الجماهيرية العظمى هو الاسم الرسمي لبلد كان يسمى ليبيا، كان يسكنها البشر الذين
تحولوا إلى جرذان مقمِّلة (مصابة بالقمل) يُجرِي عليها الزعيم تجاربه ويطبِّق عليهم
نظرياته؛ فهو الذي حررهم من الاستعمار وهو الذي أجبر صديقه وشريكه بيرلسكوني على
الاعتذار نيابة عن الإيطالين، وهو الذي بنى ليبيا... ولكن مشكلته أن سكان ليبيا لم
يفهموا نظريته فهو يدعوهم إلى تسلُّم السلطة وممارستها، وأنه مجرد زعيم وموِّجه
للثورة ولكنهم استمروا في إزعاجة والرجوع إليه في كل كبيرة وصغيرة؛ ولذا فقد هددهم
في أحد خطاباته قبل أكثر من ثلاثين سنة أنهم لم يفهموا نظريته ولم يستوعبوا كتابه
الأخضر؛ ولذا سيبحث عن شعب آخر! نعم، شعب آخر؛ ولذا تمَّت ترجمة كتابه الأخضر
وأنشئت معاهد لتعليمة في بعض بلدان إفريقيا التي أحس أن شعوبها أكثر قدرة على
الفهم، وكانت النتيجة أنه أصبح ملك ملوك إفريقيا. ولكن سكان ليبيا استمروا في
إزعاجة؛ فهو مضطر أن يمثِّلهم في اجتماعات القادة العرب وفي الأمم المتحدة وفي
الزيارات الرسمية؛ فهم لم يتمكنوا من حكم أنفسهم على الرغم من كل الفرص التي أعطاهم
إياها فقد ألغى مسمَّى الوزارات التي تحولت إلى أمانات، ومنحهم أسماء جديدة للأشهر
وبداية جديدة للتاريخ.
وفي إحدى محاولاته لدفع الجماهير الحاكمة إلى بناء اقتصاد لا يقوم على النفط طلب من
اللجان الثورية أن تسيِّر البلد دون اعتبار دخل النفط ولكنهم فشلوا، وهو ما ولَّد
قناعة لدى الزعيم أنها لن تستطيع أن تستوعب نظريته في حياته؛ ولذا حرصاً على
استمرار المسيرة - وقد أجهده البحث عمَّن يفهم نظريته ولديه القدرة على تطويرها
واستكمال النقص فيها - لم يجد إلا واحداً اسمه سيف ولا يهم ابن من هو؛ ولكن الأهم
أنه يشبهه في كل شيء حتى في تركيب الـ (D
N
A)
فأعلن العقيد الجمـاهيرية الأولى وسيف بن ... معمر أعلن الجماهيرية الثانية، ولكن
للأسف بعد خروج الجرذان من جحورها.
إن ما سبق ليـس هزلاً بل هو الجد الذي يشـبه الهزل وما أصاب شعب ليبيا هو ابتلاء
دام أكثر من أربعين عاماً كان الزعيم يرغب أن يُتْبِعها بأربعين أخرى ولكن قَدَر
الله كان له بالمرصاد؛ فقد أتاه الله من حيث لم يحتسب.
لا ننفي أن العقيد قد يكون الشخص الوحيد الذي قرأ أحداث تونس بصورة صحيحة، وحاول أن
يدعم النظام بما يستطيع، فأمر بالسماح للتوانسيين بالدخول الحر إلى ليبيا للعمل،
وكان خروج زين العابدين بن علي صدمة قاسية له حتى إنه ألقى خطاباً انتقد فيه الشعب
التونسي لعدم السماح للرئيس باستكمال مدَّته وأنه لم يكن هناك داع للشغب؛ إذ يكفي
أن يذهبوا إليه ويطلبوا منه التنحي وسيتنحى، وأن دماء أبنائهم ذهبت هدراً وأن
التحول سيكون مقبولاً لو أن الجمهورية تَخْلُفُها جماهيرية. أما إذا كانت جمهورية
بدل جمهورية فلا فائدة. وقام العقيد ببعض المحاولات اليائسة لامتصاص الصدمة؛ فبادر
بقيادة المظاهرات للإصلاح ولكن الوفود المطالبة بتحسين الأوضاع - للأسف - جاءت إلية
من أنحاء ليبيا تطالب الزعيم بكذا وكذا... وكان جوابه الصمت.
وولم تكن المطـالب القاتلة رواتب ولا سـكناً ولا خـدمات ولا حرية؛ بل هي ما لا
يستطيعه إلا الله - تعالى - وهو إحياء الموتى! نعم، إحياء الموتى؛ ففي إحدى نزوات
الزعيم وفي خضم التحالف ضد الإرهاب كان الزعيم يقدم براهينه العملية على أنه جدير
بالثقة، وأنه كما كشف وسلَّم الغرب البرنامج النووي الليبي فها هو يحارب الإرهاب
ويملأ السجون بالإرهابيين وفي سجن أبوسليم تمت تصيفة حوالي ألف ومئتي سجين من
الأطباء والمثقفين والطلبة الذين يجمعهم التدين وتشملهم تهمة الإرهاب ولم يُعلَن
الخبر ولم تُسلَّم الجثث؛ ولذلك فقد كانت المطالبة من أهلهم بكشف مصيرهم. والمشكلة
أن الساكتين تكلموا بعد أحداث تونس ولم يكن أمام النظام إلا اعتقال المحامي الذي
تبنَّى القضية. والجديد أن الناس قد تبنُّوا قضية المحامي فكانت الشرارة التي امتد
لهيبها ليشمل معظم أنحاء ليبيا. وعلى الرغم من عنف النظام إلا أنه أُخِذ على حين
غرة بحجم الانتفاضة؛ فقد جرى طرد اتباع النظام من شرق ليبيا ووصلت الأحداث إلى
العاصمة وكاد النظام أن ينهار، ولكنه تماسك وبدأ الرد ومن الملاحظ في البداية ما
يلي:
أولاً:
غياب القذافي عن الساحة وظهور ابنه سيف الذي رسم تصوُّره للأحداث التي تُرجمَت بصور
عملية؛ فقد خيَّر الناس بين قبول عرضه ببدء الجماهيرية الثانية وبين أن ليبيا ستدخل
في حرب طاحنة وأن يعود إليها الاستعمار الذي لن يرضى بتكوين إمارات إسلامية في
ليبيا، وأن الذين يبكون مئات القتلى في بنغازي والبيضاء سيبكون آلاف القتلى، وأن
الغرب سيحتل آبار النفط.
ثانياً:
انتشار المظاهرات السلمية في مختلف المدن وسقوطها واحدة بعد الأخرى. وكانت في
البدايه تستلهم الثورة المصرية ولكن النظام استعمل الطيران ضد المتظاهرين في
طرابلس، وبدأت القوات الموالية له حملة قمع دموية وتم تصوير مشاهد إعدام في الشوارع
مع اختطاف الجثث. ونجح النظام في تأمين طرابلس وكان التأكد من ولاء القوات هو
المشكلة الرئسية أمام العقيد؛ فقد اختفى وزير الداخلية وظهر مع الثوار، وانضم وزير
العدل إلى الثورة وانتُخِب رئيساً للمجلس الانتقالي، بل حتى رئيس التشرفات ظهر في
القنوات يهاجم الزعيم وأعلن وزير الخارجية البريطاني أن العقيد في طريقة إلى
فنزويلا، وهنا ظهر الزعيم لأول مرة في مشهد تمثيلي لثوانٍ ليؤكد أنه في ليبيا وأن
المطر هو الذي يمنعة من مشاركة الجماهير احتفالاتهم. كان من الواضح أنه يعيش حالة
صدمة، وأنه غير قادر على الاسترسال في الكلام.
ثالثاً:
في خطابه الثاني من باب العزيزية كان غاضباً ومضطرباً في آن واحد وأهم الملاحظات
أنه كرر ما قاله سيف وأضاف إلية ضرب بعض الأمثلة التي ترد على تفرده بالقمع فذكر كل
ما جرى من المجازر والمخالفات التي مورست شرقاً وغرباً فذكر مهاجمة يلتسن للبرلمان
الروسي وتأييد الغرب له، وذكر أحداث ساحة تيانامن في الصين ودعس الطلبة بالدبابات،
وذكر تصفية بعض الطوائف الدينية في أمريكا وما جرى في غزة، فقد كان يريد أن يقول:
إنه من حقه أن يفعل في ليبيا ما فعلة الآخرون وأضاف إلية لازمةً جديدةً وهي (وَفْقَ
القانون الدولي)، وأخذ يقرأ نصوص قانون العقوبات الليبي أيام الملكية ويستدل بها
على حقه في تطبيق عقوبة الإعدام على المخالفين، ونسي أنه أول من تنطبق عليه النصوص
بخروجه على الملك. وأخيراً أطلق الوصف على المتظاهرين بأنهم جرذان، وأنهم يتعاطون
حبوب الهلوسة، وأنهم أتباع القاعدة... ويمكن أن يسمى كلامه بخطبة الهلوسة ولكن من
الواضح أنه بدأ يفيق ويسعى للتنفيذ.
رابعاً:
خرج في خطاب جماهيري وبدأ في عقد المؤتمرات بحضور دبلوماسيين وصحفيين أجانب وأعلن
الجماهيرية الثانية مع هدوء أعصاب تدريجي يتناسب مع تنامي قدراته على الأرض وبدء
مرحلة الهجوم المضاد.
خامساً:
من الغريب في هذه المدة سكوت الغرب عمَّا يجري، وكان من الواضح أن الغرب يعيش صدمة
- مثل القذافي - من تتابع الأحداث؛ ففي البحرين يؤكد أوباما في تصريحات متتالية على
الإصلاح وتلبية مطالب المحتجين التي وصلت في ما بعد إلى المطالبة بجمهورية. أما عن
ليبيا فهناك صمت مطبق؛ إذ إن ليبيا القذافي «التي تحالفت معنا أخيراً واستقبلنا
للتو هانيبعل معمر المسؤول عن ملف الإرهاب» تتهاوى، وعلى يد من؟ إنها مشكلة أن نفقد
خدمات الزعيم المستقبلية، ومشكلة أكبر أن تولد دولة جديدة من الفراغ. ولقد لاحظتُ
أن الصحافة الغربية كانت تردد مبكراً المخاوف من حرب أهلية بليبيا في تكرار لمقولات
العقيد وابنه سيف.
سادساً:
لقد تكرر من القذافي المصطلحات التالية: (الدم، وأقضو عليهم، وزنقة زنقة، وفرد فرد،
والدولاب...) إنه تهديد بالإبادة وعـدم الرحمة مع ممارسة تدمير المدن المتمردة
بالأسلحة الثقيلة والطيران... والمشكلة بالنسبة للغرب أن هذا يجري مع حضور إعلامي
كبير على مدار الساعة؛ ولذلك كان التساؤل: أين حقوق الإنسان؟ أين المنظمات الدولية
ومحاكمها؟ إنها تساؤلات تكبر مع الوقت وتفضح الغرب وأنه يبحث عن مصالحة؛ فالقذافي
يؤكد لهم أن ذهابه سيؤثر على أمنهم ومصالحهم، بل صرح أن بديله سيهدد إسرائيل ولم
تجد هذه التحذيرات آذاناً صاغية لسبب بسيط هو أن الغرب موقن بأن الجماهيرية الثانية
وُلِدَت ميتة؛ ومن ثَمَّ يجب أن يبحثوا عن البدائل الممكنة ويختاروا أفضلها بالنسبة
إليهم.
لقد بيَّنت الأحداث أن الثورة الليبية عفوية هدفها الأساسي التخلص من الزعيم ومَنْ
معه، وليس لديها الإمكانات التنظيمية ولا المادية، بل ليس لديها تصوُّر لشكل النظام
البديل ولا رموزه المقبولة. لقد تبيَّن أنها ثورة شعب متدين انتفض على الاستعباد
ليس أكثر. إنه شعب يفتقد القيادات الحرة؛ ولذا قَبِل قيادة وزير عدل القذافي للمجلس
الانتقالي، وتسليم رئاسة أركان الثوار لوزير داخلية القذافي؛ إنها تجمع بين قلة
الحيلة السياسية وضعف البدائل المطروحة فقد دمَّر القذافي خلال أربعين سنه التركيبة
الاجتماعية؛ فالكل مطلوب منه فقط الهتاف للزعيم الأوحد والأبدي (الله ومعمر وليبيا
وبس) و (القايد إلى الأبد).
لقد اختار الناس بعفوية علم الاستقلال أو علم مملكة ليبيا السنوسية ولم يقدِّموا
رموز الملكية السابقة أو مؤيديها ولكنه حنين إلى عصر مضى؛ ولذلك فالغرب غير مطمئن
للبديل الذي قد يظهر بعد استقرار الوضع للمجلس الانتقالي. وهنا نقف طويلاً أمام
تصريح رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مايك مولن بعد الضربة الأولى: «أن قوات
التحالف دمرت معظم دفاعات القذافي الجوية، ولكنه أوضح أن العملية العسـكرية
الجـارية حالياً لا تهدف إلى إقصاء القذافي عن الحكم»، إنه تصريح خطير قد يؤدي إلى
عمليات موزونة؛ بحيث تُبقِي الأوضاع ساخنة وغير محسومة حتى تنتهي ترتيبات البدائل
المقبولة؛ وهي فترة قد تطول أو تقصر وهنا نؤكد على أنه على الثوار الحذر الشديد؛
فقد تصيبهم الطائرات الغربية بطريق (الخطأ) عند تقدُّمهم أكثر من اللزوم؛ ولذا أنصح
بالعمل المدروس وعدم الثقة إلا بالله - سبحانه - وأن يضعوا في أذهانهم أن محاولة جر
البلد إلى حرب أهلية هو حلٌّ مطروح عند النظام وسيلة انتقام، وعند الغرب حالة
اضطرار؛ لذا يجب على الثوار التلاحم والتأكيد على هوية الشعب الليبي المسلم الذي
يرحِّب بعلاقات تبادل مصالح مع المحيط، وأن شكل النظام الجديد يحدِّده الشعب
الليبي، وأن يستفيدوا من اختلاف القوى المتصارعة ومحاولة فتح قنوات اتصال مع
الجميع، وألا يرهنوا أنفسهم لطرف، وأن يستفيدوا من عقدَتَي العراق وأفغانستان؛
فالغرب غير قادر على تحمُّل تبعات احتلال ليبيا، ولن يستطيع الجمع بين احتلال ليبيا
وترتيب أوراقه في مصر وتونس بصورة مُرْضية، مع عدم القدرة على التعامل مع ملفات
شائكة جديدة مفتوحة؛ فإذا انشغل بليبيا فمن يتعامل مع اليمن والبحرين؟ بل الأخطر من
يتعامل مع الأوضاع الجديدة في سوريا التي قد تغير كل قواعد اللعبة والمراهنة
الغربية على الحصان الشيعي الذي بدأ يدركة التعب. والهلال الشيعي الذي كاد أن يكتمل
بلبنان قد يتحطم بسوريا والعراق، والسلام.