الأمن الثقافي
يحيل مصطلح الأمن الثقافي إلى شعور الفرد والجماعة بالاطمئنان على هويتهم، وإحساسهم بالأمان عليها من الخطر والهجوم والتهديد والمحو والتشويه، ومن هذه الغاية يكتسب مفهوم الأمن الثقافي أهميته وخطورته نظراً لارتباطه بالثقافة التي تعدّ مكوناً رئيسياً من مكونات الوجود؛ ذلك أن من لا هوية له لا وجود له، وإن تزيا بزي الحضارة ثقافة، ولغة، وسلوكاً.
ولعل الدولة بمؤسساتها هي الحافظ للأمن الثقافي للجماعة من خلال سياساتها الحمائية التي تقوم على غرس الاعتزاز بالثقافة، وربط الأجيال بتاريخها وكل ما يشكل خصوصيتها الوجودية، وتقوية حس الانتماء لدى الأجيال المتعاقبة، ومع انعدام الرؤية الهادفة إلى تحقيق الأمن الثقافي تبقى الثقافة المغلوبة نهباً للثقافة الغالبة، غير قادرة على المقاومة والتحصين، مكتفيةً برد فعل دفاعيّ.
لقد أصبح العالم، بفعل العولمة، قرية صغيرة أو كبيرة، انتفت فيها الحدود الجغرافية والحواجز الثقافية، وترتب على ذلك انفتاح الثقافات وتداخلها لتصير عملية المحو والتخريب التي تمارسها الثقافة الغالبة على نظيرتها المغلوبة أمراً متيسّراً لوضوح الرؤية وسهولة الاستهداف، ولا يعني ذلك التضخيم من خطر العولمة وفعلها التدميري تجاه الثقافات الضعيفة التي لم تستطع الثبات أمام مدها الطاغي وموجاتها العاتية؛ فكم من لغة انقرضت وكم من ثقافة انمحت.
تسعى العولمة إلى تنميط العالم وفق نموذج ثقافي واحد هو نموذج الثقافة الغالبة التي تملك من الأسلحة أعتاها وأكثرها فتكاً بالثقافة الضعيفة التي لا تمتلك مناعة واقية، حيث تكون في موقع مواجهة تتعدد أشكالها بين الدفاع والنكوص والهجوم، وفي كل الحالات تخسر الثقافة المهاجَمة كثيراً من ملامحها وعناصرها التي اكتسبتها طيلة قرون من التكوّن والتشكّل الجيني، ويصيبها من ثم داء فقدان المناعة الثقافية الذي ينتج عن تدمير جهاز المقاومة الداخلي للثقافة.
لكل ثقافة خصوصياتها التي تشكّلت عبر مراحل من التكوّن حتى استوت مميّزة الملامح عن سائر الثقافات الأخرى، وتكتسب أيّ ثقافة سماتها من أمور كثيرة خاصة يمكن الاصطلاح عليها بالملامح الثقافية التي تنتج عما يمكن وسمه بالجينات الثقافية، فلكل جماعة جينات تتوارثها، منها الثابت ومنها المتغيّر، وهذه الجينات صارت مع هبوب رياح العولمة مهددة بالخلل الناتج عن فيروسات دخيلة تؤدي إلى انتشار سلوكات وقيم هجينة وظهور مخلوقات ثقافية مشوهة فاقدة للذاكرة.
لقد استطاعت العولمة بأسلحتها وعتادها أن تخترق الثقافات الضعيفة التي تفتقر إلى مناعة تساعدها على المواجهة والدفاع، مما يسهل محوها واندثارها وفي أقل الأحوال ذوبانها، وفي هذه الحالة تفقد الثقافة ملامحها كلياً وتغدو ممسوخة مقلِّدة، فتحدث القطيعة الثقافية مع الماضي والتاريخ واللغة والدين والعرق، ويغدو المنتمي لهذه الثقافة بلا هوية، ولعل أبشع داء يمكن أن يصيب المنتمين للثقافة المهددة الضعيفة هو داء فقدان الذاكرة الثقافية الذي ينتج أساساً عن تدمير الخلايا الثقافية.
تتأرجح الهوية الثقافية في علاقتها بالعولمة بين الذوبان والانصهار؛ ففي الحالة الأولى تفقد الهوية كل الخصائص المميزة، وتكون مجرد مكون في لجّة العولمة وأتونها الذي يبتلع الثقافات، أما في الحالة الثانية تحافظ الثقافة على ملامحها وشكلها وتكون فاعلة غير تابعة، وهكذا يعسر على العولمة محو الهوية أو إقصاؤها لأنها تمتلك المناعة اللازمة التي تمكنها من المقاومة.
إلى جانب التشوه الخِلقي والعمراني والبيئي يمكن الحديث عن التشوه الثقافي الذي يصيب هوية من الهويات بفعل دخول العادات والتقاليد الغريبة عنها وقبولها دون غربلة أو تمحيص، فأمام موقف الدهشة والانخداع والتبنّي تجد الثقافة نفسها قد داخلتها عادات وأفكار وقيم شوّهت ملامحها ومحت كثيراً من سماتها التي طالما جاهدت للحفاظ عليها.
يسهم التشوه الثقافي في جعل الثقافة بلا ملامح مميّزة؛ فلا هي تحافظ على ما يشكل خصوصيتها ولا هي تكتسب السمات التي تميز الثقافة الغالبة، والملاحظ للتحولات التي شهدتها مجتمعاتنا في العقود الأخيرة يرى ما طرأ من تغيّرات مست كثيراً من خصائصها، الشيء الذي أفقدها ما كان يميزها في مرحلة من المراحل حيث لم تكن الهجمات الثقافية قد استعرت بعد.
وعليه؛ لم يعد معقولاً أن نتحدث عن مفهوم النقاء والصفاء الهوياتي، خصوصاً في ظل انفتاح العالم على كل الروافد الثقافية والرياح التغييرية التي تمس الأخلاق والسلوكيات والعادات، ولكن يمكن الحديث عن هوية ممانعة تحاول أن تحافظ على أهم ثوابتها لا كلها، ولعل الأمر يبدو صعباً على حراس الثقافة الساهرين على حفظ الأمن الثقافي.
وارتباطاً بالتشوه الثقافي تعدّ عولمة الأخلاق من أكثر سلبيات ظاهرة الكونية، حيث أدى تلاشي الحدود الثقافية والجغرافية إلى تسرّب كثير من الأخلاق الدخيلة والقيم الغريبة، عبر قنوات كثيرة أدت إلى فساد الذوق، وتشوه القيم، وتهديد صفاء التشكيل الثقافي، وانتقل أثرها المادي إلى إحداث تشوهات أخلاقية طالت اللسان والقيم والعادات فأفرز ذلك خللاً في جهاز الثقافة العام، مما جعل الهوية عرضة للتخريب والتشوّه.
يدفعنا الحديث عن التشوه الثقافي إلى مناقشة السبيل الذي يضمن للثقافة الحفاظ على خصوصيتها وأمنها من الهجوم والهدم والمحو والإذابة، وبعيداً عن موقف الانغلاق على الذات وشيطنة العولمة، وجب الحديث عن المناعة التي تملكها الثقافة في مواجهة تهديد العولمة وخطرها؛ هذه المناعة التي لا يمكن أن تكون إلا بوجود سياسات ثقافية يقوم عليها حراس الثقافة يكون هدفها حماية الهوية من الموت.
وهكذا؛ ينبغي لحماة الثقافة وحرّاسها أن يعملوا على رفع الاعتزاز لدى الجماعة من خلال ربط الأجيال الحاضرة واللاحقة بكل ما يمت للثقافة بصلة، ويكون ذلك عبر قنوات التعليم والأسرة والإعلام، فيتنفس الطفل هواء الهوية وتترسخ في ذهنه ووجدانه ووعيه صورة الثقافة وقوة الانتماء التي تتغذى بأشياء كثيرة متداخلة لا يمكن فصلها، باعتبارها كلاً متكاملاً، مع ضرورة الانفتاح على ما يمور في العالم، وتستطيع الثقافة أن تمارس عملية الغربلة على ما هو دخيل عليها مما لا يلائم خصوصيتها، واحتضان القيم الإنسانية التي لا تتعارض مع القيم المحلية - إذا توفرت لها المناعة الكافية الواقية.