باب الرحمة.. صمود مقدسي ومكر صهيوني

باب الرحمة.. صمود مقدسي ومكر صهيوني


«باب الرحمة هو الخطوة الأولى من أجل الاستيلاء على المسجد الأقصى، والرسالة من الأقفال الإسرائيلية هي السيطرة المعنوية على المكان المقدس».. هذا هو التحذير الذي نادى به الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى ورئيس الهيئة الإسلامية العليا بالقدس. فبعد أسابيع من التوتر شهدتها القدس المحتلة، قررت محكمة صهيونية في 17 مارس إغلاق مبنى باب الرحمة الواقع داخل المسجد الأقصى، وقد جاء ذلك القرار على خلفية طلب قدمته النيابة للمحكمة بشأن إغلاق مصلى باب الرحمة.

بدأت القصة عندما قامت سلطات الاحتلال بإغلاق بوابة مؤدية إلى الباب، الأمر الذي أثار حفيظة الفلسطينيين ودفعهم لكسر الأقفال الموضوعة على البوابات الحديدية في باحات المسجد الأقصى والمؤدية إلى مصلى باب الرحمة في 22 فبراير. كانت تلك المرة الأولى التي يُفتح فيها ذلك الباب بعد إغلاقه 16عاماً بسبب وقوعه تحت إشراف «لجنة التراث» التي اتهمتها حكومة العدو بتبعيتها لحركة حماس.

وهو ما استفز سلطات الاحتلال ودفعها نحو شن موجة اعتقالات طالت عشرات المقدسيّين، وتسليمهم إخطارات إبعاد عن الأقصى في الثالث من مارس. بلغ عدد المعتقلين نحو 50 فلسطينياً، كان من بينهم: رئيس مجلس الأوقاف الإسلامية عبد العظيم سلهب، ونائب مدير الأوقاف الإسلامية ناجح بكيرات، والحارس في الأقصى عرفات نجيب، ومدير نادي الأسير في القدس ناصر قوس. لمدد تتراوح بين 40 يوماً وستة أشهر، ولم تنته المعركة عند ذلك الحد، إذ واصل الفلسطينيون إقامة صلواتهم أمام الباب تأكيداً على هويته الدينية والفلسطينية ورفضاً لإغلاقه ومحاولات تحويله إلى كنيس يهودي، لكن الشرطة الصهيونية أخرجت جميع المصلين من المسجد الأقصى، في مدينة القدس الشرقية، وأبقت أبوابه مغلقة بعدما اعتدت على جميع من فيه بمن فيهم المصلون والحراس، الأمر الذي أسفر عنه إصابة نحو عشرة أشخاص.

أساطير يهودية لغايات سياسية:

في داخل باحات الأقصى يقع مصلى باب الرحمة على بعد 200 متر جنوبي باب الأسباط في الحائط الشرقي لسور المسجد الأقصى، ويبلغ ارتفاعه نحو 11.5م، ويتم الوصول إليه من خلال درج طويل من داخل المسجد الأقصى. وهو باب مزدوج يتكون من بابين هما التوبة والرحمة، ويتم النزول إليهما عبر سلالم طويلة.

ومن الجهة الأخرى الواقعة خارج السور، تقع مقبرة باب الرحمة الإسلامية التي دُفن فيها العديد من صحابة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وأبرزهم: عبادة بن الصامت وشداد بن أوس. بيد أن باب الرحمة يرجع تاريخ إنشائه إلى العصر الأموي، والذي أغلق من جهة المقبرة في عهد القائد صلاح الدين الأيوبي لأسباب عسكرية بعد تحرير المدينة من الصليبين، وظل ذلك الباب من الجهة الأخرى من داخل الأقصى مفتوحاً. إلا أن الأساطير اليهودية حول هذا الباب عديدة، إذ يعتقد اليهود أن ذلك الباب قد بني خلال فترة الهيكل الأول والذي قد بناه نبي الله سليمان عليه السلام في نظرهم، وأنه المدخل الرئيسي للهيكل من الجهة الشرقية وأن المسيح المنتظر سيدخل من باب اسمه «الرحمة» - إذ يعرف الباب بالاسم ذاته في العقيدة اليهودية - كي يعيد حكم بني إسرائيل للعالم. إذ يعد ذلك الباب باب النصر عندهم، لذا أطلقوا عليه مسمى الباب الذهبي. وهناك روايات أخرى تشير إلى أن صلاة اليهود في العصور الوسطى عند الباب كانت لطلب الرحمة عندما رفض الصليبيون دخولهم إلى المدينة لذا سُمي بهذا الاسم. ظل هذا الباب يشغل حيزاً كبيراً في معتقداتهم قديماً وحديثاً، الأمر الذي يسر للمطامع الصهيونية فيه مبتغاها.

المطامع الصهيونية في باب الرحمة:

بدأت المطامع الصهيونية في الباب منذ احتلال القدس عام 1967م، حين طلب وزير الدفاع آنذاك موشيه ديان من الشيخ حلمي الأعرج فتح باب الرحمة، الأمر الذي رفضه الشيخ قائلاً: «اذهب أنت بقواتك وافتحه إن استطعت». وفي عام 2000م، وتزامناً مع انطلاق شرارة انتفاضة الأقصى زاد الاستهداف الصهيوني للباب. إذ حاول الاحتلال إخراج لجنة التراث منه بحجج وذرائع أمنية، وبالفعل أصدر الاحتلال الغاصب أمراً عسكرياً عام 2003م بإغلاق المبنى بعد أن قام بحظر جمعية «لجنة التراث الإسلامي» التي كان لديها مكتب بالمصلى والتي تم تصنيفها على أنها جمعية إرهابية تابعة لحركة حماس. مرت أعوام مديدة على الإغلاق، حتى أيد القضاء الصهيوني في عام 2017م قرار الإغلاق، لتستيقظ المخططات الصهيونية من جديد ويعود الحديث عنها.

اختبأ خلف الأساطير الدينية التي روج لها الاحتلال، غايات وأهداف سياسية من أجل فرض التقسيم المكاني على المسجد الأقصى، أي اقتسام جزء من المسجد الأقصى وتحويله إلي كنيس يهودي.

وذلك بعدما فرضت التقسيم الزماني حين سيطرت على دخول وخروج المصلين من خلال باب المغاربة ووصلت إلى درجة اقتسام الأوقات مع المسلمين، بتخصيص المسجد الأقصى بالكامل لليهود في أيام عيدهم. تأتي الأحداث الأخيرة في إطار دعوات يهودية لحكومة الاحتلال، لإقامة كنيس يهودي في الحرم، وفتحه أمام صلاة اليهود من أجل استقبال المسيح المنتظر على باب الرحمة وعلى جزء من المقبرة التي تحيط به. ويذكر أن ذلك المقترح بدأ الترويج له منذ عام 2001م. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن السبب وراء إغلاق الاحتلال للبوابة المؤدية إلى باب الرحمة في ذلك الوقت بالتحديد والتي تسببت في كل تلك الاشتباكات بعد مرور كل تلك السنوات.

لماذا أغلق الباب في هذه الأوقات بالتحديد؟

إن الكيان المحتل على موعد مع الانتخابات العامة المبكرة في التاسع من أبريل، وذلك بعد وقوع بنيامين نتنياهو في ورطات وأزمات ائتلافية مع حكومته، جعلته غير قادرٍ على إدارة الائتلاف الحكومي وحده بعد انسحاب وزير الحرب أفيغدور ليبرمان وحزبه من الحكومة. فضلاً عن قضايا الفساد التي لا تزال تلاحقه وتهدد مستقبله السياسي خاصة بعد أن أصدرت وزارة العدل الصهيونية بياناً يفيد باعتزام المدعي العام «أفيشاي ماندلبليت» توجيه اتهامات رسمية بتورط رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في ثلاث قضايا فساد. علاوة على تحديات أخرى كان يواجهها اليمن المتطرف بزعامة حزب الليكود في إسرائيل، من صعود ائتلاف منافس سُمي بحزب الجنرالات ليضم ثلاثة من كبار القادة العسكريين الذين لديهم شعبية كبيرة والذي يشكل تهديداً كبيراً لحزب الليكود وزعيمه نتنياهو.

كل تلك التطورات في الشأن الصهيوني لابد أن توضع في سياقاتها عند تحليل أسباب التصعيد الأخير، فلعل الأحداث الأخيرة كانت في إطار تصاعد المزايدات بين الأقطاب اليمينية قبيل الانتخابات المقبلة. منها قيام وزير الأمن الداخلي «جلعاد أردان» في دعايته الانتخابية بتعديد إنجازاته، والتي جعل في مقدمتها إخراج الحركة الإسلامية عن القانون، وإخراج المرابطين والمرابطات من المسجد الأقصى، ومضاعفة أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى ثلاثة أضعاف. علاوة على ذلك فإن الأحزاب اليمينية تستخدم الانتخابات المقبلة كورقة ابتزاز وضغط لتطالب فيها نتنياهو بإغلاق باب الرحمة، نظراً لحاجته الشديدة لأصوات اليمين المتطرف كما أنه في المقابل يخشى من احتمالية انفلات الأوضاع من بين يديه. إذ يبدو مما تقدم أن ما حدث كان تثبيتاً لمطلب صهيوني في خطة التسوية المقبلة التي نوهت الإدارة الأمريكية بالإعلان عنها.

مستقبل باب الرحمة قيد التفاوض

اتفق الكيان الصهيوني مع الأردن - باعتباره المسئول بشكل مباشر عن تأمين وحماية مباني المسجد الأقصى من حيث المبدأ - على معالجة القضايا الإشكالية بخصوص الباب، وذلك من خلال وضع خطة تنفذ على مراحل تبدأ بإغلاق المبنى لإجراء أعمال الإصلاح وتنتهي بإعادة فتحه أمام الاستخدام المنتظم. وبرغم ذلك لا يزال هناك عدة قضايا عالقة لم يتم حسمها.

فقد قرر رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو السماح للوقف بتركيب سقالات على جدران المبنى استعداداً لأعمال الصيانة من أجل إصلاح السقف المتداعي، إلا أنه اشترط ضرورة التنسيق مع سلطات الاحتلال في حال إذا كان هناك رغبة في إجراء أي عمليات إصلاح من ذلك القبيل مستقبلاً. فالجانب الصهيوني كان يرمي بذلك الشرط تشكيل لجنة مشتركة مع الأردن لإدارة المسجد الأقصى. إلا أن عمان لم تقبل ذلك المقترح ورفضت التعاون مع الكيان المحتل في مسألة الصيانة لأنها بذلك ستمنحه الشرعية بالمنطقة. كما أن الأردن رفضت أي مقترحات تأتي من قبل الإدارة الأمريكية كمحاولة للتوسط من أجل تحديد مستقبل الباب. الأمر الذي يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة تتعلق بمستقبل باب الرحمة.

 السيناريو الأول: أن يعود الباب إلى سابق عهده ويقوم الكيان الصهيوني بإغلاقه بالكامل مجدداً مع تشديد الحراسة الأمنية، لكن ذلك السيناريو إن حدث فلن يمر مرار الكرام لأن الفلسطينيين مستعدون لحشد آلاف المصلين للتصدي لأي محاولات من شأنها إغلاق باب الرحمة مرة أخرى.

السيناريو الثاني: أن تنجح الأردن فيما كان يطالب به الكيان الصهيوني لأكثر من عقد من الزمان بخصوص الباب، بأن يقوم بإدارة باب الرحمة على أنه مُصلى واستخدامه كمكاتب للوقف أو استخدامه كمعهد تعليمي إسلامي تموله الأردن.

السيناريو الثالث: أن يتعنت الكيان الصهيوني ويتخذ خطوات جدية من أجل تهويد مصلى باب الرحمة وفرض التقسيم المكاني على المسجد الأقصى، لكسب الرضا الشعبي في الداخل لصالح الليكود وتثبيت دعائم حكمه، ومواجهة أي ردود فعل فلسطينية بسياسات قمعية تشمل الاعتقالات والقتل وممارسة أعمال قمعية قد توجه خصيصاً ضد أعضاء الوقف ذوي الصلة بالسلطة الفلسطينية، أو استهداف الوقف بكامل طاقمه. وقد ظهر جلياً من الأحداث الفائتة استيقاظ الحلم الصهيوني لتهويد مصلى باب الرحمة، فخلال شهر مارس، أدخلت السلطات الصهيونية نحو 100 ألف سائح إلى المسجد الأقصى، كما اقتحم المسجد حوالي 1600 متطرف و700 من القوات الخاصة التابعة للاحتلال، وفق ما كشف عنه «عبد الناصر موسى أبو البصل» وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن.

وإجمالاً، لم يستسلم الفلسطينيون برغم معرفتهم الوافية بقوة خصمهم وتيقنهم من ردات الفعل العنيفة التي قد يوجهها الكيان الصهيوني صوبهم. ولم يكن ذلك ليردعهم حين قرر عشرات الآلاف من المسلمين الفلسطينيين الاجتماع في مجمع المسجد الأقصى والخروج في تظاهرات حاشدة احتجاجاً على غلق الكيان المحتل للباب المؤدي إلى باب الرحمة، لتصدح حناجرهم بهتافات التكبير «بالروح بالدم نفديك يا أقصى»، «هذا المسجد مسجدنا». حتى قام مسئول في الوقف بفتح أبواب المبنى ومن ثم تدفق المصلون إلى الباحة الرئيسية في مبنى المصلى وأقاموا صلاة شارك فيها نحو 60 ألف مصلٍ تقدمهم فيها رئيس وأعضاء مجلس الأوقاف الإسلامية ومشايخ القدس للمرة الأولى منذ ستة عشر عاماً، وواجهوا على إثر ذلك اعتقالات واعتداءات جمّة.

وما زال التحدي قائماً ومستقبل باب الرحمة في خطر، فإما التهويد أو الإغلاق أو أن يتمسك الأردن والفلسطينيون بمواقفهم فلا يدعوا للكيان الصهيوني الفرصة للانفراد بمصلى باب الرحمة والمسجد الأقصى بكامله.

 

 


أعلى