• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القتل والقتال في القرآن

القتل والقتال في القرآن


يمكن تقسيم معاني القتل في القرآن الكريم بحسب الاستقراء إلى سبعة معانٍ، وهي كالتالي:

المعنى الأول: الفعل المميت للنفس، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

المعنى الثاني: القتال، ومنه قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: ١٩١].

المعنى الثالث: الدعاء باللعن، ومنه قوله تعالى: {قُتِلَ الْـخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10]، وقوله تعالى: {إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ 18 فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر: 18، 19].

المعنى الرابع: التعذيب والتنكيل، ومنه قوله تعالى: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيـلًا} [الأحزاب: 61].

المعنى الخامس: الدفن للحي، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإيَّاهُمْ} [الأنعام: ١٥١].

المعنى السادس: القصاص، ومنه قوله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء: ٣٣].

المعنى السابع: الذبح، ومنه قوله تعالى: {وَإذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }[الأعراف: ١٤١].

إن هذه المعاني السبعة التي تحملها كلمة القتل بحسب سياقها في القرآن الكريم يمكن بيان حكم الإسلام فيها؛ فأقول:

إن المعنى الأول جاء لبيان تشديد الله في النهي عن قتل النفس بغير حق، صيانة لحرمة النفس البشرية وحقناً لدمها، حيث أقفل جميع الأبواب المؤدية إلى قتل الأنفس بغير حق، كيفما كانت ديانتها، ولم يفتح هذا الباب إلا في أمور خاصة مذكورة تفاصيلها في كتب الفقه، لا علاقة لها بمعنى مصطلح الإرهاب نهائياً.

أما المعنى الثالث فهو يفيد أمراً معنوياً وجزاء أخروياً للذين يفترون على الله الكذب، وينكرون الحقائق الدامغة بعد ثبوتها لديهم يقيناً، ولا علاقة لها بمعنى مصطلح الإرهاب.

أما المعنى الخامس فجاء لبيان ما كان يفعله الكفار بالمؤمنين والمستضعفين، حيث بين حال الكفار في الجاهلية كيف كانوا يدفنون بناتهم وهن على قيد الحياة، فأنكر الله هذا الفعل الشنيع ونهى عنه.

أما المعنى السادس فهو توجيه من رب العالمين لعباده حتى لا يسرفوا في القصاص، بل يرشدهم للعفو، وينهى عن الزيادة عن حد القصاص فلا يقتل اثنين بواحد أو ما شابه ذلك، فهو توجيه لحقن الدم وعدم الاعتداء.

أما في المعنى السابع فبين قبح الأفعال الإرهابية التي كان يفعلها فرعون في بني إسرائيل، حين استضعفهم وطغى عليهم، فكان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فشنع الله فعل فرعون واستقبحه وحذر منه.

فبقي المعنى الثاني والرابع من المعاني السبعة السابقة وفيها كثر الكلام من الحاقدين على القرآن، حيث سال مدادهم النجس، على الأوراق البيضاء الطاهرة فنجسوها بقول الباطل الذي افتروه بجهل وجهالة، فزعموا أن الإسلام يدعو إلى قتل كل من ليس على دين الإسلام، ولهذا سأفصل القول هنا، وأقول:

إن لفظ القتال في اللغة العربية لا يعني القتل دائماً، وإنما قد يعني رد عدوان الغير ودفع شره، سواء بالقتل أو دونه، ففي حديثِ المارِّ بين يَدَيِ المُصَلِّي: قاتِلْهُ فإنّه شَيْطَانٌ أي دافِعْه عن قِبْلَتِكَ، وليس كل قِتالٍ بمعنىً القَتْل[1].

فلو تأملنا في جميع آيات القتال الواردة في القرآن الكريم والتي تندرج ضمن المرتبة الرابعة من مراتب الجهاد التي سبق الحديث عنها لا نجد منها آية واحدة تأمر بالاعتداء على الناس وقتلهم ظلماً وعدواناً، واستئصالهم وإبادتهم لمجرد كونهم كنعانيين أو إفريقيين، أو لمجرد كونهم لا يوافقون المسلمين في بعض أفكارهم، بل إن القتال في القرآن له غاية أسمى مما يتصوره الحاقدون على الإسلام، فالإسلام جاء لتحقيق السعادة والأمن والسلام للبشرية جمعاء، وجاء ليحررهم من عبودية العباد ليصبحوا أحراراً لا ينقادون إلا لرب العباد، ولا يخضعون لأفكار بشرية يطغى عليها النقص والعنصرية والاستبداد، فالمسلمون لا يقاتلون أحداً ليفرضوا عليه أفكارهم واجتهاداتهم البشرية، بل يقاتلون لإعلاء كلمة الله، التي غايتها تحقيق المصالح الدنيوية والأخروية للبشر، حتى لو كانت على حساب مصالحهم الشخصية الضيقة، ولا شك أن جميع الأمم التي لا تعرف الإسلام، نجدها اليوم تؤصل لنفسها قوانين ترى أنها صالحة لتسيير المجتمعات، فتجدها تقاتل كل من يسعى لمخالفة هذه القوانين، التي يكون غالبها عنصرياً وظالماً، وتفرضها على الأمم والشعوب بشعارات براقة مختلفة، وها نحن اليوم نرى أن الأمم التي تملك القوة تنصب نفسها راعية لمصالح الشعوب، فتفرض على الدول الضعيفة الالتزام بالمواثيق الدولية والعمل بمضامينها، وتحارب كل من يرفض الانصياع لها باعتباره متمرداً أو متخلفاً، مع أن تلك المواثيق قابلة للنقاش والأخذ والرد وليست معصومة.

فلو نظرنا إلى الحروب القائمة نجدها تدور حول هذا المبدأ، حيث تدمر دول بأكملها، ويقتل الملايين من شعوبها، بسبب تلك القوانين التي تعتبر المرجعية الأولى عندهم، بحيث لا تقبل أي طعن أو جدال.

أما القتال في الإسلام فهو حل مؤقت لردع الظالمين للبشر والمعتدين على قانون الله السماوي المعصوم من الزلل والخطأ، الراعي لمصالح العباد في الحال والمآل، المخلص لهم من عبودية البشر والظلم والاستبداد.

ولذلك سأورد الآيات التي ذكر فيها القتال ويتخذها أعداء الإسلام مطية للطعن في الإسلام، لنعلم من خلالها الحكمة الشرعية من تشريع القتال في القرآن، لنميزه عن القتال الإرهابي الموجود عند المنظمات الإرهابية، وعقليات مفكريهم المدنسة.

قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ 190 وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ 191 فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 192 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِـمِينَ 193 الشَّهْرُ الْـحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْـحَرَامِ وَالْـحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [البقرة: 190 - 194]، وقال عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }[الحج: 39]؛ لو تأملنا هذه الآيات المباركات لأدركنا مغزى القتال في الإسلام، فربنا لم يأمر المؤمنين بمقاتلة عرق من الأعراق أو إبادة جنس من الأجناس، بل أمرهم بمقاتلة الذين يقاتلونهم  وبمنعهم من الاعتداء؛ الذي هو مجاوزة الحد، بقتل الأطفال والنساء والشيوخ. وهذا القتال إنما غرضه أن يعم الأمن والسلام في الأرض، بتحكيم شرع الله المنزل من السماء القائم على العدل والحق، وإذا ما حصل أن اعتدى ظالم متغطرس على قوم مستضعفين اختاروا الإسلام ديناً لهم، فأخرجهم من أرضهم، فحينئذ يوجب الإسلام على أتباعه رد الحقوق إلى أهلها وإخراج الظالمين من هذه الأرض، لأن الفتنة التي تحصل بالظلم والاعتداء ومحاربة الحق أشد وأكبر من القتل.

ثم إن الله تعالى منع المؤمنين من مقاتلة غير المسلمين في البلد الحرام صوناً له، لكونه ملجأ العباد والنساك، والحجاج والمعتمرين، إلا إذا ابتدأ الظالمون المعتدون بالقتال فيه فحينها وجب رد الظلم، والدفاع عن الحرمات، ولم يقل ربنا قاتلوهم حتى تستأصلوهم وتبيدوهم، وإنما قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الكفار إنما يقاتلون بشرط الحراب كما ذهب إليه جمهور العلماء وكما دل عليه الكتاب والسنة»[2]. وبين رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ 93الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم...} [الحج: 93، ٤٠] أن الله تعالى أباح للمؤمنين القتال دفعاً عن نفوسهم، وعقوبة لمن أخرجهم من ديارهم، ومنعهم من توحيد الله وعبادته. وفي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، يقول ابن تيمية: «فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله»[3].

فالغاية الأولى من القتال إذن هي دفع ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين الذين يكون ظلمهم واعتداؤهم فتنة في الأرض، وليس لأسباب عرقية أو لحمية جاهلية.

والغاية الثانية هي تحرير الأمم من عبادة العباد لعبادة رب العباد، بالدعوة إلى الإسلام ونشر تعاليمه في بقاع الأرض.

ولذلك كانت معاملة الإرهابيين الظالمين بالند والمثل هي من وسائل ردعهم، حتى لا يسخروا من قوة المؤمنين، وحتى ينصاعوا للقانون السماوي المتسم بالكمال والشمولية، لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، التي هي مبتغى جميع البشر.

ومع ذلك إذا أراد غير المسلمين، الذين قاتلوا المسلمين الاستسلام بعد انهزامهم في المعركة، وإصابتهم بالذل والصغار والهزيمة العيش وسط المسلمين في دولة يسودها شرع الله القائم على العدل والأمن فقد منع الله المسلمين من قتلهم، وأوجب عليهم قبول الجزية منهم لبيت المال، للمشاركة في تنمية الدولة التي يعيشون فيها، كما يشارك المسلمون بالزكاة، وليس إضراراً بهم، فإنها لا تؤخذ أصلاً من صبيّ ولا امرأةٍ ولا مجنون[4]، ولا تؤخذ الجزية من الفقير، بل إن الفقير من أهل الذمّة يُرزق من بيت مال المسلمين[5]، ولا تؤخذ الجزية من شيخ فانٍ ولا زَمِنٍ ولا أعمى ولا مريضٍ لا يُرجَى بُرْؤه وإن كانوا جميعاً أغنياء، ولا تؤخذ الجزية من الرهبان المنقطعين للعبادة[6].

كما أنه لم يأمر المؤمنين بإبادتهم واستئصالهم، بل قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فلو كان الغرض من القتال إبادة كل من يخالف عقائد المسلمين، لما قبل منهم الجزية، مقابل حمايتهم من أي عدوان خارجي يهدد أمنهم واستقرارهم، ليعيشوا في وسط المسلمين آمنين على أنفسهم، وعلى دينهم، ولا يكره أحد منهم على الدخول في الإسلام، لأن الأصل هو عرض الإسلام على غير المسلمين أولاً، فإن لم يقبلوا به، فلا يتسرع المسلم بقتل غيره أبداً، لأن المسلم يحمل في قلبه الرحمة على جميع الخلق ويريد لهم الدخول في رحمة الله، ليسعدوا في الدنيا والآخرة، فالمسلمون من منهجهم في القتال أن لا يقتلوا الصبيان ولا النساء، ولا الرهبان المتنسكون في صوامعهم، إذا لم يشاركوا في القتال، بل يحمونهم ويدافعون عنهم، ولا يجعلون من المواطنين العزل دروعاً بشرية يحتمون بها لنشر تعاليمهم، بل هم يكرمون الإنسان، ويرفعون من قيمته، لأن الله جعل جميع المخلوقات في خدمة الإنسان، وليس لخدمة العرب أو المسلمين فقط كما هي عقيدة اليهود في كون العالم كله خلق لهم فقط.

ويقول تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِـمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75]. ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].

وهاتان الآيتان فيهما دليل واضح على أن القتال في الإسلام ليس عدواناً وإنما لرفع العدوان الناتج عن غطرسة وظلم الطغاة، وهو استجابة لأمر الله، لذلك يجب فيه الإخلاص، وهذا هو معنى في سبيل الله، وكذلك يجب فيه التقيد بالضوابط الشرعية التي تأبى القتال من أجل العصبية والقومية، أو لنصرة فكر منظمة من المنظمات، أو الدعوة إلى فكر زعيم من الزعماء، أو الانتقام للنفس الأمارة بالسوء.

لذلك نجد أن أي قتال لا يكون الغرض منه رد عدوان المعتدين الإرهابيين، أو إعلاء كلمة الله، يكون قتالاً مرفوضاً، وليس كما يدعي المفترون أن القتال في سبيل الله معناه تعطش المسلمين إلى سفك الدماء باسم الله.

ولهذا فرق بين نية المؤمنين في القتال ونية غيرهم، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]، أما قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89]، ففيه بيان غرض غير المسلمين من إذاية المسلمين، وهو فرض أفكارهم عليهم، وجعلهم تحت سيطرتهم الفكرية والعقائدية، وإرجاعهم عن دينهم ليصبحوا مثلهم في الفكر والعقيدة، وهذه قمة الدكتاتورية، لذلك نهى الله عن موالاتهم ونصرتهم في فكرهم الضال، وأمر بمقاتلة من يسعى لمثل هذه الأمور.

وأما قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْـمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا } [النساء: 84]، ففيه أمر الله لنبيه بأن يكون هو أول العاملين بأوامر الله، ثم تشجيع المؤمنين للدفاع عن الحرمات والمستضعفين، ورفع الظلم والبأس الواقع عليهم من قبل عدوهم، فقط لكونهم اختاروا دين الإسلام. وهو كقوله: {فَإن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النساء: 91]، أما قوله تعالى: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12]، وقوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] ففيه تحذير الله لعباده المؤمنين والمستضعفين في الأرض، من تجبر الظالمين ونقضهم للعهود، حتى يكونوا يقظين، لأن الظالم والمعتدي الناقض للعقود غير مأمونين، وغرضهم الإفساد في الأرض والتسلط على الغير فقط لفرض فكرهم والطعن في الحق الذي يأتيهم، ولذلك إذا نقضوا العهد وطعنوا في دين الله وجبت مقاتلتهم.

وإذا كان هؤلاء المشركون يستعملون كل الوسائل في سبيل تحقيق أغراضهم الشخصية الدنيئة، حتى في الأشهر الحرم التي هي مقدسة عندهم، وذلك بنقض العهود التي هي معظمة عند جميع الأمم، فإنهم حينئذ يقاتلون إلى أن يرجعوا عن دينهم الشركي، الذي يجعلهم فاقدين لأي إحساس بشري مقابل تحقيق مصالحهم الدنيئة؛ وفرض السيطرة الفكرية على المجتمعات، فمن كانت هذه صفاته وهذا دينه فحتى الجزية لا يستحق أن تقبل منه، لأنه بالغ في الانحطاط، وتجرد من إنسانيته ودخل في أنانيته، فلا يقبل منه إلا الرجوع إلى فطرته، وانتهاج دين الحق في مسيرته، فقال تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْـحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ٥]، وقال: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، أما إذا لم تنفع الدعوة بالتي هي أحسن مع الحجج والبراهين، وأصروا على تجبرهم وطغيانهم، فحملوا السلاح للدفاع عن الباطل، ونصرة للأفكار الظلامية التي تستعبد البشر وتخدرهم، فعند ذلك لا ينبغي إظهار اللين لهم، لأن في ذلك تقوية لأنصار هذا الفكر الإجرامي، وهذه هي طبيعة المعارك، التي تخوضها البشرية في جميع العصور، فلا يستعمل اللين مع المجرم الذي يحمل السلاح لممارسة أعماله الإرهابية، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ} [التوبة: 123]، وقال: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْـحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٤]، فهذه الشدة معهم تكون أثناء المعركة لعلهم يستسلمون، ويتركوا ظلمهم وطغيانهم فينتهوا عن معاودة الاعتداء على حرمات الآمنين، والوقوف في وجه الحق ومحاربتهم له.

لذلك نجد القرآن يقر العلاقة الحسنة المبنية على البر والعدل بين المسلم وغير المسلم غير المحارب للمسلمين، فيقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ 8 إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الممتحنة: ٨، ٩].

ثم حتى لا يظن ظان أن هذا الردع للمعتدين الظالمين خاص بغير المسلمين، فأقول إن الظلم والاعتداء مرفوضان في الإسلام، سواء صدرا من مسلم أو غيره، ويجب مقاتلة الظالم المعتدي، سواء كان مسلماً أو غيره، ولذلك قال ربنا في حق المسلمين: {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: ٩].

فخلاصة القول في جميع الآيات التي ذكر فيها القتال أنها ليست لقتال غير المسلمين لمجرد كونهم غير منتمين لعرق معين، أو غير متجنسين بجنسية معينة، وليست لنشر الإرهاب بين الأمم.

وأن القتال ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لإقامة العدل والحق المنزل من عند الله بين البشرية، ودفع الظلم عن جميع البشر، والوقوف في وجه الأنظمة الإرهابية التي تستعبدهم وتذلهم، وتفقدهم إنسانيتهم، وتجعل منهم وحوشاً في هيئة بشرية، لا تعرف معنى الرحمة، يأتون على الأخضر واليابس لتحقيق نزواتهم وشهواتهم ومخططاتهم.


 


[1] تاج العروس للزبيدي،30/234.

[2] النبوات، ص140.

[3] الصارم المسلول، 3/99.

[4] هذا باتفاق الأئمة الأربعة وأتباعهم، ولم يعرف لهم مخالف، كما في أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/149، والإجماع لابن المنذر رقم 230.

[5] أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/160.

[6] أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/161.

أعلى