• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قراءة نقدية لمدخل الجابري للقرآن

قراءة نقدية لمدخل الجابري للقرآن

لمحة عن الجابري:

ولد الجابري في (فكيك) شرق المغرب سنة 1935م، ثم غادرها إلى الدار البيضاء حيث نال دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة سنة 1967م ثم دكتوراه الدولة في الفلسفة سنة 1970م من جامعة محمد الخامس بالرباط العربي، وعمل بها أستاذاً للفلسفة، وقد عرَّفه كتابه (نحن والتراث) للقارئ العربي، وهو يتضمن قراءة معاصرة للتراث الفلسفي الإسلامي من خلال دراسة شخصيات فلسفية مثل ابن رشد والفارابي وغيرهما.

وأعاد الجابري قراءة فكر ابن خلدون، وأصدر ثلاثية (نقد العقل العربي) التي تكونت من ثلاثة إصدارات رئيسة في تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي. وقد أحدثت هذه الثلاثية هزة في الأوساط الفكرية العربية وأصدر الكاتب اللبناني جورج طرابيشي كتاباً ناقداً لها سماه «نقد نقد العقل العربي» يرد فيه على الجابري. وانخرط الجابري في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليساري، وتعرض للاعتقال زمن الحسن الثاني ثم اعتزل العمل السياسي[1].

لن ندع معرفتنا بخلفية الدكتور محمد عابد الجابري اليسارية تؤثر في قراءتنا لكتابه (مدخل إلى القرآن الكريم)، والقسم الثالث فيه تحديداً، وهو موضوع هذه الدراسة المختصرة: (القصص في القرآن الكريم)؛ فهذه الخلفية الفكرية ليست بالضرورة هوية ثابتة ملازمة لا تفارق صاحبها ولا يفارقها صاحبها؛ فجارودي - مثلاً - كان منظِّر الماركسية ثم أصبح مسلماً، بل داعيةً مفكراً منافحاً[2].

وعبد الرحمن بدوي - رحمه الله - بدأ وجوديّاً ثم انتهى مدافعاً عن الإسلام، وقل مثل هذا القول في محمد جلال كشك الذي كان ماركسيّاً ثم تحول إلى ناقد لها ولكل فكر منحط منحل، وكذلك مصطفى محمود ومحمد عمارة وزكي نجيب محمود، وثمة أمثلة وشواهد كثيرة على التحوُّل من النقيض المعادي للإسلام إلى المنافح القوي عن الإسلام، فلن ندع - بناءً على ذلك - هذه المعلومة تتحكم في وعينا أثناء قراءتنا لكتابه الأخير هذا، بل سندع كلماته شواهد له أو عليه.

وكتابه (مدخل إلى القرآن الكريم) هو آخر نتاج فكري له (وكنَّا نتمنى لو اتخذ مساراً آخر). وقد طمأننا في بدايات دراسته إلى أمور مهمة، منها: «أن طريقنا (أي: طريق الجابري) إليها (أي: النتائج التي توصَّل إليها بشأن القصص) يختلف عن طريق محمد أحمد خلف الله، كما أن دراستنا متحررة تماماً من الجدل الذي دار حول موضوع القصص القرآني في ذلك الوقت».

ونقف عند هذه النقطة يسيراً، فما يهمنا هو «النتائج المشتركة» أكثر مما يهمنا اختلاف الطريق. والنتائج المشتركة خطيرة بكل المقاييس وربما نعود إليها بشيء من التفصيل. يقول الجابري: «انتهى خلف الله إلى أن القصة القرآنية لم يكن هدفها التاريخ، وأن مضمون القصة هو ما يعرفه المعاصرون للنبي من تاريخ...»، ثم قال: «إننا لا نختلف كثيراً حول هذه النتائج، إلا أن طريقنا يختلف».

أمَّا أن القصة القرآنية ليس هدفها التاريخ، فكلام قد يبدو في ظاهره مقبولاً، ولكن إذا عرفنا النتائج والمقاصد ومآلات الكلام وغايات ترداد مثل هذا القول استبان لنا وجه آخر؛ فمقصده أن يقول، بل هو في مكان آخر قد قال بصريح العبارة ونصِّها عن دراسته أنها متميزة، بل منفردة بالخصائص التالية:

1 - (اعتبار القصُّ القرآنـي نوعـاً من ضرب المثـل):

ثم قال في شرح قاعدته (الذهبية) هذه ما قال مثله أو شبهه أو مطابقاً له خلف الله. قال الجابري: «فكما أننا لا نسأل عن صحة القصة التي وراء الأمثال، فكذلك القصص القرآني في نظرنا، والصدق في هذا المجال لا يُلتمس في مطابقة أو عدم مطابقة شخصيات القصة والمثل للواقع التاريخي، بل الصدق فيه مرجعه «مخيال»[3] المستمع ومعهوده»[4].

ويقول عابد الجابري: «الغرض من المثل والقصص في القرآن غرض واحد».

وهنا أيضاً تتجلى العبارة المراوغة الضبابية الملتبسة؛ فالقرآن كله غرض واحد؛ فمثلاً: الهدى: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185]، {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وهذا صحيح. لكن قـرن القصـة والمثـل يراد منـه البرهنة، كما أن المثل لا يشترط مطابقته للواقع فكذا القصة؛ فليس بالضرورة أن يكون هناك من تنقض غزلها، أو أن يكون ثَمَّ حمار يحمل أسفاراً على الواقع.

بهذا المنطق نفسه يمكن أن يقال: ليس بالضرورة أن يكون هناك نوح أو عاد أو ثمود، وإنما الخيال الشعبي فيه هذه القصص (وحسب اعتقاد هؤلاء الكتاب هي أساطير، وصرح بها بعضهم) {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِبًا} [الكهف: ٥].

أما النتيجة الخطيرة الثانية التي يلتقي فيها مع خلف الله، فهي: أن «مضمون القصة ما يعرفه المعاصرون»، وهذا غير مسلَّم لهما أبداً، بل هو منقوض مرفوض؛ فما يعرفه النصارى - مثلاً - من زعمهم أن المسيح ابن الله؛ فهل نجاريهم ونوافقهم ونوافق ما في «مخيالهم».

وكأن (النورسي) - رحمه الله - يرد عليه حين قال: «المعنى هو ما صبَّته الآيات في الأذهان، لا ما تسرَّب في خيالك من احتمالات، أو ما سَرقْتَه من أساطير الحكايات».

وعند يهود أنهم شعب الله المختار على الرغم من كفرهم؛ فهل يوافقهم القرآن على ذلك؟ ألم يقل القرآن: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]؟

وهل جئنا لنقرَّ الناس على ما هم عليه، أم لنقرَّ الحقائق التي يريد إقرارها رب الناس؟

وإذا كان القرآن يوافق العرب ويقرُّهم؛ ففيم التنازع الذي حصل؟

ألم تقل لنا أنت نفسك عن قريش: «الذين يفسرون الآيات أو المعجزات بأنها سحر مستمر»[5]؛ أي سينقضي ويمر أثره، مستقرين على اتباع أهوائهم، ثم عاد (عابد) فأكد ما يراه حقيقة، عن حكاية عدم مطابقة القصص للواقع التاريخي، فيقول: «أما مسألة ما إذا كان محتوى هذه القصص يحكي وقائع تاريخية، فهي مسألة لا معنى لها في نظرنا»[6]، وقال: «إن الحوار الذي يجري في القصص كالحوار الذي يجري في الآخرة»[7]. وهو يرى أنه لم يقع. نحن نعلم أن حوار الآخرة لم يقع، لكنه قطعاً سيقع، ومن ثَمَّ فإن حوار القصص قد وقع. والفرق واضح في المنطقين.

ولا نناقش حكاية «المطابقة» هذه، ولكن نمر بها سريعاً فنقول: كم مرة وصف القرآن قصصه بأنه {الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران:62]؟ وأيضاً: أين التهديد ومصداق الوعيد إذا كان العقاب الذي ذكره القصص واقعاً بالأقوام لم يقع؟ وكذلك: أليس الواقع أغرب من الخيال؟ فلماذا يُستغرَب من تاريخ البشرية الطويل أن يحوي هذه الوقائع المحدودة، ونحن في عمرنا القصير وتجربتنا المحدودة، رأينا عدة دول عظمى تتفكك، وعدة قوى استعمارية تنهار وتضمحل؛ فما العجب أن يقص القرآن علينا هلاك عاد وثمود وقوم لوط؟

ثم حكاية مطابقة (المخيال) هذه: منذ متى كانت حكمة المربِّي في مطابقة خيال مريض معتل مختل كخيال العرب؟

وأما قول عابد الجابري بأن دراسته متحررة تماماً من الجدل الذي دار حول دراسة خلف الله، فما يدريك يا أستاذ أنك - وقد قلت ما قال - ألاَّ تثير ما ثار؟ صحيح أنك لست طرفاً في الجدل، لكنك تعيد إنتاج ما أثار ذلك الجدل؛ فإنك مُلاقٍ ما لاقى!

وَعَد الجابري بالتخفُّف من الإسرائيليات أو التخلص منها؛ فهل أنجز ما وعد به؟ إننا ونحن نقرأ في مقدماته التي بدأ بها هذا القسم من الكتاب، قد وقفنا عند النتيجة أو «الخصيصة» الأولى كما سماها، وهي التي قال فيها: إن القصة كالمثل.

2 - وأما المقدمة الثانية فهي: (الاقتصار على المادة التي يعطيها القرآن وحده).

وقال في بيانها: (لا تحاول هذه الدراسة، بل لا تريد، أن تكمل[8]، أو تفسر القصص القرآني بما ورد في الإسرائيليات أو غير ذلك من الموروث القديم). ثم عاد في الهامش فاستدرك فقال: (قد نضطر إلى أن نذكر في الهامش ما هو ضروري لشرح كلمةٍ أو بيان مسألةٍ مما ذكره المفسرون من مخايلهم وموروثهم الثقافي؛ ليس لأن ما ذكروه صحيح، بل لكونه يعبر عن فهم العرب. والقرآن خاطب العرب حسب معهودهم، وأراد منهم أن يفهموا في إطار ما يخاطبهم به)[9].

وهذا خلط منه للقصة القرآنية وهي كلام الله الحق الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] بروايات النَّقَلَة عن الإسرائيليات، وهي - غالباً أو ضرورة - من إضافاتهم أو تحريفاتهم لكتابهم أو من وضعهم مباشرة.

فهو يعلم أن المفسرين ذكروا هذه الروايات من «مخايلهم» (الكلمة الأثيرة عند الجابري)، وأن هذا المروي من «المخايل» يخيل للجابري أن القرآن خاطبهم بحسبه «وأراد منهم أن يفهموا في إطار ما يخاطبهم»، فكأننا ندور في حلقة مفرغة، مخزون ثقافي – إن جاز تسميته بذلك – وهذا المخزون والموروث مفرَّغ من الحق، والقرآن يريدنا أن نفهم في هذا الإطار؛ فما الذي صنعه القرآن إذا كان حافظ على هذا المخزون من ميثولوجيا العرب وبني إسرائيل؟

وهل هذا هو تغيير ما بالأنفس الذي جعله الله مفتاح التغيير الشامل؟ إنها حلقة الباطل المفرغة، وحاشا أن يأمرنا القرآن بالدوران فيها، إنه تيه أَمَرُّ من تيه بني إسرائيل؛ فهل يأمرنا القرآن بالتيه ويتركنا فيه؟

ونقول: إنه ما من شيء يضطرنا أو الأستاذَ إلى النقل من الإسرائيليات، وسنجد أنه لجأ مختاراً إلى الإسرائيليات يغترف منها ما يتناقض مع العقل، وهو الذي اشتغل عُمُرَه في «نقد العقل العربي»، وإذ به يقع في أسوأ مما نقد لأجله العقل العربي. وسأذكر لك بعض أملثة تثبت أنه ما كان اقتصاراً منه على مادة القرآن وحده.

فقد قال عن الرس أنها بئر في أنطاكية[10]؛ فما الداعي لهذا القول؟ وما الذي انبنى عليه؟ وهل فسر شيئاً أو وضَّح غامضاً؟ وقال: عن أصحاب الرس أنهم قتلوا (حبيب النجار) مؤمن سورة (يس) ورسُّوه في البئر... إلخ.

وفسَّر النعجة في قصة داود في سورة (ص) «بالمرأة»[11] وقال عن {أَكْفِلْنِيهَا}: تنازل لي عنها. وقال في صلب الصفحة - لا في الهامش كما وعد -: «قيل: سوَّلت له نفسه أَخْذَ تلك المرأة»، وقال عن سليمان - عليه السلام - في صلب الصفحة (274) لا في هامشها: «وذات مرة تفقد سليمان الطيور في قصره، فلاحظ غياب الهدهد».

أولاً: هو لم يذكر مرجعاً لهذا القول، لذلك يفترض أنه من عنديَّاته.

ثانياً: هو لم ينظر إلى السياق: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:71]. فهو - عليه السلام - تفقَّد الطير في الميدان لا في القصر والإيوان. ثم قال عن خَيل سليمان - عليه السلام -: «بدأ يضرب بالسيف سيقانها وأعناقها ندماً على الانشغال بها عن وقت صلاته». ولئن كان هذا القول مذكوراً في بعض كتب النَّقَلة، فَلِمَ اقتصر الأستاذ عليه وهو «عدمٌ» في القوة؛ أي لا سوق له ولا ساق.

والقول الصحيح أنه طفق مسحاً يدللها على تعبها ومجهودها. وهل إذا أخطأ أحد أوقع نتيجةَ خطئه على غيره؟ فما ذنب الخيل، وهي عدة الجهاد ورأس مال ضخم ولا مسؤولية عليها؟ فأين الرفق والحكمة عند أنبياء الله وخاصة سليمان الحكيم، كما يسمى؟

ثم ذكر عن ملكة اليمن أن سليمان تزوَّجها، ولا خبر عندنا من مصدر صحيح، فلِمَ ترويج روايات هالكة؟

وانظر التفصيل: وكان يزورها في كل شهر مرة، يقيم عندها ثلاثة أيام ثم يعود على البساط، ثم أمر الجن فبنوا له ثلاثة قصور: غمدان و... إلخ.

ثم قال ما هو «أَوغَلُ» في التيه مما ذُكِر آنفاً: دعا «بلقيس» (ربما أعاد اسم بلقيس قرابة عشر مرات، والقرآن لم يسمِّها ولا السنة) إلى الدخول عليه، وشيَّد ما يشبه صهريجاً مملوءاً ماءً، فلما رأت الصهريج بينه وبينها، ولم تنتبه إلى الزجـاج فـوق المـاء رفعـت ثوبهـا عن ساقيها حتى لا يبتل، وسليمان متكئ وراء، فأبصر ساقيها فأعجب بهما...» إلخ. وذكر ذلك في صميم الصفحة لا في هامشها، ولم يَعْزُه إلى أحد، وقال في الهامش: قال ابن كثير: وذكر قصة الزواج.

وفسر {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص:45] بأصحاب القوة والنسل.

وفسر {قُرىً ظَاهِرَةً} [سبأ:18]، فقال: (تعني القرى التي بارك الله فيها). وواضح أن القرى الظاهرة إنما كانت بين سبأ وبين القرى التي بارك الله فيها، لا أنها هي.

وفسر: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص:34] بأنه حلم بأن ملكه نُزِع منه. وقال: «عندما جاء الأجل سليمانَ توفَّاه الله وحيداً في قصره»[12]، وهذا من الجابري عجيب لا يُقبَل؛ فسياق الآيات يدل على أنه مات واقفاً في الميدان، واقرأ الآيات: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ... اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْراً... فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ...} [سبأ:12-14]. وهل الذي يموت في قصره يموت على عصاه، أم يكون متكئاً على الأرائك؟ إنما هذه ميتة الذي يموت في ميدان العمل.

فوجدنا أن الإسرائيليات حشو تفسيره وشروحه للآيات، ولا ضرورة لها على الإطلاق. ومن الإسرائيليات قوله: «أصحاب الجنة (المزرعة) باليمن»[13]، ثم ذكر الآيات، والقرآن لم يحدد ولم يذكر لا اليمن ولا غيرها. ونسي أنه علَّمَنا أن القصة كالمثل لا يشترط لها مكان معيَّن ولا شخوص محددون. وهو من قال: إنه سيتجنب الإسرائيليات.

وفي قصة لوط قال في شرح الآيات: «فلما دخل الضيوف بيت لوط بحثوا عنهم (أي أهل البلد) ليمارسوا معهم فعلتهم فلم يجدوهم»[14]. وهذا أيضاً إضافة لم ترد في النص، وعدمُ التزامٍ بالمنهج الذي ألزم به نفسه.

ومن الإسرائيليات التي زعم الجابري أنها حديث، ما زعمه عن ذي الكفل. قال: «في الحديث: كان في بني إسرائيل رجلٌ يقال له: ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، ارتعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: مِن هذا العمل، والله ما عملته قط. قال: أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملني عليه الحاجة. قال: اذهبي فهو لك، والله لا أعصي الله بعدها أبداً! ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوباً على باب داره: إن الله قد غفر لذي الكفل»[15]. ولن نناقش هذه الرواية؛ فهي لا تستحق المناقشة، ولكن يكفي أن نقول: إن القرآن عدَّه في سلك الأنبياء ونسَّقه معهم؛ فيكف يكون رجل تائبٌ كان لا يتورع عن معصية معدوداً في سلك هؤلاء العظماء؟ فأن تُقبَل توبته شيء وأن يُعدَّ في نسق: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}؟ [الأنبياء:85] شيء آخر.

3 - أما قاعدته الثالثة فهي: (القصص القرآني والحقيقة التاريخية).

قال الجابري في مقدمة قاعدته هذه: إنه لن يهتم بتلك القضية التي شغلت الدارسين للقصص القرآني وما زالت، ثم أفصح عمَّا لا يهمه وأنه «العلاقة بين القصص القرآني والحقيقة التاريخية».

وهي النظرية القديمة المكرورة، فلم يطرح فيها عابد زيادة على خلف الله ومِن قَبْلِه طه حسين، وكرر وأعاد أن القرآن ليس كتاب قصص ولا كتاب تاريخ، وهذا النفي الأخير لا يفيده في نفيه الأول: «لا معنى لطرح مسألة الحقيقة التاريخية»، «إن الحقيقة التي يطرحها القصص القرآني هي العبرة». ولا أدري ما الذي يضير أن تجتمع الحقيقتان؟ ولماذا الإصرار على التفريق بين الحقيقتين وإفراد إحداهما عن الأخرى؟ وما المصلحة المبنية على هذا؟ وهل ضاق التاريخ البشري عن مثل هذه الحقائق؟ أليس في الواقع الماضي والحاضر من الوقائع ما يطابق مثل ما حدَّثنا عنه القرآن؟ ثم ما معنى قوله - تعالى - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً}؟ [النساء:122]، ثم أليس أوقعُ في العبرة أن يكون المقصوص مطابقاً لواقع الحال وليس من نسج الخيال؟

ثم أوقع الجابري نفسه في تناقض لا يُجبَر؛ إذ قال: «نعم! إن القصص القرآني ليس قصصاً خياليّاً، بل هو قصص يتحدث عن وقائع تاريخية تقع ضمن معهود العرب». ونفى أُميَّة العرب.

وفي الجملة إنك لا تجد في كتابة الجابري التوقير لكلام الله وإجلاله كما هو شأن المؤمن؛ فهل يخطر ببالك أن تقرأ هذه العبارة في كلام مؤمن بالقرآن: «ونحن قد اخترنا السير مع القصص القرآني، كما ورد، حذو النعل بالنعل كما يقول المثل...».

ومما يلاحَظ على أسلوب الجابري أيضاً: أنه يقرر حقائق، أو قل: مُطْلَقات يطلقها من (عنديَّاته) مقررات كأنها الحقيقة النهائية وكأنه هو المرجع النهائي؛ فتراه يقول: «والواقع [هكذا] أن جُلَّ الحوادث التاريخية التي يحكيها قصص القرآن عن أنبياء بني إسرائيل يتطابق إلى حدٍّ كبير مع ما جاء في التوارة والإنجيل»[16].

والواقع – على طريقة الجابري – أن هذا غير دقيق؛ فقصة يوسف – مثلاً – صحيح أنها تحتوي بعض أحداث مشابهة لكن المنهج مختلف، وكثير من الحوادث مختلفة؛ فالرؤيا التي رآها يوسف تحولت إلى رؤيتين عندهم، وهو لم يخبر إخوته ولم يعلموا (عندنا وعندهم) أنه أخبرهم فتضايقوا. وعندنا أن يعقوب صبر، وعندهم أنه لبس المسوح وتكلم بكلام لا يتفوَّه ولا يتكلم به أنبياء، وعندنا أنه أكرم إخوته، وعندهم أنه وضعهم في «بيت السجن» على حدِّ تعبير التوارة... إلخ[17].

ولعل (الأوعـر) و (الأعوص) هو في كتـابة الجـابري و (مصطلحاته) واللغة الاستشراقية التي يكتب بها؛ ففـي السطر الأول مـن دراســته يتسـاءل علـى لسـان القـارئ: «ما علاقة القصص القـرآني بهذا الكتاب الذي موضوعه التعريف بالقرآن: (محيطه ومسار تكوينه)؟ هل لا حظت (مسار تكوينه)؟ وهل ضبطت المراد؟ وهل لا حظت (محيطه)»؟

ويفيدنا في الجواب على سؤالنا المفترض فيقول: «الجواب هو أن القصص القرآني يتصل بالموضوعين اتصالاً مباشراً؛ فهو من جهة نافذةٌ واسعة تمكِّننا من الإطلالة على جانب مهم من محيط (الدعوة المحمدية)، وهو من جهة أخرى خطابٌ جعل منه القرآن مسرحاً لخطاب جدلي أبدي موجَّه إلى خصومه، وبالتالي[18] فهو مكوِّن من مكوِّنات مساره التكويني».

وهو بالمناسبة يعيد تعبير (الدعوة المحمدية) في الصفحة الواحدة بمعدل (4 - 5) مرات.

ومن مصطلحاته سوى مصطلح (الدعوة المحمدية) و (مسار القرآن التكويني) مصطلح: (الحكي) فيقول عن قصص القرآن: «فإن حكيه لا يخضع لمسار حياة الأنبياء، بل يعرض في كل مرة ما يناسب الدعوة المحمدية في مرحلة من المراحل»[19].

ويقول: «قصص الأنبياء حكاية سيرة هذا النبي أو ذاك»[20]. وقال: «لا يخلوا هذا (الحكي) من هدفِ استخلاصِ العبرة. ويكرر حكاية (الحكي) فيقول: «تبقى السيرة المحكية مقصودة لذاتها...»[21]، و «الواقع أن جل الحوادث التاريخية التي يحكيها قصص القرآن»... إلخ.

ومصطلح (الحكي) و (الحكائين) و (الحكايات) معروف لمن يقرؤون القصص، وظلال المصطلح لا تناسب القصص القرآني.

ومن مصطلحاته الغريبة، التي أوردها متأثرةً بالمستشرقين: مصطلح (التاريخ المقدَّس) ولا أدري من أين اخترعه، فهو يكرره (ص257) «التاريخ المقدس تاريخ الأنبياء والرسل»، و (ص260): «التاريخ المقدس التاريخ الذي تحكيه الكتب السماوية وفي مقدمتها التوراة التي هي مصدر أساسي وأحياناً الوحيد للمؤرخين الذين يعرضون لتاريخ بني إسرائيل». ثم يقول بعدها مباشرة: «مِنْ هذا المنظور سنتعامل مع القصص القرآني في القرآن المكي، ومن هذا المنظور سنستحضر نصوصاً من التوراة والإنجيل قصد فَسْح المجال للمقارنة»... إلخ.

ومن عجائبه توثيقه للآيات؛ فهو يقول: القرآن الكريم سورة غافر الآية (21). فإذا عاد قال: المرجع نفسه سورة الفجر الآية (15)... إلخ. وهذا دأب لم نعهده إلا عند الجابري.

 


 


[1] مجلة الفيصل عدد 409 – 410 رجب – شعبان 1431هـ، يونيو – يوليو 2010م

[2] إننا نعلم بعض أخطائه وهذا شيء، وذاك شيء آخر، لكنا لن نُخرج الرجل عن كونه منافحاً عن الإسلام.

[3] وهي كلمة مفضلة تتكرر عند عابد وأضرابه. [والصواب : خيالهم] .مجلة البيان

[4] هي نظرية خلف الله، والصدق عند خلف الله صحة الهدف من القصص لا مطابقة القصِّ للواقع التاريخي، وهي نظرية طه حسين وأساتذته من المستشرقين من مثل: نولدكة وماسينيون وبلاشير ومرجليوث.

[5] ص: (268).

[6] ص: (270).

[7] ص: (270).

[8] تعبير «تكمل» غير موفق، وكم كثيرة هي تعبيرات التي ينطبق عليها هذا القول وسأذكرها.

[9] ص: (258). 

[10] ص: (267)

[11] ص: (273)

[12] في متن ص: (275).

[13] ص: (266).

[14] ص: (269).  

[15] ص: (277).

[16] ص: (259).

[17] للمزيد من تفاصيل هذه المقارنات ارجع إلى مؤتمر تفسير سورة يوسف للعلمي وإلى كتابنا عن سورة يوسف.

[18] (بالتالي) ليس أسلوباً عربياً، وإنما الصواب : (وبناءً على ذلك)، أو (ومن ثَمَّ)، أو غير ذلك مما يناسب السياق.مجلة البيان

[19] ص: (257)

[20] ص: (258)

[21] ص: (259)

أعلى