قاسم سليماني حياً وميتاً...

بنت إيران إستراتيجيتها على الصمود في وجه الضغوط الاقتصادية الأمريكية مع محاولة الضغط على الولايات المتحدة والتهديد بغلق مضيق هرمز.


لا يمكن فصل حادثة مقتل القائم العسكري الإيراني (قاسم سليماني) على يد القوات الأمريكية عن مسارات الأحداث التي تشهدها المنطقـة وتوتر العلاقـات بين إيران والولايات المتحـدة. ومنذ لحظة ترشحه بدا أن الرئيس ترامب يريد أن يغير قواعد اللعبة مع طهران، وكان الاتفاق النووي الذي وقَّعته الولايات المتحدة مع إيران عام 2015م، مسار نقد واتهام إبَّان حملة ترامب الانتخابية واصفاً إياه بأنه عار، واعداً ناخبيه بإلغائه ووضع اتفاق جديد يضمن مصالح أمريكا بحسب رؤيته. في 8 مايو 2018م وبعد أشهر من التهديدات، أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة بقرار أحادي من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات على إيران داعيـاً إياها لإعادة الجلوس والتفاوض من جديد حول الملف النووي بشروطٍ وقواعدَ جديدةٍ، وهو الأمر الذي رفضته طهران باعتبار اتفاق 2015م اتفاقاً دولياً وقَّعت عليه إدارة أوباما والعديد من الدول الأوروبية.

بنت إيران إستراتيجيتها على الصمود في وجه الضغوط الاقتصادية الأمريكية مع محاولة الضغط على الولايات المتحدة والتهديد بغلق مضيق هرمز.

فاستهدفت بداية شهر مايو 2019م عدداً من السفن في المضيق، ثم أسقطت إيران في شهر يونيو 2019م بصاروخ (أرض - جو) طائرة بدون طيار أمريكية فوق مياه مضيق هرمز. أعقبتها باحتجاز ناقلة النفط البريطانية (ستينا إمبيرو) مدعيةً أنها لم تلتزم بقوانين الملاحة. وفي سبتمبر 2019م قامت إيران باستهداف منشآت شركة أرامكو، وهذا يُعدُّ تصعيداً خطيراً فهو يهدد إمدادات النفط من جهة ومن جهة أخرى يُظهِر الرئيس ترامب بأنه غيرُ قادر على حماية حلفائه.

ورغم ازدياد معدل العمليات العسكرية الإيرانية إلا أن الولايات المتحدة لم تتخذ أي رد فعل عسكري مقابل تلك التهديدات الإيرانية، مكتفية بتشديد حالة الحصار الاقتصادي على طهران.

لم يكن الحصار الاقتصادي وحدَه هو الأزمة التي تواجهها طهران؛ فقد خرجت التظاهرات في كلِّ من لبنان والعراق مطالبة بإنهاء الطائفية السياسية، ولأول مرة في العراق يتم استهداف إيران مباشرة من قبل الشيعة بشعارات تدعو إلى خروجها بالكامل من العراق، وتم حرق قنصليتها في كربلاء، وبدا أن المشروع الإيراني في المنطقة يعاني من إشكاليات ضخمة تهدد وجوده؛ فطهران التي كانت تتباهى بسيطرتها على أربع عواصم عربية، فإذا بتلك العواصم تشعل النار تحت أقدام إيران، حتى أن العاصمة طهران عجَّت هي الأخرى بجماهير المتظاهرين ضد النظام.

سليماني حيّاً:

بدا أن الموقـف الإيراني مأزوم إلـى درجـة كبيـرة داخلياً وخارجياً، فلجأت طهران إلى رَجُلها نائب رئيس الحرس الثوري قائد فيلق القدس (قاسم سليماني) مهندس العمليات العسكرية لأذرعها في الخارج؛ فقامت بإرساله إلى العراق في مهمة إطفاء حرائق الثـورة المشتعلة ضدها هناك. حاول الرجل باجتماعه مع فصائل الحشد الشعبي العراقي أن يضع رؤية إستراتيجية لإنهاء حالة الغليان في الشارع وامتصاص غضب الشعب العراقي، إضافة إلى محاولة الضغط على الولايات المتحدة لتخفيف أو فك الحصار الاقتصادي المضروب حول طهران.

كانت خطة سليماني تقتضي تحويل الغضـب الجماهيري تجاه الولايات المتحدة بدلاً من الحكومة الطائفية وإيران، واستهداف عدد من المواقع العسكرية الأمريكية. توقعت طهران أن الولايات المتحـدة في عهدها الترامبي بعيدة عن القيام بعلميات عسكرية حاسمة؛ فهي التي انسحبت من سوريا تاركة المنطقة للروس والأتراك، وشرعت في إجراء محادثات مع حركة طالبان لإعادة جنودها من أفغانستان، ورغم اشتداد التصريحات العسكرية تجاه رئيس كوريا الشمالية إلا أن ترامب عاد وتفاوض مع رئيسها، كذلك فإن مناوشاتها العسكرية في الخليج لم تلقَ أيَّ ردٍّ عسكري أمريكي.

بَنَت طهران خطتهـا أن استهداف بعض القواعد العسكرية في العراق سيمرُّ كما مرت ضرباتها السابقة وسيزيد من الضغوط على الولايات المتحدة وسيوجه غضب الجماهير إليها بدلاً من طهران.

سليماني ميِّتاً:

بدا لطهران أن أمريكا لن تتورط في عمل عسكري كبير، وبحسابات الربح والخسارة، فإنه في حال ردَّت الولايات المتحدة بضربة عسكرية كبيرة فإن مكاسب إيران ستتضاعف؛ فستجلب ضربتها العسكرية تعاطفاً دوليّاً بما يُمكِّن النظام الإيراني من إعادة شحن بطاريته الجماهرية التي أوشكت على النفاد، وسيضع الولايات المتحدة في موقف الانتقاد الدولي. وسيمكِّن طهران من الدفع بالولايات المتحدة خارج المنطقة.

وهو ما يعني أنه في حال استهداف الولايات المتحدة لـ (قاسم سليماني)، فإن (سليماني ميِّتاً) سيحقق بالنسبة لطهران عدداً من المكاسب الإستراتيجية ربما لن يفلح (سليماني حيّاً) في تحقيقها، فقد استهدفته الولايات المتحـدة بعد نزوله في مطار بغداد قادماً من جولة شملت لبنان وسوريا. لقد كان الرجل يحاول إطفاء الحرائق التي شبت في أذرع إيران الخارجيـة لكنه وإلى لحظة استهدافه كانت المظـاهرات في كلٍّ من لبنان والعراق ما تزال تزداد قوة، وبدا أن الرجل لم يفلح في احتوائها، وما كان (سليماني حيّاً) يستطيع أن يوجه البرلمان العراقي باستصدار قرار بإخراج القوات الأمريكية من العراق، لكن (سليماني ميِّتاً) فعل ذلك.

لقد كان (سليماني ميِّتاً) مفيداً لطهران ربما أكثر من كونه حيّاً، وهو (سليماني ميِّتاً) بالنسبة للرئيس الأمريكي المأزوم داخلياً، أيضاً مكسب كبير؛ فالرئيس الأمريكي المحاصر من قبل الحزب الديمقراطي الطامح لمحاكمته ومحاولة عزله، في حاجة إلى رافعة جماهيرية تبدد الصورة الذهنية عنه بأنه غير القادر على الحسم العسكري، وتحوِّل النقاش الإعلامي بعيداً من ملف عزله سياسيّاً، وهو ما حققه بالفعل. لقد أظهر (سليماني ميِّتاً) الرئيسَ ترامب بمظهر القائد الحازم والقوي أمام مواطنيه وأنه يستطيع أن يدير أمور الحرب كما يدير أمور السلم، واستطاع (سليماني ميِّتاً) أن يوحد الحزب الجمهوري خلف ترامب في الوقت الذي يسعى فيه الحزب الديمقراطي لعزله

طبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية:

رغم توعد طهران بردٍّ عسكري قاسٍ على اغتيال الولايات المتحدة لسليماني؛ فإن ما أطلقته طهران من صواريخ تجاه قاعدتَي عين الأسد وأربيل بدا أنه جاء فقط لحفظ ماء الوجه وليس لإحداث ضرر حقيقي بالقوات الأمريكية، ولأن الضربة الإيرانية لم تُحدِث أية خسائر تذكر، وبعد ظهور تقارير صحفية تشير إلى إخبار طهران للولايات المتحدة بتفاصيل الضربة الصاروخية قبل وقوعها، وحتى تغطي طهران على فضيحتها العسكرية، أوكلت إلى الحكومة العراقية الموالية لها بالتغطية على الحدث فأصدر مكتب رئيس وزراء العراق (عادل عبد المهدي) بياناً أوضح فيه أن إيران أبلغت بلاده شفهياً بهجمات وشيكة على منشآت عسكرية أمريكية من أجل حماية الجنود العراقيين.  والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الولايات المتحدة وطهران حليفتان وكل ما يظهر لنا في العلن هو مسرحية يقصد بها خداع العرب والمسلمين، أم أن ثمة صراعاً وعداءً حقيقيين بين الدولتين؟

الحقيقة أن الولايات المتحدة في حاجة إلى إيران بمنظومتها الصفوية لتكون وسيلة تبتز بها دول المنطقة وتفرض الحماية على دولها، وتدفعها للقبول بخططها وإستراتيجيتها ومنها القبول بصفقة القرن وإظهار أن العدو الإستراتيجي للمنطقة هو إيران التوسعية وليست إسرائيل التي تسعى للتواصل السلمي مع دول المنطقة. لكنها في الوقت نفسه تبقي النظام الإيراني تحت السيطرة حتى لا يخرج عن الطوق ويحقق أهدافه الإستراتيجية الكبرى.

الجانب الإيراني يسعى لأن يصبح قـوة دولية؛ وفي علم السياسة لن تصبح قوة دولية إلا بعد الصعود على منصة الهيمنة الإقليمية في محيطك.

أمريكا تَعْلَم الهدف الإستراتيجي الإيراني، وإيران تعلم أن أمريكا تدرك خططهـا ولن تتركهـا تصل لطموحاتهـا. لكنها في الوقت نفسه تحاول وتناور متحيِّنة اللحظة المناسبة لتحقيق اختراق سياسي أو عسكري يمكِّنها من تجاوز الطوق الأمريكي المضروب حولها.

لذلك فالطرفان يدركان إستراتيجية كلٍّ منهما تجاه الآخر؛ فإيران لا يمكنها الدخول في صدام وحرب حقيقية مع واشنطن لأنها تعلم قدرتها العسكرية بالمقارنة بالولايات المتحـدة التي يمكنها - إذا أرادت - محو إيران من الوجود. لذلك فهي إذا رأت التصميم العسكري الأمريكي تراجعت إلى الخلف تجنباً للصدام. وأمريكا لا تسعى لإفناء إيران تماماً لأنها في حاجة إليها فإذا رأت أن النظام الإيراني بدأ في التآكل داخلياً سعت بدعمه ورفعه وإلقاء طوق النجاة له.

فالطرفان يتربصان ببعضهما؛ أمريكا تريد من إيران أن تظل إيران تثير مخاوف دول المنطقة برؤيتها التوسعية، لكنها لن تسمح لها أن تصبح القوة المهيمنة على الإقليم ولن تتركها تتوسع بحيث تخرج عن السيطرة. وإيران تعلم الإستراتيجية الأمريكية تجاها لكنها تناور تتقدم وتتأخر، وتتبرص الفرصة المناسبة للخروج من الحصار الأمريكي.

فحين تقرر أمريكا استهداف هدف إيراني أيَّاً كان فهي تعلم طبيعة الرد الإيراني وطريقة تعامله، وإيران تعلم أن أمريكا لن تسعى لتقويضها بالكامل ولن تسعى لذلك ما دامت تلتزم الخطوط الحمراء وكلاهما يحاولان الاستفادة من الحدث سياسياً بأقصى درجة وبينهما دائماً خطوط سياسية مفتوحة للتفاوض والوصول إلى اتفاق مهما كانت شراسة التصريحات أو الصدامات السياسية أو العسكرية أحياناً... لذلك يبدو الصراع بينهما مسرحياً وإن كان حقيقيّاً، لأن الطرفين كليهما يستطيعان أن يَعْبُرا أي صدام بينهما بأقصى استفادة سياسية وكأن الأمر كان متفقاً عليه ابتداءً.

 


أعلى