المنطقة بين التهجير وحق العودة
تشهد المنطقة حالياً عمليات واسعة من التهجير القسري الممنهج لإعادة بناء تركيبة سكانية جديدة تناسب المرحلة القادمة التي بدأت تلوح بالأفق ملامحها الكالحة، وإذا كنا نعيش مخاض ولادة مليئة بالدماء والدمار والألم فإن المولود سيكون نذير شؤم على من استعجلوه وتحلقوا حوله، ولنا في التاريخ عبرة وعظة، فقد استعجل الصليبيون والرافضة قدوم المغول وتحالفوا معهم وقام المغول بتنفيذ عملية تهجير قسري عظمى كانت نتيجتها قيام دول قامت على أكتاف المهجرين، وكانت سبباً في إجهاض المشاريع الثلاثة للمغول والصليبيين وأتباعهم من الرافضة، فدولة المماليك أقامها الذين قُتل آباؤهم وسلبت أموالهم بل وحريتهم أثناء الاجتياح المغولي، فمثلاً قطز الذي بدأ سلسلة انكسارات المغول هو ابن سلطان المملكة الخوارزمية، وكذلك كان تهجير ومطاردة القبائل التركية التي لم تخضع للمغول سبباً في قيام الدولة العثمانية.
إنها أقدار إلهية يدبرها من تكفل بحفظ هذا الدين، تتداخل فيها سنن الابتلاء والاستبدال والاستخلاف مع الصبر والهجرة والجهاد، ورأس الأمر هو استقامة الفرد على دين الله وتشبثه بالحق ولو كان وحده، ولو أن يعض على أصل شجرة كما في صحيح مسلم والبخاري ومسند أحمد وأبي داود رحمهم الله تعالى، من حديث أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه أنه سمع حذيفة يقول:
كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخَنٌ، قال قلت: وما دخَنُهُ؟ قال: قومٌ يستنُّونَ بغيرِ سُنتي ويَهْدونَ بغير هدْيِي تعرفُ منهُمْ وتُنكرُ، فقلت هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، فتنةٌ عمياءٌ، دُعاةٌ على أبوابِ جهنم، مَنْ أجابَهُمْ إليها قذفوهُ فيها. فقلت: يا رسول الله! صِفْهُمْ لنا، قال: نعم، قوم من جلدتِنا ويتكلمونَ بألسنتِنا، فقلت: يا رسول الله، وما تأمرني إن أدركت ذلك، قال: تلزَمُ جماعةَ المسلمين وإمامهم، قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزلْ تلك الفرق كلها، ولوْ أنْ تعَضَّ على أصل شجرة حتى يُدركُكَ الموتُ وأنتَ على ذلك.
نعم نحن لم نصل لهذه المرحلة ولكن النهوض من هذه الكبوة يحتاج إلى أفراد طاقتهم عالية ونوعيتهم متميزة ولنحذر من الشحن العاطفي المجرد فصاحبه ضحية سهلة ومطية مطيعة للأعداء.
وإذا ركزنا على منطقتنا ودققنا في عمليات التهجير التي تمت أو ما زالت جارية ووسائلها وأهدافها فإننا نجد تشابهاً في الأساليب، فمثلاً يلزم وجود قوة تمثل غطاء للمنفذين، ففي فلسطين كان الإنجليز قد احتلوا فلسطين من أجل تنفيذ مشروع جلب اليهود وتوطينهم ولم تخرج قواتهم إلا بعد تثبيت أقدام اليهود فيها، وأما العراق فيتم الأمر تحت غطاء تحالف أمريكي إيراني، وأما سوريا فالغطاء يتسع ليضم الروس، ومن الملفت للنظر أن الأدوات المنفذة متعددة الأسماء والشعارات وقد تبدو متنافرة ولكن الجامع أنها تساهم بما يخصها في مشروع التقليل ما أمكن من التواجد السني المتماسك في المنطقة بل وتفريغ مناطق معينة منهم واستبدالهم بالرافضة المجلوبين من العراق وإيران بل ومن أفغانستان وباكستان، وينطبق على ما يجري ما يسمى بالتهجير القصري وهو وفقاً لما يسمى بالقانون الدولي - الذي يرجع إليه فقط عند حاجة الكبار -: «ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء مدن وقرى وأراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلاً عنها». وهو إخلاء قسري وغير قانوني ويرقى إلى «جريمة حرب» بحسب نظام روما الأساسي.
ونضرب بعض الأمثلة لعمليات التهجير الحالية:
في سوريا كانت بدايات التهجير القسري سُجلت في 15 مايو 2011م عند بداية الأزمة مع سكان تل كلخ المجاورة لوادي خالد على الحدود اللبنانية في محافظة عكار الشمالية، وكذلك تهجير أحياءٍ من حمص باتجاه إدلب ولبنان، ولاحقاً تم حصار حي «باب عمر» وشن أعنف هجوم عليه لتدميره وتهجير سكانه، لتتوالى الأحداث من هناك كإستراتيجية معتمدة ضمن مشروع ما بات يعرف بـ«سوريا المفيدة»، والتي تتطلب تطهير الريف الغربي لحماة وحمص وريف دمشق لتأمين اتصالها بالحدود اللبنانية ومناطق سيطرة «حزب الله».
وبموجب اتفاقات فرضتها موسكو على المعارضة إثر حملة برية وجوية لقوات النظام السوري بدعم روسي، بدأت عمليات التهجير من الغوطة الشرقية بريف دمشق 22 مارس الماضي، وريف حمص الشمالي 2 مايو الماضي.
وأما مدينة حلـب فقد تـم تهجيـر أغلـب سـكانها تحـت القصـف المتواصل والبراميـل والصواريخ، فتناقـص عـدد سـكانها فـي المناطـق الشـرقية التي كانت تحت سيطرة المعارضة منذ عام 2012م، مـن نحو ثلاثة ملاييـن إلـى 300 ألـف نسـمة. ومع اشتداد الحصار القاتل والقصف الروسي بأسلحة وصواريخ متطورة وفراغية رضخ المعارضون وتم توقيع اتفاق في ديسمبر 2016م، والذي نص على تهجير ونقل المقاتلين وعشرات الآلاف من المدنيين نحو ريف حلب أو محافظة إدلب. وتجري حالياً عمليات تهجير وإجلاء لمناطق الجنوب السوري وقد وصل عدد العالقين على الحدود إلى 200 ألف نازح، وأخيراً تقدر أعداد النازحين داخل سوريا بنحو 8.8 مليون، مقابل 3.2 مليون لاجئ خارج سوريا.
وأما العراق فقد بدأت عمليات الغزو الطائفي والتهجير منذ بداية الغزو الأمريكي وتزايدت بعد عملية تفجير المرقدين بسامراء المدبرة لتبرير عمليات القتل والتهجير للسنة بعضها يهدف إلى تصفية بعض المحافظات من أي تنوع ديمغرافي، دينياً كان أو مذهبياً أو إثنياً، كما هي الحال في البصرة وذي قار. وبعضها الآخر يهدف إلى إعادة التوزيع الديمغرافي داخل المحافظة نفسها لإنتاج مناطق صافية طائفياً، كما هي الحال في ديالى ونينوى وبابل. وأما الموصل التي يسكنها ثلاثة ملايين سني فقد تم تسليمها لداعش وانسحب خمسون ألف جندي بدون أسلحتهم ومعداتهم التي تركوها بل ولم يتم سحب الأرصدة في البنك المركزي والتي تقدر بمليار دولار وبقيت داعش بالموصل لأكثر من سنتين وتركت تصول وتجول في العراق، وبدعوى حرب داعش تم تدمير المدن السنية واحدة بعد الأخرى من الفلوجة وانتهاء بالموصل التي لما جاء دورها تعرضت لقصف تدميري لمدة مئة يوم، وحصل المطلوب وانتقل داعش للرقة وتحول أهل الموصل إلى لاجئين وتمدد الشيعة إلى منطقة الحدود مع تركيا. وأيضاً تعرض الأكراد إلى عمليات تهجير واقتلاع من مناطقهم لهدف آخر وهو تسهيل استغلالهم وتجنيدهم لخدمة المشروع، وأيضاً يخشى تعرض الفلسطينيين لعمليات تهجير وإعادة توطين جديدة ضمن ما يسمى بصفقة القرن، ولذا نلاحظ حرص الفلسطينيين على التمسك بحق العودة وبدأوا بمشروع مسيرة العودة الذي يتمثل في أوسع حراك شعبي منذ سنوات وفرض نفسه على الساحة السياسية بعد تصدره الساحة الإعلامية، وبروز ظاهرة رفض شعبي عالمي للاحتلال تغذيه معارضة السياسات الأمريكية على مستوى العالم، فتبني الإدارة السافر لمشروع تصفية القضية الفلسطينية يزيد من زخم المعارضة والذي ينبغي هو تعميم المبدأ والمطالبة بعودة المهجرين جميعاً وتأصيل هذا المبدأ بين المهجرين لمنعهم من الذوبان، فالغرب يناقش فقط استيعاب المهجرين لأنه مشارك في جريمة التهجير ومستفيد منها، وإذا كان السنة هم ضحايا التهجير فإنهم أمل التغيير ولنستذكر عِبر التاريخ ونأخذ بالأسباب ولا نستسلم لليأس والقنوط فيلفنا النسيان.