.
اتفق المحققون[1] على أن أول من احتفل بهذه البدعة هم العبيديون المنتسبون زوراً وبهتاناً لفاطمة - رضي الله عنها - وذلك في سنة 361هـ على يد المعز لدين الله، وهم في الحقيقة من المؤسسين لدعوة الباطنية؛ فجَدُّهم هو ابن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، بالعراق، ثم رحل إلى المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وزعم أنه من نَسْله، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة، ادَّعى أنه مِنْ ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقَبِلوا ذلك منه؛ مع أن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات ولم يُعْقِب ذرية، وممن تبعه: حمدان قرمط، وإليه تُنسَب القرامطة، ثم لما تمادت بهم الأيام، ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح، فغيَّر اسمه ونَسَبه وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق؛ فظهرت فتنته بالمغرب. ودولة العبيديين قامت سنة 298هـ وقد مهَّد لقيامها داعية إسماعيلي يُدعَى: أبو عبد الله الشيعي. وحشد لنصرتها قبيلة (كتامة).
وظلت هذه الموالد عند بني عُبَيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها من كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع، بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع وطيلة القرنين: الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يُدْعى عمر بن محمد الملا، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري، ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى؛ حتى وصلت إلى ما نشاهده في العصر الحاضر من مظاهر احتفالية كبيرة ومتنوعة في سائر أرجاء العالم الإسلامي. إذاً كان الهدف الرئيس من إحداث هذه الموالد هدفاً سياسياً؛ لتثبيت حكم بني عُبَيد، ولم يكن لمحبة النبي «ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب»[2].
مظاهر الاحتفال وإطارها السياسي:
مع مرور الزمن بدأت تُقَنَّن هذه الطقوس حتى وصلت إلينا مظاهرَ متكاملةً، تشـمل الأمور العبادية – طبعاً المبتدَعة – كما تشمل الدنيوية: من أكل وشرب ولهو... إلخ.
يقول الأستاذ محمد رشيد رضا تعليقاً على هذه الطقوس: (إن المسلمين رغبوا عما شَرَع الله إلى ما توهموا أنه يُرضِي غيره ممن اتخذوهم أنداداً وصاروا كالإباحيين في الغالب؛ فلا عجب إذا عمَّ فيهم الجهل واستحوذ عليهم الضعف وحُرِمُوا ما وعد الله المؤمنين من النصر؛ لأنهم انسلخوا من مجموع ما وصف الله به المؤمنين ولم يكن في القرن الأول شيء من هذه التقاليد والأعمال التي نحن عليها، بل ولا في الثاني ولا يشهد لهذه البدع كتاب ولا سُنة وإنما سرت إلينا بالتقليد أو العدوى من الأمم الأخرى؛ إذ رأى قومنا عندهم أمثال هذه الاحتفالات، فظنوا أنهم إذا عملوا مثلها يكون لدينهم عظمة وشأن في نفوس تلك الأمم؛ فهذا النوع من اتخاذ الأنداد كان من أهم أسباب تأخُّر المسلمين وسقوطهم فيما سقطوا فيه). ا هـ [3].
ولعل المظاهر التي تفشو في كل الموالد، والتي لم يسلم منها حتى المولد النبوي، تؤكد أن الحدث إنما هو سياسي بامتياز؛ إذ يراد منه تحقيق الرضا الشعبي، والظهور بمظهر المحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يكون في ذلك المشهد - من أوَّله إلى آخره - تعبير شرعي صحيح ومقبول عن ذلك الحب؛ إذ وجد أرباب الطرق في ترك مثل هذه المنكرات أو السكوت عنها أو ربما تشجيع البعض عليها، نوعاً من إضفاء قَدْر من الشعبية على المحتفلين؛ حتى وإن كان في ذلك إسقاط بعض الشعائر، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الوقوع في المحرمات وانتهاك الحدود الشرعية المرعية من جانب المؤمنين الصادقين؛ ولهذا لو فتَّشنا في الأسباب، فسنجد أنه نوع من الاستغلال السياسي الذي يشترك فيه الجميع.
ومن هنا تُلاحَظ الأهمية السياسية لإبقاء هذه الاحتفالات على صورتها تلك والنفخ فيها حتى تكون أكثر زخماً ولهواً وإلهاءً للشعوب، وأكثر ظهوراً بمظهر الاحتفاء بشعائر الإسلام وهيهات هيهات!
المراحل التاريخية التي مرَّ بها الاستغلال السياسي للمولد:
أولاً: العبيديون واستغلال المولد:
سبب ابتداعهم هذه البدعة أن المسلمين في مصر والشام لم يرتضوا سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛ لا سيما وقد انتشرت البدع، بل الشركيات على أيديهم؛ فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم؛ فحاولوا استمالة قلوبهم، وكَسْب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية؛ فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي، مولد النبي وموالد أخرى غيره.
ومعلوم ما اكتنف نَسَب العبيديين من الغموض؛ لذا حاولوا - عن طريق هذه الاحتفالات - التشغيب على الناس وإلهاءهم؛ فلا يفكرون في أنساب هؤلاء الدخلاء وأصولهم.
وهذا مما يؤكد أن هذه البدعة منذ ظهورها إلى اليوم كان الهدف من ورائها هدفاً سياسياً؛ إذ لولا الساسة لَـمَا قامت لها قائمة.
قال المقريزي: (كان الأفضل بن أمير الجيوش قد أبطل أمر الموالد الأربعة: النبوي، والعلوي، والفاطمي، والإمام الحاضر، وما يهتم بها، وقَدُم العهد بها حتى نُسِي ذِكْرُها؛ فأخذ الأستاذون يجددون ذِكْرَها للخليفة الآمر بأحكام الله ويرددون الحديث معه فيها ويحسِّنون له معارضة الوزير بسببها وإعادتها وإقامة الجواري والرسوم فيها، فأجاب إلى ذلك وعمل ما ذُكِر). أ هـ[4].
ثانياً: بعد عصر العبيدين:
لقد استمر الهدف من إقامة المولد مقتصراً على الأسباب السياسية في عصر الأيوبيين والمماليك؛ رغم اختلاف الظروف الاجتماعية. ولكن يبدو أن إدراك الأيوبيين لأهمية هذا العنصر في الترويج للفاطميين دعاهم إلى إدخال تغيير نوعي في هذه الاحتفالات، وهذا ما دعا الباحث (عرفة عبدة علي) إلى القول: (في عصر الدولة الأيوبية، أُبطِلَت كل مظاهر الاحتفالات الدينية؛ فقد كان السلطان صلاح الدين يُوسُف يهدف إلى توطيد أركان دولته؛ لمواجهة ما يتهددها من أخطار خارجية، واقتلاع المذهب الشيعي بمحو كافة المظاهر الاجتماعية التي ميزت العصر الفاطمي، ولا شك أن هذا السبب السياسي هو أحد الأسباب التي دعت صلاح الدين إلى محاربة هذه البدع. واستمر هذا التوظيف؛ حتى من حكام وسياسيين غير منتسبين للإسلام)[5].
ثالثاً: الدولة العثمانية واستغلال المولد:
العلاقة بين الخلفاء العثمانيين والتصوف علاقة قوية؛ فالعثمانيون اعتنقوا الإسلام على يد مشايخ الطرق الصوفية من قَبْل استقرارهم في آسيا الصغرى؛ حيث إن جُلَّ السلاطين كانوا صوفيين، بل إن الخلافة العثمانية رغم ما قدمته للإسلام وجهـودها فـي حماية بيضـة الإسـلام قـروناً طوالاً؛ إلا أنها - للأسف الشديد - كانت غارقة فى الخرافة، وهذا هو السبب الرئيسي فى محاربتهم لحركة الإصلاح التي قادها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومحاولتهم القضاء عليها، والسلطان عبد الحميد الثاني أشـهر خلفـاء بني عثمان - على جلالة قَدْرِه - كان صوفياً قُحَّاً، ورغـم جهـوده المشكورة في الحفاظ على أراضي المسلمين ومحاولاته لوقف انهيار الخلافة الإسلامية، كان له من الخرافة نصيب، و كان قد قَرَّب إليه ثلاثة من كبار المتصوفة في ذلك العصر، وكان لهم مقاماً سامياً في السلطنة يومئذٍ مع نفوذهم في جميع الدوائر، وهم: الشيخ محمد ظافر المدني الشاذلي (ت 1321 هـ) والشيخ أحمد أسعد المدني (ت سنة 1314 هـ) والشيخ أبو الهدى الصيادي (ت سنة 1328 هـ).
ولأن السلطان عبد الحميد تولى عرش السلطنة في ظروف عصيبة، والمؤامرات تحاك للأمة، والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان، ودعاة القومية والتفرقة يبثون دعواتهم في سائر البلاد، فقد دعا - كما هو معروف - إلى الجامعة الإسلامية، والرابطة الدينية، لكن كان اعتماده على الصوفية في دعوته إلى الجامعة الإسلامية؛ لِـمَا رآه من انتشارها ونفوذها بين الناس، كما أن ذلك الاعتماد والتبنِّي قد زاد من انتشار الصوفية وتغلغلها في أوساط المسلمين.
وكان من أهم المظاهر التى تبيِّن صوفية الدولة العثمانية هي احتفالاتهم بالمولد النبوي؛ ففي القرون الأخيرة كان يحتفل بالمولد حكام من المسلمين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه؛ لأن الاحتفال بالمولد صار عند الجماهير المسلمة من أعظم الواجبات التي لا يجوز التهاون فيها. كما كان يعتقد هؤلاء الحكام أنهم يستمدون مشروعيتهم من مثل هذه الاحتفالات.
يذكر الجبرتي أنه: (نودي يوم الثلاثاء 11 ربيع الأول سنة 1230 هـ بزينة البلد ووقود القناديل، والسهر ثلاثة أيام بلياليها...، ويذكر أن السلاطين العثمانيين كانوا يحتفلون بالمولد النبوي في أحد الجوامع الكبيرة بالأستانة حسب اختيار السلطان، فلما تولى السلطان عبد الحميد في سنة 1293 هـ - 1876 م، قَصَر حفلاته التقليدية على الجامع الحميدي؛ فعندما تحين الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول يحضر إلى الجامع عظماء الدولة وكبراؤها من الأمراء والعلماء والوزراء، وجميعهم بالملابس الرسمية والكساوي التشريفية وعلى صدورهم النياشين بأنواعها، ثم يقفون في صفوف متراصة، ونظام تام، انتظاراً لتشريف السلطان، وفي هذه الليلة يخرج السلطان من قصر يلديز ممتطياً جوداً مُطَهَّماً بسرج من الذهب الخالص؛ وقد حفَّ الموكبُ به، ورُفِعت على رأسه الأعلام، ويسير وسط الجماهير المحتشدة، حتى يصل إلى الجامع؛ فيبدأ في رسوم المولد وفِقْراته، حتى تنتهي فيعود إلى قصره.
وكذلك كان ينادى للاحتفال بالمولد كل سنة فى عهد محمد علي وأولاده وأحفاده الذين استمروا على رعاية شؤون المولد، وإحياء الاحتفال به طوال سِنِيِّ حكمهم، مع أن غالبهم كان حرباً على الإسلام، وكان الواجب عليهم وعلى من حام حولهم من العلماء العمل على رفع راية الدين وأن يحكموا بما أنزل الله، وأن يعلنوا الجهاد والاستنفار ضد الاحتلال الإنجليزي لتحرير البلاد والعباد.
يذكر صاحب (الخطط التوفيقية) اهتمام الدولة المصرية في عهد خديويها توفيق بالمولد النبوي وبالأسرة البكرية المعنية بشؤون المولد، والمختصة بإقامته، فيقول: وللسادة البكرية في ظـل الدولة المحمـدية العلـوية مـن العناية به في كل عـام ما تتحدث بزائد شرفه الركبان، ويفتخر به أهل الزمان على غيره من سائر الأزمان، لا سيما في عهد الحضرة الفخيمة الخديوية، وعصر الطلعة المهيبة التوفيقية؛ فإنه وصل فيها الاحتفال بأمر المولد النبوي الشريف إلى حدِّه الأعلى، وبلغ الاعتناء بعلوِّ شأنه المبلغ الأعلى؛ وذلك أنه في أوائل العشرة الأخيرة من شهر صفر الخير من كل عام تُصنَع بمنزلهم مأدبة فاخرة يدعى إليها كافة مشايخ الطرق والأضرحة والتكايا والوجوه والأعيان والذوات...) [6].
رابعاً: الاحتلال واستغلال المولد:
من الملاحظات الجديرة بأن نقف أمامها كثيراً، هي حالة الانتعاش الكبير التى تصيب الفِرَق المنحرفة فى ظل الاحتلال: كالصوفية والشيعة، ولا يختلف اثنان في أن هذه الفرق هي المرتع الخصب الذي يرتع فيه الاحتلال، والذي يستطيع من خلاله أن يتمكن من البلاد والعباد؛ ولقد ساهمت هذه الطرق بمنتهى الإخلاص في هذا المجال.
لقد أدرك الإنجليز أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة من الشعب؛ فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قَدَرية اتكالية استسلامية؛ ولهذا حرصت سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية، وهو ما مكَّنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.
(استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية؛ حيث احتضنت سلطات الاحتلال الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها. وعمل بعض أولئك على ردِّ الجميل للمحتلين؛ فكانوا يضفون الشرعية على وجودهم ويسوِّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في مصر قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر! وكان من هؤلاء شيخ الطريقة السمانية: محمد إبراهيم الجمل)[7].
يذكر الجبرتي أن نابليون بونابرت سأل الشيخ البكري عن عدم إقامة المولد النبوي بعد احتلال القاهرة، فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل نابليون بذلك، وقال: لا بد من ذلك، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي معاونة منه في إقامة هذا المولد، وأمر بتزيين البلد كالعادة، واجتمع الفرنسيون يوم المولد، ولعبوا ميداينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم. وقد كان نابليون يواظب على حضور المولد النبوي بنفسه. كما أمر الفرنسيون بإقامة المولد النبوي، بل كانوا يجبرون الناس ويقهرونهم على الاحتفال بهذه الموالد، ويغرِّمون من يأبى أن يحتفل بها، ويسمِّرون دكانه.
إن المرء ليتساءل عن اهتمام الفرنسيين بإعادة هذه الموالد المبتدَعة، وقَهْرِ الناس على الاحتفال بها، ودعمِها بالمال. يجيبنا الجبرتي على هذا التساؤل بما رآه الفرنسيون في هذه الموالد (من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، واتباع الشهوات والتلاهي وفِعْل المحرمات... لقد أدرك الفرنسيون ما يقع بسبب هذه الموالد من سلبيات، وما تستنفده من جهود وأموال، وما تشغَله من أوقات وتفكير، وما في ذلك من صَرْف للناس عن جهاد المحتلين ومقاومتهم، وهو ما لم يدركه الكثير من العلماء ممن شجعوا تلك الموالد، أو حتى غضوا الطرف عنها… وكذلك أدركوا ما لتلك الموالد من مكانة عظيمة في حياة الناس؛ لذا سارعوا بإعادتها؛ حتى يُلْهُوا الناس بها، وتعود الأمور إلى مجاريها، وكأن شيئاً لم يحدث، ويغلقوا دون أنفسهم باباً واسعاً من أبواب الثورة)[8].
خامساً: استغلال المولد فى العصر الحاضر:
تمثل قضية المولد النبوي أحد أهم المرتكزات التي تركِّز عليها الصوفية في الترويج لأفكارها على المستوى الشعبي وتكتسب بها زَخَماً إعلامياً وسياسياً، ومن هنا كان الاحتفال بها لوناً مــــن ألوان الظهور بالمظهر الشرعي المتلبِّس بمحــــــــبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، خاصة بعد أن نجحت الاتجاهات التجديدية في الحد من ظاهرة الاحتفال بموالد أصحاب الأضرحة، وانصراف قِطاع من الناس عن تلك الموالد بعد توفُّر ما يرغبون فيه من متع وشهوات بوسائل عديدة ومتاحة. من هنا يأتي التركيز على الاحتفال بالمولد النبوي كمدخل للاحتفال بموالد الأولياء المنسوبين - حقيقة أو زوراً - إلى آل البيت.
وإذا كانت العلاقة بين الصوفية والساسة هي علاقة تبادل منفعة، ففي الوقت الذي تحاول فيه الحكومات استغلال الصوفية لتحقيق مآربها، تحاول الصوفية أيضاً أن تتكسب من هذه العلاقة، بل هي المستفيد الأكبر من هذه العلاقة.
يقول الدكتور عمار حسن: «في الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرُّب الحكومة من المتصوفة وتقرُّب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد وفَّرت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام؛ باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رَفْع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها، والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثِّها بين الناس، والتي لولاها لتقوَّض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفـالات الصــوفية، بـل صـار شيخ مشـايخ الصـوفية (أبو الوفا التفتازاني) عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء، مثل: الحسين والسيد البدوي»[9].
ويظهر هذا الاستغلال في الاحتفال بالمولد النبوي؛ حيث كانت وزارة الأوقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء في عهد الجمهورية، وفي العادة؛ فإن الملوك والرؤساء يلقون في هذا اليوم خطبة، كما يحضرها شيخ الأزهر وعدد من الوزراء والشخصيات العامة، وتوزَّع فيه جوائز على الفائزين في (مسابقة تقام احتفالاً بالمولد النبوي) كما توزَّع فيه الجوائز التقديرية على بعض الحضور باسم: تكريم العلم والعلماء، كما تقام احتفالات في كافة المدن، ترعاها فِرَق من الشرطة. كما تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى شهر كامل، هو ربيع الأول. ومع أن كثيراً من البرامج لا غبار عليها إلا أن ارتباطها بموسم لم يُقِرُّه الشرع يبقى نقطة مؤاخذة، إضافة إلى بعض البـرامج والفِقْـرات التي لا تخلو من غلوٍّ في شخصه - صلى الله عليه وسلم -[10].
أسباب الاستغلال السياسي لبدعة المولد:
من خلال العرض السابق لمظاهر وتاريخ الاحتفال بالمولد النبوي نلخِّص سريعاً الأسباب التي أدت إلى سعي الأطراف المختلفة لاستغلال هذا الاحتفال سياسياً:
أولاً: بالنسبة للشيعة العبيديين:
1 – نَشْر العقائد الشيعية، من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم: وهذا ما صنعه العبيديون من قَبْل، ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد اليوم.
2 - كَسْب ولاء الناس، والتعمية على تصرفاتهم القبيحة وكفرهم الشنيع.
3 - نَشْر الفرقة بين صفوف المسلمين، وإبعادهم عن العقيدة الصافية.
4 - إضعاف المسلمين باستنزاف خيراتهم، ونَشْر المنكرات والفواحش بينهم.
5 - إشغال المسلمين عن مقاومة أعدائهم، وإلهائهم عن الجهاد في سبيل الله.
ثانياً: بالنسبة للعثمانيين:
1 - التقرب إلى الشعوب وضمان ولائهم.
2 - إلهاء الناس عن التفكر في المظالم التي كان يمارسها الولاة الأتراك.
3 - إضعاف شوكة المعارضين والمنافسين، كالمماليك في بعض الأوقات: فالاحتفال بهذه البدع يساعد على التفاف الشعب حول هؤلاء الولاة، وهو ما يزهدهم في المعارضين لهم، لا سيما إذا كانوا لا يهتمون بهذه الخرافات.
4 - إلقاء طابع الهيبة والتدين على الدولة العثمانية
ثالثاً: بالنسبة للأنظمة المعاصرة:
1 - تخدير الشعوب، والسيطرة عليها، وإشغالهم عن تنحية شرع الله عن الحكم والمطالبة به.
2 - الدعاية السياسية والتأثير على الجماهير، وإعطاء انطباع بتدين الأنظمة وعدم عدائها للدين.
3 – التعمية على بعض الممارسات والمظالم والفساد والإنحراف الغارقة فيه هذه الأنظمة: فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وَضْعه السيئ بالثـورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه للبدع والخرافات؛ فيجد عالمه وخلاصه في رحاب هذه الطقوس؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتَرْكِهم الحكام)[11].
4 - قتل روح الجهاد فى الأمة، وتقديم البديل عن الدين الصحيح.
5 - إرضاء أعداء الإسلام: حيث يقدِّمون لهم إسلاماً لا يعادي أحداً؛ ففي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية؛ بحجة مكافحة الإرهاب؛ فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنَّى النهج الصوفي.
6 - كسب ودِّ الطرقيين واستمالتهم: حيث إنهم حَشْد قوي في أي انتخابات. يقول الباحث عمار علي حسن: (كانت الصوفية على رأس القوى الدينية التي استخدمها النظام المصري في تبرير وتدعيم سياساته؛ فحَرَصَ المسؤولون على حضور موالد الصوفية واحتفالاتها، وخاصة المولد النبوي ومولد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي[12].
7 - إعطاء الشرعية لهذه الأنظمة: لا شك أن الشرعية الدينية للدول والأنظمة - مثلها مثل الشرعيات الأخرى (الشرعية التاريخية والدستورية والثورية) – تُعَدُّ إحدى أهم الدعائم التي تقوم عليها نُظُم الحكم، لا بد أن يدعمها؛ حتى ولو شكلاً وظاهراً، وهذا ما يستغله القبوريون.
8 - ضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم؛ فرغم إعلان السياسيين العلمانيين أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين؛ إلا أننا رأيناهم يدعمون القبوريين بانتهازية واضحة، باعتبارها مظهراً من مظاهر الدين، يمكن ضرب الصحوة الإسلامية به، وذلك بسحب البساط من تحت أرجلها باعتبار الدين أرضيتها التي تنطلق منها.
رابعاً: بالنسبة للمحتل الأجنبي: (بريطانيا وفرنسا من قَبْل وأمريكا حالياً): فبعد أن ورثت أمريكا الإمبراطورية البريطانية حاولت جاهدة أن تسيطر على العالم، وأن تكون هي القوة القطبية الوحيدة؛ لذا عملت على إسقاط وتفكيك الاتحاد السوفييتي (السابق)، فلم يبقَ أمامها من عدو غير الإسلام؛ لذا هي تحاول جاهدة احتواء هذا المارد، لا سيما أن هناك اتجاهات تمثل نسبة كبيرة من المسلمين يسهل استمالتها، اتجاهات لها مشاريع سياسية خاصة، كالشيعة - مثلاً - حيث حاولت أمريكا تقديم الإسلام الشيعي كبديل عن الإسلام السُّني. وهناك اتجاهات ليس لها أي مشروع سياسي، بل العكس: إن تاريخها في تدعيم قوى الاحتلال ونصرته غير خافية على أحد وهي الصوفية، كما أسلفنا.
يظهر ذلك جلياً بعد صدور تقرير مركز (راند)[13] الأخير عام (2007م)، والذي يحمل عنوان: (بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي)، والذي دعا إلى إعطاء الطرق الصوفية مساحة متزايدة من الأهمية، كما احتفظ للصوفية بأهميتها الاستراتيجية في التخطيط الأمريكي، باعتبارها أحد البدائل المتاحة أمام المخطط الأمريكي؛ لإزاحة التيارات الإسلامية وإحلال الصوفية محلها.
لذا سعت أمريكا وبكل جِدٍّ لكسب ولاء هذه الطرق، ومثال ذلك حِرْص سيدي العارف بالله (فرانسيس ريتشاردوني) السفير الأمريكي السابق في القاهرة على حضور الموالد الدينية، وخصوصاً مولد البدوي.
واستقبال محافظ الغربية للسفير بالأناشيد الدينية، ومنها: (طلع البدر)، وهذا الأمر له دلالات ينبغى إمعان النظر فيها. ولا يعني ذلك: أن كل الطرق الصوفية على درجة واحدة من الولاء للمحتل.
وزاد الحرص بعد 11 سبتمبر؛ حيث ظهرت التيارات الجهادية كعدو حقيقي يمكن أن يقوِّض هيبة أمريكا، وكانت أهداف أمريكا من وراء استغلال المولد، كالتالي:
1 - إبراز الصوفية كبديل عن التيارات الأخرى، وأنها تمثِّل الإسلام الصحيح: ترتكز فكرة الاستبدال على وجود رغبة عامة وعارمة لدى الجماهير في التدين. وكان الحل أن ندع المسلمين يتدينون كما يريدون، لكن فَلْنقدِّم لهم نحن (التوليفة) المناسبة للتدين. وهذا الحل يكمن في: (المتصوفة الجدد) أمثال: علي الجفري وهشام القباني... وغيرهم.
2 - محاربة فكرة الجهاد الإسلامي: والتي تُعَدُّ في رأيي أكبر ما يقضُّ مضاجع الأمريكان؛ عندما يرون انبعاث حركات المقاومة والجهاد في كل مكان؛ لذا يسعون إلى القضاء على حركات المقاومة في كل مكان، كما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وفي غيرها.
3 - تمييع قضايا الولاء والبراء لدى المسلمين، وإبراز الأمريكان كمحبين للسلام، ومدافعين عن الإسلام الصحيح الذي يمثله الطرقيون.
4 - استمالة الجهلاء وضعاف النفوس ليدوروا في فلك المخططات الأمريكية للسيطرة على العالم الإسلامي، والقضاء على أي محاولة للنهوض مرة أخرى.
5 - تحييد أكبر عدد من المسلمين في قضايا الصراع المعاصر، والإيحاء بأن صراعهم مع الإرهاب وليس الإسلام، ولِـمَ لا وهي تساعد التيارات الأكثر عدداً من المسلمين؟
6 - محاربة التيارات السياسية الإسلامية وإفشال مشاريعها للوصول إلى الحكم، وتدمير المنهج السياسي في الإسلام، وبيان أن الإسلام لا يصلح: لا للحكم ولا للسياسة، وأن المنهج الصحيح، هو في الانكباب على الموالد والشطح والخرافة التي تمثلها الصوفية.
وصلي اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] راجع المقريزي في خططه: (1/490)، والقلقشندي في صبح الأعشى: (3/498)، والسندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي:(69)، ومحمد بخيت في أحسن الكلام: (44)، وعلي فكري في محاضراته:(84)، وعلي محفوظ في الإبداع:(126).
[2] تأصيلات عقدية، مجلة الجندي المسلم، العدد 115 بتاريخ: 1/5/2004.
[3] تفسير المنار: (2/74 - 76).
[4] خطط المقريزي: (1/432).
[5] دمعة على التوحيد: ص 178.
[6] الانحرافات العقدية والعلمية: (ص 387).
[7] دمعة على التوحيد: ص 204.
[8] الإنحرافات العقدية والعلمية في القرنين: الثالث عشر والرابع عشر الهجريين: (ص 379 – 382).
[9] نقض العرى.. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي، محمد بن عبد الله المقدي، مجلة البيان: عدد 223.
[10] حقوق النبي: ص 168.
[11] نقض العرى.. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي، محمد بن عبد الله المقدي، مجلة البيان: عدد 223 = بتصرف.
[12] دمعة على التوحيد: ص 186.
[13] هو تقرير يصدر عن مؤسسة راند RAND Corporation، وهي من المؤسسات التي تشارك فى صناعة القرار السياسي الأمريكي. وتقاريرها التي تُصدرها ترسم خطةُ للسياسية الأمريكية في التعامل مع الأحداث في العالم أجمع، ومنها منطقة ما يسمونها بـ: (الشرق الأوسط)، ومقرها في الولايات المتحدة، وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشاردسون) المحافِظَة. التقرير خرج في217 صفحة وقُسِّم إلى: ملخَّص للتقرير ومقدمة وتسعة فصول. واستغرق إعداده 3 سنوات، وعُنْوِن للتقرير بـ: (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، Building Moderate Muslim Networks، وهو عنوان يحملُ في ثناياه خططاً خطيرة جداً.