التحذير من خطر الكتاب واللبن!
لا خير لنا في الدارين إلا وقد أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا شر إلا وقد حذرنا منه صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الشرور مهما عظمت، والمخاطر مهما جلت فليس فيها ولا منها أعظم من هذا الخطر الكبير والشر المستطير؛ ألا وهو «خطر تعلم المنافقين للقرآن والسنة»، وذلك أنهم يستخدمون علمهم في التلبيس على العامة، والتشويش عليهم، ولا تسأل حينئذٍ عن حجم الضحايا الذين سيفتنون بترتيل الآيات البينات، وسرد الآثار الصحيحات!
ومن ثم لا عجب أن يأتي التحذير النبوي منهم بهذه الصياغة الرهيبة، وذلك السياق الغليظ كما في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الكتاب واللبن. قيل: يا رسول الله! ما بال الكتاب؟ قال: يتعلمه المنافقون ثم يجادلون به الذين آمنوا. فقيل: وما بال اللبن؟ قال: أناسٌ يحبون اللبن، فيخرجون من الجماعات ويتركون الجمعات»[1].
فأكد صلى الله عليه وسلم أن أخوف ما يخافه على الأمة هو أن يتعلم المنافقون القرآن ثم يلبسون به على الناس دينهم!
وقد استوعب الصحابة رضي الله عنهم هذا الخطر جيداً، وأدركوا طبيعة حجمه، وواصلوا التحذير منه، ومن ذلك تحذير الفاروق رضي الله عنه كما في الأثر عن أبي عثمان النهدي؛ قال: سمعت أمير المؤمنين؛ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكثر من عدد أصابعي هذه: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافقٍ عليم اللسان». (وفي رواية: «كنا نتحدث أن ما يهلك هذه الأمة كل منافقٍ عليم اللسان». وفي رواية البيهقي: «كل منافقٍ يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور»). قالوا: كيف يكون منافقاً عليماً؟ قال: عالم اللسان، جاهل القلب والعقل»[2].
وتكرار الفاروق رضي الله عنه لهذا التحذير مرات كثيرة أمارة إدراكه لعظيم خطره، وآية حرصه على نصح الأمة؛ فجزاه الله خيراً كثيراً.
كما حذر معاذٌ رضي الله عنه من الخطر نفسه قائلاً: «كيف أنتم بثلاثٍ: بزلة عالمٍ، وجدال المنافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟! فأما زلة العالم: فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم، وإن افتتن فلا تقطعوا عنه أناتكم. وجدال المنافق بالقرآن: والقرآن حقٌ عليه منارٌ كمنار الطريق فما عرفتم فخذوه، وما أنكرتم فكلوا علمه إلى عالمه. وأما الدنيا: فمن جعل الله له الغنى في قلبه نفعته الدنيا، ومن لم يجعل الله غناه في قلبه لم تنفعه الدنيا»[3].
فمعاذ رضي الله عنه يحذر الناس من خطر التقليد الأبله للعلماء، ويقول لهم: إن كان العالم ربانياً فخذوا منه العلم بالأدلة الشرعية ولا تقلدوه على عمى وجهالة، ولكن افهموا عنه أمر ربكم سبحانه وتعالى.
وإن حاد مرة عن الصراط فلا تقطعوا أملكم فيه، بل ذكروه بالله سبحانه وتعالى وبالعلم الذي يحمله فلعل الله أن يرده للحق، فيكون في علمه نفع للإسلام والمسلمين. وهذا هو التوسط مع العلماء بغير إفراط أو تفريط.
ويبلغ خطر هؤلاء المنافقين درجة يخشى فيها على هدم الإسلام كله، عياذاً بالله! وذلك كما جاء عن زياد بن حديرٍ؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»[4].
وذلك أن العامة لا يفتنون بالكفرة لظهور كفرهم، وإنما الفتنة تكون بالمنافق لأنه يخفي كفره، ويعتصم بإظهار الإيمان؛ كما أوضح الفاروق رضي الله عنه ذلك بقوله: «ما أخاف عليكم أحد رجلين: رجلٌ مؤمنٌ قد تبين إيمانه، ورجلٌ كافرٌ قد تبين كفره. ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل غيره»[5].
فالعامة لا تسمع للكافرين لبيان ضلالهم، وإنما تسمع لهؤلاء المتسترين بالإيمان؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا كان في الصحابة قومٌ سماعون للمنافقين فكيف بغيرهم!»[6].
فكم طالبٍ للعلم الشرعي ابتغاء الجاه والسمعة، أو المال والثراء، أو الاثنين معاً، أو لغير ذلك من الأمور عياذاً بالله كما جاء عن إياس بن عامرٍ أنه قال: «أخذ علي بن أبي طالبٍ بيدي. ثم قال: إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصنافٍ: فصنفٌ لله، وصنفٌ للجدال، وصنفٌ للدنيا! ومن طلب به أدرك»[7].
ولم يزل سلفنا الصالح يحذرون الأمة من خطر ما يجلبه المنافقون على الأمة بما يحسنونه من الكلام ويجيدونه من المراوغة؛ ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «فإذا كان أقوامٌ منافقون يبتدعون بدعاً تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس؛ فسد أمر الكتاب وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوامٌ ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين؛ قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقاً؛ وهو مخالفٌ للكتاب وصاروا دعاةً إلى بدع المنافقين»[8].
وقال أيضاً: «فإن كثيراً من الداخلين في الإسلام حتى من المشهورين بالعلم والعبادة والإمارة قد دخل في كثيرٍ من الكفر. وهؤلاء كثروا في المستأخرين ولبسوا الحق - الذي جاءت به الرسل - بالباطل الذي كان عليه أعداؤهم. والله تعالى يحب تمييز الخبيث من الطيب والحق من الباطل. فيعرف أن هؤلاء الأصناف: منافقون أو فيهم نفاقٌ؛ وإن كانوا مع المسلمين؛ فإن كون الرجل مسلماً في الظاهر لا يمنع أن يكون منافقاً في الباطن؛ فإن المنافقين كلهم مسلمون في الظاهر والقرآن قد بين صفاتهم وأحكامهم. وإذا كانوا موجودين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عزة الإسلام مع ظهور أعلام النبوة ونور الرسالة؛ فهم مع بعدهم عنهما أشد وجوداً، لاسيما وسبب النفاق هو سبب الكفر وهو المعارض لما جاءت به الرسل»[9].
وخطر هؤلاء يكمن في قوة حفظهم للقرآن والسنة، مع عظيم براعتهم في استخراج التأويلات المناقضة لمراد الله سبحانه وتعالى!
وقال فيهم سيد قطب رحمه الله: «إن آفة رجال الدين - حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة - أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى، ويجدون فتاوى وتأويلات قد تتفق في ظاهرها مع ظاهر النصوص، ولكنها تختلف في حقيقتها عن حقيقة الدين، لتبرير أغراض وأهواء لمن يملكون المال أو السلطان!
كما كان يفعل أحبار يهود! وهي التي تبلبل قلوب الناس وأفكارهم، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً!
فتتملكهم الحيرة، وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة، وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان، ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال العلم!»[10].
وطالب الهدى البصير بدينه، العائذ بربه سبحانه وتعالى من الهلاك لا يتبع زلةً لعالمٍ، ولا هوًى لمنافقٍ مهما عسل لسانه، وعذب أسلوبه. ورحم الله الحسن البصري إذ جاء في نصيحته: «إن المؤمن لم يأخذ دينه عن الناس، ولكن أتاه من قبل الله فأخذه. وإن المنافق أعطى الناس لسانه، ومنع الله قلبه وعمله. يا ابن آدم! دينك دينك؛ فإنما هو لحمك ودمك»[11].
وقد سمعت أحدهم في ندوة دينية تدعو لتحريم ختان الإناث قائلاً: «من يختنون الإناث يتهمون الله سبحانه وتعالى أنه خلق شيئاً زائداً في الجسم لا قيمة له! والرضا عن الله عز وجل يستوجب ترك الجسد البشري على طبيعته التي خلقها الله سبحانه وتعالى بغير تغيير لخلقة الله التي خلق عليها الإنسان».
وتطبيق هذه القاعدة يمنع ختان الذكور أيضاً، والغريب أن هذا الدكتور المشهور لم يترك جسده كما خلقه الله سبحانه وتعالى؛ بل استأصل منه جزءاً أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركه الرجل وهو اللحية، وكذلك لم يترك جسد زوجته على خلقة الله عز وجل له؛ بل أمر زوجته أو تركها تستأصل جزءاً نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استئصاله؛ وهو الحواجب!
وكان جوابه لمن تجرأ وواجهه بهذا المنطق هو وجوب الالتزام بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»[12]!
وبهذا السخف يعرض عن كل النصوص الشرعية الواردة في القضايا اكتفاءً بتأويله الفج لبعض النصوص، وصرفه لها عن حقيقتها!
وبهذا التوظيف الخبيث للنصوص، وصرفها عن مراد الله عز وجل بما يتوافق وهوى المنافقين ينصرف السذج والبسطاء عن العلماء سواءٌ كانوا ربانيين أو منافقين، ولا ريب أن هذا الصنف ممن اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً سببٌ رئيسٌ في عزوف الشباب عن العلماء، وكذلك يعتبرون الدافع الأول للشباب للوقوع في براثن الإلحاد عياذاً بالله!
ولا ريب أن النجاة من هذا الخطر الكبير والشر المستطير لا تكون إلا بتعلم الشباب كيفية التمييز بين الربانيين، والمنافقين، ولهذا حديث مطول إن شاء الله.
نعوذ بالله من العلماء المفتونين بالدنيا الذين باعوا دينهم بدنياهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا اقتفاء أثر الربانيين الصادقين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[1] صحيح، رواه الإمام أحمد (17318)، وأبو نعيم في الفتن (695/ 725)، وأبو يعلى في المسند (1746)، وابن بطة في الإبانة (417)، والحاكم في المستدرك (3417)، وأبو نعيم في صفة النفاق ونعت المنافقين (145).
[2] صحيح، رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (683)، والفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين (26)، وأبو يعلى بالمعجم (334)، وأبو نعيم في صفة النفاق ونعت المنافقين (149)، وعبد الواحد المقدسي بالمختارة (236). ويروى مرفوعاً عن عمر رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد، وغيره، وقال الدارقطني: «وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ» (علل الدارقطني 2/ 246). ويُروى مرفوعًا أيضاً عن عمران رضي الله عنه ، وهو وهم كما قال الدارقطني (علل الدارقطني 2/ 170).
[3] حسن، رواه أبو داود في الزهد (183) موقوفاً على معاذ. ورواه الطبري في الأوسط عن معاذ مرفوعاً (8715)، وكذلك اللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (183)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 97).
[4] صحيح، رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق (1475)، والدارمي (220)، وأبو بكر المروذي في أخبار الشيوخ وأخلاقهم (345)، والفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين (29/ 30)، والآجري في تحريم النرد والشطرنج والملاهي (49)، والطبراني في الكبير (981)، وابن بطة في الإبانة (641/ 643)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1867/ 1869).
[5] حسن، رواه الفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين (28).
[6] مجموع الفتاوى (25/ 129).
[7] حسن، رواه الدارمي (3372)، والآجُرِّيُّ في أخلاق أهل القرآن (25)، وأبو نعيم في صفة النفاق ونعت المنافقين (147).
[8] مجموع الفتاوى (28/ 233).
[9] مجموع الفتاوى (28/ 202) بتصرف واختصار.
[10] في ظلال القرآن (1/ 68) باختصار.
[11] صحيح، رواه الفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين (49).
[12] صحيح، رواه الإمام أَحمد (3789)، ومسلم (91).