منارات عالية في الانتصار للقرآن
من المصطلحات التي أثارت انتباهي وشدتني لأبحث في جذورها ومعانيها مصطلح «الانتصار للقرآن»، وقد وجدت لأول وهلة أن كتابًا كالقرآن الكريم لا بد من أن يواجهه أعداء الإسلام بإثارة الشبهات حوله والسعي للتقليل من تأثيره في نفوس المسلمين ابتداءً ووضع حواجز بينه وبين غير المسلمين، وهو دور اتخذه الأعداء قديمًا وحديثًا وأذكر في هذا الشأن كيف أن كفار قريش بثوا إشاعة قالوا فيها إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) مجنون وساحر، فقلت في نفسي كيف يتفق عند أهل مكة ويصدقون هذه الإشاعة وهو يعيش بين ظهرانيهم أربعين سنة ويعرفون أنه الصادق الأمين وذو الخلق القويم! فسمعت أحد العلماء يشرح ذلك بأن المستهدف من هذه الإشاعة ليس أهل مكة وإنما قبائل العرب حولها الذين يفدون إلى مكة لزيارة الكعبة، وبالفعل وجدنا من العرب من وضع القطن في أذنيه كي لا يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه - وقد كان شاعرًا لبيبًا كثير الترحال والسفر وكان لمكة من ترحاله نصيب، وقد قدمها مرة بعدما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذره أهل مكة من أن يسمع له أو يجالسه، ففكر الطفيل ألا يدخل المسجد ألبتة، ولكنه دخل وقد وضع في أذنه قطنًا حتى لا يسمع ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم حدَّث نفسه أن يسمع، فإن كان ما يقوله خيرًا أخذه عنه وإن كان شرًّا لم ينصت إليه، فوقف الطفيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، فإذا به يسمع كلامًا ليس كسائر الكلام، إنه شيء معجز لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله، ولا يملك من يسمعه بعقل سليم إلا أن يؤمن به، فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قد أبى الله إلا أن يسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق فاعرض عليَّ دينك وما تأمر به وما تنهى عنه، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فقبله وحسن إسلامه.
ومن هنا فإن الانتصار للقرآن له منارات ونماذج رائعة وقد كان أول من ثبته كعنوان لأحد كتبه هو القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (ت: 403هـ) فسماه «الانتصار للقرآن»، قال الباقلاني في قضية الفرق بين جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن وبين جمع عثمان رضي الله عنه:
«لم يقصد عثمان قَصْدَ أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين؛ وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثْبِت مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على ما يأتي بعد».
ويورد الباقلاني أدلة على صحة نقل القرآن وصحة تأليفه وترتيبه فيقول:
«مما يدل على ذلك قول تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر: ٩] وقوله: {إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17]، وقد ثبت بإجماع الأمة - منا ومنهم - أن الله تعالى لم يرد بهاتين الآيتين أنه تعالى يحفظ القرآن على نفسه ولنفسه، وأنه يجمعه لنفسه، وأهل سمواته دون أهل أرضه، وأنه إنما عَنَى بذلك أنه يحفظه على المكلفين للعمل بموجبه، والمصير إلى مقتضاه ومتضمنه، وأنه يجمعه لهم فيكون محفوظًا عندهم، ومجموعًا لهم دونه، ومحروسًا من وجوه الخطأ والغلط والتخليط والإلباس، وإذا كان ذلك كذلك وجب بهاتين الآيتين القطع على صحة مصحف الجماعة، وسلامته من كل فساد ولبس، لأنه لو كان مغيرًا أو مبدلًا أو منقوصًا منه أو مزيدًا فيه، ومرتبًا على غير ما رتبه الله سبحانه لكان غير محفوظ علينا، ولا مجموع لنا، وكيف يسوغ لمسلم أن يقول بتفريق ما ضمن الله جمعه، وتضييع ما أخبر بحفظه».
وانظر اليوم إلى ما يثيره المستشرقون حول الأحرف المقطعة في فواتح بعض السور وأمرها سهل ويسير، وقد كان الزركشي من أوضح العلماء مسلكًا وأنآهم عن التكلف، فتأمل قوله في هذه الأحرف:
«اعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن... وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن حكمة ذلك». وهو ما حاوله الحافظ ابن كثير فهداه الاستقراء إلى أن كل سورة افتتحت بالحروف لا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه.
وقد أشار ابن كثير إلى ملحظ الزمخشري مجيء الفواتح على حرف، واثنين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، كمجيء ألفاظ العرب وأبنيتهم، وانتصر الزمخشري للوجه الذي يربط حروف الفواتح بالإعجاز فقال:
«هذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، إشارة إلى ما ذكرتُ من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم».
وأضاف ابن كثير :
«لهذا، كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته. وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة».
ولهذا يقول تعالى: {الـم 1ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ١، ٢]، {الــم1 اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ 2 نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِّـمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ} [آل عمران: ١ - ٣]، {الـمـص1 كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: ١، ٢]، {الـر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: ١]، {الـم1 تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: ١، ٢]، {حم1 تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: ١، ٢]، {حم 1 عـسـق 2 كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [الشورى: ١ - ٣]، وغيرها.
ومن الطرائف في ذلك أنه نقل عن بعضهم: أن مجموع حروف الفواتح فى القرآن أربعة عشر حرفًا يجمعها قولك: «نص حكيم قاطع له سر»، ولا شك أنه استئناس طريف ولكنه غير مقصود طبعًا.
وهذه منارات وأمثلة رائعة للانتصار للقرآن عسى أن تكون محركًا وباعثًا لنفوس المسلمين عمومًا ولطلبة العلم على وجه الخصوص، وفي هذا السياق ألف الدكتور صلاح الخالدي كتابه «القرآن ونقض مطاعن الرهبان»، وقال فيه: «نقدمُ هذا الكتابَ ليكون خُطوةً نحوَ الأَمامِ في الانتصارِ للقرآن، ومواجهةِ أَعدائِه، ونقضِ مطاعنهم، وإطْلاع القرّاء على نماذجَ من مكائدِ الأَعداء، وتمكينِهم من دَحْضِها».
اللهم اجعلنا ممن ينتصر للقرآن ويهتدي بهداه وثبتنا على ذلك.
:: مجلة البيان العدد 341 مـحـرّم 1437هـ، أكتوبر - نوفمبر 2015م.