دعاني أحد الأصدقاء ذات مرة لصحبته في
حوارٍ مع أحد قساوسة النصارى بإحدى العواصم الغربية. دخلنا مكتب القس فرحب بنا
وأجلسَنا قُبالته بينما أخذ يحكي لنا بأسلوب درامي كيف تعرف على النصرانية فملأت
خواء قلبه بعد عقود من الضياع والإجرام (على حدِّ تعبيره). ثم أخذ هو ورفيقٌ له
يؤطِّران للحوار قبل الشروع فيه فكان مما قال رفيقه: إننا – معشرَ النصارى – نملك
بين أيدينا الأصل العبراني للعهد القديم والأصل اليوناني للعهد الجديد، فإذا ما اختلفنا
في قراءة نصٍ مَّا، أحضرتُ الأصلين اللذَين أحتفظ بهما في عربتي. ودار الحوار حول
المصادر إلى أن انتهى بنا إلى نُسَخ العهد القديم واختلافاتها فطلبت منهما إحضار
النسختين العبرانية واليونانية من العربة، وهو ما لم يتوقعانه لظنهما أن مجرد
الإيهام بامتلاك مصادر مكتوبة بلغات عتيقة كفيل بردع الخصم وتخويفه من الخوض فيها.
فلما سقط في أيديهم اعتذرا عن إكمال الحوار بحجة انشغالهما فانصرفنا.
إن كثيراً من الدعاة إلى
النصرانية يتَّبعون سياسة الاستقواء بالمجهول؛ فيزعمون - مثلاً - أن
اختلاف نسخ التوراة المتداولة راجع إلى اختلاف المترجمين في التعبير عن الأصل
العبراني الذي يجهله خصومهم، وأنه كاختلاف ترجمات معاني القرآن في محاولة التعبيـر
عن الأصـل العربي. وقد تجد أحـدهم يدَّعـي في النـص ما ليس فيه
بحجة أن الأصل يحتمل ذلك المعنى الذي لا يدرك كنهه إلا الخاصة؛ وهم بهذا يستغلون جهل
أغلب المسلمين، بل أغلب النصارى، بالعبرانية أو اليونانية أو السُّريانية. وحيث
إني قد بينت في مقال سابق أن «العهد الجديد» - وليس
هو إنجيل عيسى عليه السلام - لم يكتب في أصله
باليونانية كما يزعم علماء النصارى بل بلغةٍ ساميةٍ رجَّحتُ أنها السُّريانية،
فسأكتفي بالحديث هنا عن العهد القديم وأبيِّن أن «أصله» العبراني
المتداول فضلاً عن الترجمات ليس من عند الله بل هو قول البشر.
يعتمد جمهور علماء اليهود
والنصارى النص المسوريِّ للعهد القديم (The Masoretic Text)؛
وهو الذي يقوم على التحقيق والضبط التقليدي المعروف بالـ «مَسوراه» أو «ميراث»
علماء اليهود الذين عُرفوا بالمسوريين نسبة إلى هذا التقليد. وقد بدأ المسوريون
محاولة ضبط النص في القرن السادس الميلادي؛ أي بعد تدوينه بألف عام أو يزيد، ولم
ينتهوا إلا في القرن العاشر الميلادي في الأكاديميات التلمودية ببابل وفلسطين[1]. كما أن أقدم
المخطوطات التي تحوي النص المسوري لا تعود إلى أبعد من القرنين التاسع والعاشر
الميلاديين[2].
من أشهر طبعات النص
المسوري تلك الموسومة بـ (Biblia Hebraica
Stuttgartensia) وهي التي قال عنها العالم اليهودي «عمانوئيل
طوف» بأن
من سماتها «الانتقاء غير الموضوعي للقراءات المختلفة»[3]. فالقراءات التي اصطفاها
المسوريون لم تكن وحياً بل هي اجتهاد بشري محض. مثال
ذلك ما نقرؤه في سفر «صموئيل الأول 13: 1»: «بِن
شناه شاؤل بمالخو وشتي شانيم ملخ عل يسرائل» وتفسيره: «وكان
شاول ابن سنة حين صار ملكاً، وملك سنتين على إسرائيل». وهذا
من عجائب الدهر؛ إذ كيف يتأتى لرضيع في عامه الأول أن يحكم مملكة إسرائيل. فلما
كان النص حرجاً بالنسبة لمترجمي «الكتاب المقدس» آثر
بعضهم – كطبعة دار المشرق اليسوعية 1994م
– أن
يكتب «وكان شاول ابن ... سنة
حين صار ملكاً، وملك ... سنة على إسرائيل» دون
ذكر لعدد السنين. فهذا خطأ ثابت في النص العبراني الذي يعد
عندهم أصلاً، وليس من تصرُّف المترجمين.
وأعجب منه ما أورده سِفر «الأخبار
الثاني 21: 20» قائلاً: «بن
شلوشيم وشتايم هايا بمالخو وشموني شانيم ملخ بيروشلايم فيِّلِخ بِلو حِمداه» وتفسيره
«وكان [يورام] ابن
اثنتين وثلاثين سنة حين ملك، وملك ثماني سنين في أورشليم، وذهبَ غيرَ مأسوف عليه»؛
أي أنه توفي في الأربعين من عمره. وهذا معقول؛ لكن النص
يعقبه بقوله: «فأقام سكان أورشليم أحزيا ابنه ملكاً مكانه ... وكان
أحَزيا ابن اثنتين وأربعين سنة حين ملك» (في العبرانية: «بِن
أربعيم وشتايم شناه بمالخو»). وهذا يعني أن «أحَزيا» كان
قد بلغ الثانية والأربعين من عمره لـمَّا توفي أبوه «يورام» في
سن الأربعين، فهو بذلك أول ابن في التاريخ يكبر أباه بعامين! وهذه
مفارقة محفوظة في الأصل العبراني وليست في الترجمات فحسب.
أختم بمثال من سفر «صموئيل
الثاني 6: 23» جاء فيه «ولميخال
بَت شاؤل لو هَايا لاه يالِد عَد يوم موتاه». وتفسيره: «ولم
تلد ميكال ابنة شاول ولداً إلى يوم ماتت». لكن هذا النص يتعارض مع
ما يدوِّنه السفر نفسه «21: 8» حول
«حميشت
بني ميخال بَت شاؤل أشير يَلداه لعدريئل» ومعناه: «... بني
ميكال ابنة شاول الخمسة الذين ولدَتْهم لعدريئيل ...». فهل
كان لميكال خمسة أبناء من عدريئيل أم أنها ماتت عاقراً؟ سؤال أَدَع الإجابة عنه
لمن يدعي أن الأصل العبراني للعهد القديم من عند الله.
ولما كان علماء العهد
القديم عاجزين أمام هذه الحقائق، أقر كثير منهم بوجود نص أصيل غير الذي بين
أيديهم، فاتجهوا إلى نُسَخ أخرى يستعينون بها لإعادة بناء أصل التوراة كما عرفها
بنو إسرائيل، من هذه النسخ: الترجمة السبعونية
اليونانية، ومخطوطات البحر الميت التي لا تزال مثار جدل في الأوساط العلمية، وأطلق
العلماء على هذا الأصل المفترض Ur-Text أي
«النص
الأصلي».
ولكن ينبغي أن يتنبَّه
القارئ المسلم إلى أن النص الأصلي الذي يسعى علماء العهد القديم إلى استعادته ليس
هو الكتاب الذي أنزل على موسى - عليه السلام - بل
هو نص مفترَض يحوي كتب العهد القديم بوضعها الحالي مع شيء يسير من الاختلاف، فلا
يعدو جهدُهم أن يكون سعياً لحل الاختلافات الموجودة بين نسخ التوراة المختلفة. وهذا
النص – وإن توصلوا إليه – لن
يرقى في مجمله إلى ما قبل القرن السابع قبل الميلاد؛ فهو نص سطرته أيدي الأحبار
ليشتروا به ثمناً قليلاً، باستثناء بعض المواطن التي شهد القرآن بصحتها.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ
لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} . [البقرة: 79]
[1] Encyclopaedia
Britannica 2002 Standard
Edition CD-ROM, (Under “Masoretic text)“
[2] Freedman,
David N. The Nine Commandments (New York: Doubleday, 2000) p. 87.
[3] Emanuel Tov.
Textual Criticism of the Hebrew Bible (Minneapolis: Augsburg Fortress
Publishers, 2001), p. 375.