصلحين للقبول ونيل الرفعة والظفر بالسؤدد في الدنيا والآخرة ؛ إذ تُطهَّر بذلك
النفوس ، وتُطفَأ الخطايا ، وتتضاعف الحسنات ، وبها يُستظل في المحشر ، ويُتقى من
النار ، ويُدعى لدخول الجنان .. تضافرت بذلك النصوص والآثار ، ومنها قوله تعالى : { خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } (التوبة : 103) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « الصدقة تطفئ الخطيئة ، كما يذهب الجليد على الصفا
» [1] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من أنفق
نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف » [2] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « كل امرئ
في ظل صدقته حتى يُفصَل بين الناس » [3] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من استطاع منكم أن يتقي من النار ولو
بشق تمرة فليفعل » [4] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من أنفق
زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة ، هذا خير » [5] . هذا في الآخرة .
أما في الدنيا فهي تنمي الإيمان ، وتُعظِم
التوكل ، وتزيد الطمأنينة ، وتعمق حسن الظن برب العالمين سبحانه ، وتدفع البلايا
والمصائب ، وتغلق أبواب السوء ، وتشرح الصدر ، وتفرح القلب ، وتنيل الشرف ، وتزيل
الشح ، وتتغلب على هوى النفس ، وتستر العيوب ، وتستميل النفوس ، وتظفر بثقتها
ومودتها .
وقد أدرك سادات الدعاة والمصلحين هذه
الجلالة للبذل والصدقة ، والمنزلة الرفيعة للكرم والجود فتحلَّوْا بذلك ، فهذا
الهادي البشير ، إمام المرسلين ، وقدوة المصلحين - صلى الله عليه وسلم - كان أجود
الناس وأسخاهم ، تواترت بذلك شهادات الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - ؛ فعن
ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : « ما رأيت أحداً أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا
أضوأ وأوضأ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » [6] ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : «
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان
حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ؛ فَلَرسولُ
الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسَلة » [7] ، وعن خادمه أنس - رضي الله عنه - قال : «
ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال :
فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه ، فقال : يا قوم ! أسلموا ! فإن
محمداً يعطي عطاءً ، لا يخشى الفاقة »[8] ، وعن جابر - رضي الله عنه - قال : « ما سئل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال : لا »[9] .
وفي قصة الشملة التي أُدِّيَتْ للنبي - صلى
الله عليه وسلم - ، وكان محتاجاً إليها ولبسها ، فسأله إياها أحد الصحابة فنزعها ،
وطواها ثم أرسلها إليه ، فعاتبه القوم قائلين له : « ما أحسنتَ سألتها إياه ؛ لقد
علمتَ أنه لا يرد سائلاً »[10] .
ولم تكن تلك سجيته وحده - صلى الله عليه
وسلم - ، بل كانت خُلُقَ الأجلَّةِ المتبوعين من أصحابه الكرام - رضي الله عنهم -
، والذين كانوا عمود الإسلام ، ومن قامت على أكتافهم مسؤولية نشره وتعليمه والدعوة
إليه ، فهذا الصدِّيق الأكبر أسلم وفي منزله أربعون ألف درهم ، فخرج مهاجراً وما
له غير خمسة آلاف ، كل ذلك ينفقه في الرقاب والعون على الإسلام[11] ، وتصدق في غزوة تبوك بماله كله ، وهذا الفاروق
عمر يخرج نصف ماله[12] ، وهذا عثمان يشتري الجنة من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - مراراً ، حين جهز جيش العسرة ، وحين حفر بئر رومة ، وحين
اشترى أرض المسجد ليُوسَّع ، وله مثلها في الجنة[13] ، حتى قال - صلى الله عليه وسلم - مرتين : «
ما ضر عثمانَ ما فعل بعد اليوم »[14] ، وهذا عليٌّ خرج من أرضه في ينبع ليصرف الله تعالى عن
وجهه النار يوم القيامة[15] .
وهذا ابن عوف يتصدق بشطر ماله على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - : أربعة آلاف ، ثم تصدق بأربعين ألفاً ، ثم تصدق
بأربعين ألف دينار ، ثم حمل على خمسمائة فرس ، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في
سبيل الله تعالى[16] .
وهذا الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه
الخراج ، فكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك شيء[17] ، وهذا طلحة الذي صحبه قبيصة بن جابر فقال :
« صحبت طلحة فما رأيت رجلاً أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه »[18] ، وباع مرة أرضاً له بسبعمائة ألف درهم فبات
أرِقاً حتى أصبح ففرقه[19] ، وهذا سعد بن عبادة كان يرجع كل ليلة إلى
أهله بثمانين من أهل الصُّفَّة يعشِّيهم[20] .
هذا غيض من فيض ؛ وإنفاق كبار الصحابة - رضي
الله عنهم - من المهاجرين والأنصار وبذلهم في سبيل الله تعالى أوسع من أن يحصر .
أما نُشَّار العلم وسادة الصحب الكرام في
الدعوة والتربية فقد كانوا آية في الخروج من الدنيا ومعرفة الآخرة والإيثار لها ؛
فهذه عالمة النساء عائشة - رضي الله عنها - كانت تقسم سبعين ألفاً ، وهي ترقع
درعها[21] ، وفرقت في اليوم الواحد مائة ألف درهم ،
وهي صائمة فتقول لها خادمها : « ما استطعتِ فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم
لحماً نفطر عليه ؟ فقالت : لا تعنِّفيني ، لو ذكرتيني لفعلت »[22] ، وهذا ابن عمر - رضي الله عنهما - ما مات
حتى أعتق ألف إنسان أو أزيد[23] ، وكان يقسم في المجلس الواحد ثلاثين ألفاً
، ثم يأتي عليه شهرٌ ما يأكل فيه مزعة لحم[24] ، وكان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه
لله عز وجل[25] يتأول قوله تعالى : { لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ } (آل عمران : 92) ، وهذا البحر ابن عباس جاءه رجل ستعينه على دَيْن ، فقال له : كم
َيْنُك ؟ قال : عشرون ألفاً ، فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً وكل ما في البيت
»[26] ، وهذا حافظ الإسلام أبو هريرة كان في بادئ
إسلامه يُصرَع من الجوع ، لما كان في آخر عهده متلك داراً بذي الحليفة فتصدق بها
على مواليه[27] ، وهذا الإمام الجهبذ ابن مسعود كان متخلياً
عن الدنيا ، فترك عطاءه الذي كان يُعطاه حين مات عمر ، وحين عرض عليه عثمان أن
يأمر له بعطائه ، قال : لا حاجة لي فيه[28] ، ومن أقواله - رضي الله عنه - : « حبذا
المكروهان : الموت والفقر ، وايم الله ! إن هو إلا الغنى والفقر ، وما أبالي
بأيهما بُليت ، إن حق الله في كل واحد منهما واجب ، وإن كان الغنى إن فيه للعطف ،
وإن كان الفقر إن فيه للصبر »[29] ، وقال : « من أراد الآخرة أضر بالدنيا ،
ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة ، يا قوم : فأضروا بالفاني للباقي »[30] . وهذا مقدام العلماء معاذ كان رجلاً سمحاً
، لا يُسأَلُ شيئاً إلا أعطاه ، حتى ادَّان دَيْناً أغلق ماله[31] ، وهذا أبو الدرداء آثر اليوم الباقي على
الفاني . يقول - رضي الله عنه - راوياً حاله : « كنت تاجراً قبل أن يبُعَث محمد -
صلى الله عليه وسلم - ؛ فلما بُعِثَ محمد زاولت العبادة والتجارة ، فلم يجتمعا ،
فأخذت في العبادة وتركت التجارة »[32] ، وهذه إشارة ، وإلا فمَنْ طالعَ سِيرَ القوم وجد الأمر غاية في الجلال
والعظمة .
وكيف لا يكون مصابيح الدجى بهذه الحالة ،
وقد جلى النور المبين في أكثر من آية أن من أبرز ركائز النجاة وأسس التقوى : البذل
والإنقاق في صروف الخير وما ينتصر به الدين . قال تعالى في تعداد خِلال عباده
المتقين : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { (البقرة : 3) ، وقال سبحانه : { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ { (الذاريات : 17-19) .
وفي المقابل جاءت السنة مظهرة أن الحرص على الدنيا والشح بمتعها منطلق شرٍ وسبيل
هلكةٍ ومستودع النقائص والخلال الذميمة . يقول - صلى الله عليه وسلم - : « صلاح
أول هذه الأمة بالزهادة واليقين ، وهلاكها بالبخل والأمل »[33] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « اجتنبوا
السبع الموبقات ، قيل : يا رسول الله ! ما هي ؟ قال : الشرك بالله ، والشح ، ... »[34] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « شر ما في
الرجل : شح هالع ، وجبن خالع »[35] ،
وقال - صلى الله عليه وسلم - : « إياكم والشح ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح :
أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا »[36] .
فالشح بالدنيا والتكالب على متعها يتنافى مع
النسيج الذي يربي عليه الإسلام أتباعه . قال حبيش بن مبشر : « قعدت مع أحمد بن
حنبل و يحيى بن معين والناس متوافرون ، فأجمعوا على أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً
بخيلاً »[37] . قلت : وإذا كان ذلك مع عامة الصلحاء ؛ فما
حال السادة المصلحين من الدعاة والعلماء الذين لن تجتمع حولهم القلوب ، ولن ينالوا
ثقة الناس ويظفروا بمودتهم ما لم تخلقوا بالكرم ويتصفوا بالجود فيرتهنوا بذلك لدى
عامة الناس الشكر ، ويسترقوا بمعروفهم أحرار الخلق ؛ لأن من جاد ساد ، ومن بخل رذل
، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي
الآخرة الأتقياء »[38] ، وقال ابن حبان : « كل من ساد في الجاهلية
والإسلام حتى عرف بالسؤدد ، وانقاد له قومه ، ورحل إليه القاصي والداني ؛ لم يكن
كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام وإكرام الضيف »[39] .
وتتأكد الحاجة إلى الجود حين يغرق الكثيرون
في أوحال الترف ، والتعلق بزخرف الحياة الدنيا ، ويفقدون التوازن والقدرة على
الجمع السوي بين تطلُّب الدنيا والعمل للآخرة ، ولله در حاتم الأصم حين قال : « من
ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله فهو كذاب »[40] .
كما تتأكد في أوقات حصار أعداء الأمة
للعملين الدعوي والخيري وسعيهم الدؤوب لتجفيف المنابع والقضاء على الموارد المتاحة
من خلال عامة الأمة ، لتعظم المسؤولية عندها في حق جيل الصحوة وأبناء الدعوة في
القيام بردف مشاريع البر وأعمال الخير وما فيه نصرة الدين وتأييده ، وما لم يبادر
الجميع إلى ذلك كلٌ بحسب وسعه وطاقته فإن العاقبة هي الفشل ، والخاتمة هي الهلكة ؛
إذ الدعوات لا تقوم إلا على جسور تضحية أبنائها وأعمدة بذلهم ، ولله در الصحابة
الكرام الذين كانوا يرون في أوقات الأزمات أن لا حق لأحدهم بما زاد عن حاجته ، كما
في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « بينما نحن في سفر مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على راحلة له ، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً ،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا
ظهر له ، ومن كان له فضل من زادٍ فليعد به على من لا زاد له ، قال : فذكر من أصناف
المال ما ذكر ، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل »[41] .
كما تتأكد في فترات تنفير الناس عن الخير ،
والقيام بتشويه الدعوة والدعاة ، ليكون في الجود عند ذلك حراسة للعرض ، وستر للعيب
، ونباهة للذكر ، وتأليف للقلوب ، وقضاء على كثير من المكائد المحبوكة والأخلاق
المرذولة .
اللهم يا كريم وتحب الكرماء ، وجواد تحب
الجَوَدة ، وتأمر بمكارم الأخلاق وتكره سفاسفها .. ارزقنا صلاح النية وسخاء النفس
وكثرة العطاء وحب السماحة وإيثار الآخرة على الدنيا ، وجنبنا دواعي الحرص والطمع ،
وحررنا من التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة ، وارزقنا التضحية لدينك والبذل في سبيلك من
غير منٍّ ولا أذى ، بإحسان منك وفضل يا جواد يا كريم !
(1) صحيح ابن حبان (5567) ، وهو صحيح .
(2) أحمد (18900) ، وهو صحيح .
(3) أحمد (17371) ، وهو صحيح .
(4) مسلم (1016) .
(5) البخاري (1897) .
(6) الدارمي (59) ، ورجاله ثقات .
(7) البخاري (5) .
(8) مسلم (4275) .
(9) البخاري (5574) .
(10) البخاري (1951) .
(11) انظر : تاريخ الخلفاء ، للسيوطي : 39
.
(12) انظر : الترمذي (3608) ، وهو حسن .
(13) انظر : تاريخ دمشق ، لابن عساكر :
39/73 .
(14) الترمذي (3634) ، وهو حسن .
(15) السنن الكبرى ، للبيهقي : 6/160 .
(16) انظر : الزهد ، لابن المبارك (520) .
(17) انظر : الاستيعاب ، لابن عبد البر :
2/514 .
(18) الإصابة ، لابن حجر : 3/532 .
(19) انظر : تاريخ دمشق ، لابن عساكر :
25/101 .
(20) الزهد ، لهناد : 2/392 .
(21) المصنف ، لابن أبي شيبة : 7/131 .
(22) الزهد ، لهناد : 1/338 .
(23) تهذيب التهذيب ، لابن حجر : 5/288 .
(24) حلية الأولياء ، لأبي نعيم : 1/296 .
(25) الورع ، لأحمد : 79 .
(26) سير أعلام النبلاء ، للذهبي : 3/352
.
(27) سير أعلام النبلاء ، للذهبي : 2/626
.
(28) انظر : سير أعلام النبلاء ، للذهبي :
1/497 - 498 .
(29) صفة الصفوة ، لابن الجوزي : 1/170 .
(30) تاريخ دمشق ، لابن عساكر : 33/173 .
(31) المصنف ، لعبد الرزاق : 8/268 .
(32) حلية الأولياء ، لأبي نعيم : 1/209 .
(33) المعجم الأوسط ، للطبراني (7650) ،
وهو صحيح .
(34) النسائي (3671) ، وهو صحيح .
(35) ابن حبان (3250) ، وهو صحيح .
(36) أبو داود (1698) ، وهو صحيح .
(37) الآداب الشرعية ، لابن مفلح : 3/478
.
(38) أدب الدنيا والدين ، للماوردي : 226
.
(39) روضة العقلاء ، لابن حبان : 214 .
(40) حلية الأولياء ، لأبي نعيم : 8/75 .
(41) مسلم (3258) .