( فلا تخافوهم وخافون )
مقابلة تتكرر كثيراً في كتاب الله تعالى تلك التي لخصها ذلك العنوان القرآني الذي اخترته لهذا المقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}.. مقابلة تؤدي إلى معنى في غاية الأهمية ينبغي على العبد أن يدركه في طريق معاملته مع الله سبحانه وتعالى، إنها المقابلة بين الخوف من الخالق والخوف من المخلوق:
- {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
- {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 13].
- {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 150].
- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } [المائدة: ٣].
- {إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: ٤٤].
- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 36].
- {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39].
هذه الآيات كلها - وغيرها - تشترك في وجود تلك المقابلة القرآنية الواضحة التي أشرت إليها في مطلع المقال والتي يخلص من خلالها المتدبر لنتيجة واضحة جلية وتوجيه قرآني حاسم مفاده: لا ينبغي للعبد المسلم أن يجتمع في قلبه خوفان؛ الخوف من الله والخوف من خلقه.
لكنَّ هذه النتيجة وتحققها في قلب العبد لا تتأتى بمجرد معرفتها والاقتناع بوجوب الوصول إليها وحسب! إنها في الحقيقة رحلة حياة ينبغي على المرء أن يسلك سبلها ويبتغيها في مظانها لعله يدركها في نهاية الأمر، لكن قبل بلوغها عليه ابتداءً أن يعي حقيقة تلك المشاعر ويدرك أصول التعامل معها.
مشاعر الخوف:
تلك المشاعر التي تعد من أعقد وأخطر الأحاسيس التي تعتري البشر وتتحكم في مسارات حياتهم من خلال تسلطها على ملك الأعضاء والجوارح: القلب!
نعم.. هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها كثير من الناس ظانين أن الخوف في مطلقه سبة أو نقيصة لا تصيب إلا جباناً ولا يشعر بها إلا رعديد!
وهم واهمون في ظنهم هذا ويغفلون - كما سبق أن أشرت - عن حقيقة فطرية هذه المشاعر وطبيعة الإنسان التي تقبل وجود قدر من الخوف لم ينكر الشرع وجوده ولكن كعادة الشرع الحكيم أشار إلى سبل التعامل معه والسيطرة عليه وتوجيهه إلى مساره الصحيح بأن يكون خوفاً من الله وحده في نهاية الأمر.
ولعل أوضح نموذج قرآني لهذه المشاعر الجِبِلِّية والتعامل معها وتطويرها تدريجياً لتصل إلى ذلك المراد الشريف = نموذج سيدنا موسى عليه السلام، فقد تكررت في قصة نبي الله موسى الإشارات إلى وجود تلك المشاعر وتطورها من مرحلة إلى أخرى لتبدأ من: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10]، ولتنته بـ: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْـجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنَّا لَـمُدْرَكُونَ 61 قَالَ كَلَّا إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62].
تأمل مرة أخرى:
{وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}، ثم: {كَلَّا}.
قالها الكليم وضيئة تتلألأ بأنوار العقيدة: {كَلَّا}.
قالها حاسمة قاطعة لا شك فيها: {كَلَّا}.
صفعة يقين على قلب كل مرجف واهن من بني إسرائيل أكد برعب أنهم مُدرَكون.. صفعة بكلمة من ثلاثة أحرف بددت بنور الثقة بالله غيابات الإرجاف والخوف البادي من صياحهم.
لكن هذا الفارق لم يحدث بين عشية وضحاها، إنها كما أكدت رحلة طويلة وأعوام عديدة انقضت ليتحول الأمر إلى هذا اليقين الحاسم وليختفي أي أثر لخوف المخلوق من قلب نبي الله موسى حتى في مثل هذا الموقف الذي تنعدم فيه أسباب الأمن الأرضية وتتعاظم فيه دواعي الخوف والفزع من المخلوق وهو في تلك الحالة ليس أي مخلوق ولكنه طاغوت من أبشع من عرفت البشرية طغيانهم، يطارده وقومه بجيش عرمرم ويحاصرهم فلا ملاذ ولا منجى إلا بحر متلاطم الأمواج!
ثم {كَلَّا}.. يطلقها موسى ليطيح كل داعي الفزع بسيف اليقين الذي ملأ القلب بعد تلك الرحلة الطويلة التي وعى خلالها ذلك الدرس العقدي من خلال سلسلة متكررة من التوجيهات يجمعها رابط واحد:
«لَا تَخَفْ»:
- {يَا مُوسَى لا تَخَفْ إنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْـمُرْسَلُونَ} [النمل: 10].
- {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21].
- {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص: 31].
- {قَالَ لا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
- {قُلْنَا لا تَخَفْ إنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} [طه: 68].
- {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه: ٧٧].
بعد كل هذا، كيف لا يصل موسى لهذا اليقين الذي حوته كلمته التي أشرنا إليها في مواجهته مع جيش فرعون وهو - موسى أعني - من ارتقى على درجات الثقة درجة تلو أخرى؟!
كيف لا يقولها وقد تعلم الدرس مرة بعد مرة:
• تعلم أنه لا يخاف لدى الله المرسلون.
• تعلم ألا يخاف وهو الأعلى بإيمانه.
• تعلم أنه بآيات ربه ومن اتبعه الغالبون.
وتذكر الوعد الرباني الوعد الذي كلمه به ربه قبل أعوام مخاطباً إيَّاه وأخاه: {لا تَخَافَا إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، هذا الوعد الذي وجد قلباً خصيباً لتنمو فيه جذور الثقة المطلقة في مآل الأمر وتنبت منها شجرة طيبة من يقين راسخ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وكان من أُكُلِها أن قال بعد حرفه الحاسم: {إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
إنه يدرك معنى المعية: معية الملك الحق! فكيف يخاف إذن؟! إن معه ربه يسمع ويرى، لا شك إذن أنه سيهديه، لذا قالها بحزم وجزم: {سَيَهْدِينِ} لكن البداية كما أوضحنا كانت تحوي خوفاً طبيعياً تمت معالجته والتعامل معه وتهذيبه:
- {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 67].
- {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، من الذي وصف بالخوف في هذا السياق؟!
- {قَالا رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 54]، من القائلان؟! من المتحدثان عن الخوف؟!
إنهما نبيان مكلمان أحدهما رسول من أولي العزم ومن أقوى الخلق في الحق.
نعم.. لقد خاف موسى، وخاف هارون، وخاف غيرهما من الصالحين لكن خوفهم لم يثنهم عن قولة حق وإقدام صدق.
هذا كله يؤكد ما خلصنا إليه من أن الخوف شعور إنساني جبلي وليس كل خوف جبناً وليس كل خائف خواراً. المهم هو كيف تعامل مع خوفه وروضه وأحسن توجيهه.
الخوف شعور معتبر خصوصاً ما كان منه جبلياً لكنه إن عطل مروءة المرء وأكسبه جبن الضباع جنباً إلى جنب مع خستها ودناءة صنيعها لم يك حينئذ معتبراً ولا مقدراً. فقط حين يكسر الخوف همة المرء ويحول بينه وبين الحق والخير ويعظم في قلبه عن مخافة الله يكون ذلك هو المذموم بل وقد يصل به إلى نوع من الشرك يسميه العلماء بشرك الخوف وهو ما أولوا به قول نبي الله إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
ولقد أدرك الشيطان تلك الحقيقة منذ البداية وعلم أن مشاعر الخوف التي تعتري قلوب ذلك المخلوق - آدم وبنوه - يمكن استثمارها ضده وتعظيمها في نفسه بطريقة يسيطر بها عليه ويحركه بها كيف شاء، وكان هذا من أول ما أغوى به آدم جنباً إلى جنب مع وعوده وإغراءاته، وحين أزله وزوجه عن الشجرة المحرمة كان الخوف حاضراً في إغوائه من خلال إشاراته إلى الخلد: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْـخُلْدِ} [طه: 120]. لقد خاطب في نفس آدم عليه السلام جانب الخوف من الموت مغرياً إياه بالخلود الدائم ثم خاطب أيضاً جانب الخوف على ما يمتلكه وذلك بإشارته التالية لصفة المُلك الذي وعده به قائلاً: {وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} [طه: 120].
إن طبيعة البشر تحوي هذين النوعين من الخوف جنباً إلى جنب مع أنواع أخرى كثيرة يجيد الشيطان تحفيزها ليحقق مبتغاه بإضلال الإنسان، وهو ما تلخصه تلك الآية التي بدأنا بها: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
الشيطان يُخَوِّف، وأتباع الشيطان أيضاً يعتمدون تلك الوسيلة في كل زمان محركين تلك الغريزة ومخاطبين ذلك الشعور الجبلي.
وسيلة التخويف:
لا تكاد تجد طاغية ولا مفسداً إلا ويحرص بقدر ما على تخويف الخلق منه، إنها صناعة الخوف التي ورثوها عن معلمهم الأول إبليس.
تبدى ذلك واضحاً فيما حكاه ربنا من قول فرعون: {إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71].. هنا كان لابد في نظره من صناعة العبرة وترسيخ الخوف وإقامة النموذج: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 71].. لابد أن يعلموا، ولابد أن يعلم الجميع أنه «لابد أن يبقى العبيد عبيداً»! وليكن هذا العلم عبر جسور الأشلاء الممزقة وليسقَ لمتعلمي العبيد مع عصير الدماء المسكوبة والأوصال المتطايرة ثم ليكن الصلب على تلك الجذوع السامقة الظاهرة لكل عين.
المسألة ليست إذن في مجرد العقوبة.. إنه النموذج التخويفي، النموذج الذي ينبغي أن يُظهر للجميع حقيقة الواقع المراد ولتظل قبضة الطاغية محكمة على الأتباع يحركهم بهذا السلاح الرهيب: سلاح الخوف.
ذلك السلاح الذي أدى بالأمريكان يوماً لإلقاء قنابلهم النووية على رؤوس المدنيين اليابانيين ليحرقوا عشرات الآلاف من البشر في لحظات معدودات برغم أنهم فعلياً كانوا قد انتصروا وكان استسلام اليابان مسألة وقت، لكنها صناعة النموذج ومخاطبة تلك الغريزة دائماً.. غريزة الخوف.
الغريزة التي يظن شياطين الإنس والجن أنهم بها سيسيطرون على الخلق. وهم بالفعل وكما نصت الآية ينجحون في ذلك مع طائفة لا بأس بها من البشر سماها الله بأولياء الشيطان: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}.
أما أولياء الرحمن فلهم شأن آخر.. أولئك الذين يعرفون ربهم ويدركون عظمته وقوته وقدرته ويعاملونه فيدركون معيته، حينئذ يزول الخوف من المخلوق تدريجياً. ولعل نموذج سحرة فرعون أيضاً يعد من أوضح النماذج القرآنية على ذلك التحول التدريجي في مسار الخوف برغم عدم وجود وعد صريح بالنجاة والغلبة الدنيوية كما كان الأمر مع موسى عليه السلام.
لكن المرء يعجب حين يسمع ردود السحرة على تهديدات فرعون وحين يتأمل ذلك الانقلاب الجذري الذي طرأ عليهم بعد الإيمان وكيف أن عبارات من أروع ما قيل في الصدع والبيان عن الله والدار الآخرة قد خرجت من أفواههم التي كانت منذ فترة قصيرة تتمتم بتعاويذ السحار وطلاسم المشعوذين: {إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى 73 إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى 74 وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِـحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى 75 جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى 76} [طه: 73 - 76].
كلمات نورانية محكمة تضيء بالحكمة والفهم.. كلمات لها ثمن باهظ ولقد دفعوا الثمن من دمائهم ليكللوا القول بالتضحية والبذل.. كلمات لم يكن يتصور أحد أن تخرج منهم، لكنها خرجت، وقد يزول العجب إذا ظهر السبب: إنه معرفة الله.
معرفة الله التي إذا استقرت في قلب عبد فإنها تهز - بل تزلزل - كل تصوراته الخاطئة ونظراته القاصرة فتسقط كافة أوثان النفس لتخر متهدمة على أنقاض سوء الظن والخوف من الخلق أو التعلق بهم.
وكما رجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما تحدث عن الملك حتى قالوا ليخرن به فإن قلب المؤمن وحياته وتصوراته ونظراته للأمور ترجف وتهتز وتنقلب رأساً على عقب حين يعرف الله حق المعرفة فيرى الأمور بقيمتها الحقيقية ويزن الدنيا وما عليها بميزان المعرفة.
معرفة الله:
إن من عرف ربه يتقلب في حدائق الاطمئنان بذكره: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28].
ويستظل بوارف أشجار التوكل عليه وهو يردد: {هُوَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
وهو يتنعم بنسيم اليقين فيما عنده ويثق بـأن {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِـمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] فكيف يخاف بعدها على رزقه؟!
وإنه على علمه وتقواه فإنه يخافه ويخشاه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْـحِسَابِ} [الرعد: 21].
وإن قلبه ليوجل لذكره فهو ممن قيل فيهم: {الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: ٢]. لكنه ما إن يتذكر واسع فضله وجنات جوده وغيث إحسانه حتى يسارع إلى رحابه ويعجل إلى خلوة به يطمئن فيها إليه وبه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
وكيف لا يطمئن وقد عرفه وعرف قوته وغناه وشديد بأسه بمن عصاه وحسن مآب من والاه!
لكن البداية أن يعرف..
ومن ذاق عرف..
ومن عرف اغترف..
وحين يغترف فستظهر له إجابة السؤال الذي سأله نبي الله إبراهيم عليه السلام:
{وَكَيْفَ أَخَافُ}؟!
:: مجلة البيان العدد 351 ذو القعدة 1437هـ، أغسطس 2016م.