دولة كردية على أنقاض سورية والعراق
ينظر الغرب والكيان الصهيوني إلى الأكراد بوصفهم مشروع حليف موثوق في الحرب على
الإرهاب؛ لأن الأكراد مختلفون عن العرب الشيعة الذين لا يخفون ولاءهم لإيران، كما
أنهم على خلاف مع تركيا ومن ثم يصعب احتسابهم على أنقرة، ولا يرحبون بالتنظيمات
العربية السنية المتطرفة منها والمعتدلة، خاصة أنهم يحملون قضية يدافعون عنها بقوة،
وفي الوقت نفسه لا يمكن تشبيههم بأصناف المعارضة المعتدلة التي تختار ولاءها حسب
الزيادة الشهرية للرواتب، بل ثمة سعي كردي لخلق كيان متواصل جغرافياً على امتداد
الحدود التركية، وهو ما تدعمه الإدارة الأمريكية بشكل واضح ولم يعد يخفى على أحد؛
لأن سير الضربات الجوية لقوات التحالف تعزز من ذلك، وهو أمر كان محل اعتراض الرئيس
التركي «أردوغان»، وفي الوقت نفسه لم يثر هذا الوضع حفيظة ما تبقى من النظام
السوري، بل إن بعض السياسيين والإعلاميين المحسوبين على النظام النصيري في دمشق
طالبوا في مناسبات عدة ببناء شريط عازل مع تركيا يتولاه أكراد سورية لتخليصهم مما
يسمونه المؤامرة التركية، فالأخيرة باتت خياراتها تضيق لأن قيام الكيان الكردي على
حدودها مع سورية والعراق من شأنه أن يثير أكراد الداخل.
في هذه الأثناء بدأت طموحات الأكراد أكثر تصاعداً؛ لأن تكوين دولة مستقلة لهم في
المنطقة الواقعة في شمال سورية وشمال العراق أصبح أمراً واقعاً، وهو ما استغلته
إيران أحسن استغلال، وبات واضحاً أنها وضعت على قائمة أولوياتها إنجاز هذا الملف
الذي يؤرق حكامها منذ عقود طويلة؛ لأن العرق الكردي بالأساس يُعد جزءاً من العرقيات
الإيرانية وهي تلك الشعوب التي تتحدث باللغة الإيرانية وتنتشر في أنحاء الهضبة
الإيرانية كافة من «هندوكوش» شرقًا إلى وسط الأناضول غرباً ومن آسيا الوسطى شمالًا
إلى الخليج العربي جنوبًا.
حيث يعد الأكراد أكبر الأقليات التي لا تملك دولة خاصة، أو كياناً سياسياً موحداً
معترفاً به دوليًّا، ويقدر عددهم الإجمالي بحوالي 27 مليون نسمة منهم 56% في تركيا
و16% في إيران و15% في العراق و6% في سورية. والجدير بالذكر أن حوالي 65% من
الأكراد هم من المسلمون السنة.
الدعم الغربي
تعمل قوات التحالف الدولي على تعزيز قيام الدولة الكردية عبر تركيز ضرباتها الجوية
للقوى العربية السنية، وإحلال قوات كردية بديلة عنها، وقد كان التحول المهم حينما
سيطرت القوات الكردية على مدينة « تل أبيض» شمال سورية، في 16 يونيو الماضي، فتلك
المدينة التابعة لمحافظة الرقة السورية، مكنت ما تسمى «وحدات حماية الشعب الكردية»
من السيطرة على منطقة حدودية مهمة مع تركيا، فما كان من القوات الكردية إلا القيام
بحملات تطهير عرقي بحق العرب والتركمان، حيث يؤكد تقرير نشر على موقع فرانس 24، في
17 يونيو الماضي أن 23 ألفاً من العرب السوريين قد عبروا الحدود إلى تركيا تحت
تهديد القوات الكردية التي مارست التطهير العرقي بحقهم، وذلك وفقاً لتصريحات نائب
رئيس الوزراء التركي.
وبذلك تكون القوات الكردية قد سيطرت على 400 كيلو متر من الحدود السورية مع تركيا
باستثناء «معبر جرابلس» بحلب. هذا التحول الكبير دفع تركيا للتحرك من جديد بعد
إفشال مساعيها الدبلوماسية، وذلك عبر إنشاء منطقة عازلة على الحدود مع سورية بطول
90 كم وعمق 50 كم، لكن هذه المرة بموافقة دولية غير مسبوقة مقابل فتح قاعدتها
العسكرية «إنجرليك» لقوات التحالف.
ويأتي هذا التحرك التركي لإبعاد خطر الجماعات المتطرفة على حدودها، وفي الوقت نفسه
تفويت الفرصة على الأكراد لإقامة كيانات موحدة بالقرب من الحدود، مع إيجاد منطقة
تستوعب اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، وربما نقل الحكومة السورية المعارضة
لهذه المنطقة تحت حماية الجيش التركي، يبقى أمراً وارداً.
ولا شك في أن القلق التركي يبقى مبرراً لأن ما ترتب على هذه العمليات العسكرية التي
تخوضها قوات التحالف مكن القوات الكردية من السيطرة على تلك المدن بما يعزز من طموح
الأكراد للإعلان المرتقب عن دولتهم التي باتت قاب قوسين أو أدنى. ولعل المقاربة
الغربية في هذا السياق تهدف إلى الاعتماد على الأكراد بوصفهم حلفاء علمانيين، فتنظر
إلى حزبي الاتحاد الديمقراطي والعمال الكردستاني بوصفهما حليفين حقيقيين، وبالرغم
من أن حزب العمال على لائحة المنظمات الإرهابية الأمريكية، إلا أن ذلك لا يغير
الوضع على الأرض؛ لأن الحزبين هما القوتان العلمانيتان الوحيدتان اللتان يمكن
محاصرة المقاومة السنية في سورية بهما. من جهتها، تؤكد واشنطن التنسيق مع الأكراد
كما أكدت المباحثات المباشرة مع مسؤولين من حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال
الكردستاني لأول مرة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2014.
على الجانب الآخر، وحين يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني، تتصاعد الدعوات في تل أبيب
مجدداً لمساعدة الأكراد في كل من سورية والعراق وتركيا وإيران في إقامة دولة خاصة
بهم، بغرض الإسهام في مراكمة التحديات الأمنية للدول العربية وتركيا من جهة، ومن
جهة أخرى تكون على علاقة تحالف مع الكيان الصهيوني، وقد كان الاستقبال الحافل
للمجندة الصهيونية «جيل روزنبيرغ» العائدة من سورية إلى تل أبيب؛ خير دليل على دور
الكيان في دعم الأكراد وإرسال وحدات قتالية لمشاركتهم حربهم ضد أي قوة عربية، وهو
ما أكدته المجندة سالفة الذكر حينما أكدت لوسائل الإعلام المختلفة انضمامها للقوات
الكردية لمدة ستة أشهر متواصلة في سورية والعراق.
ويسعى الكيان من وراء ذلك إلى تسهيل مهمته والغرب في الاعتماد على دولة كردية
مستقلة وعلمانية لمواجهة القوى الإسلامية السنية «المتطرفة» حسب رؤيتها، ويأتي
الدعم الغربي للأكراد في الشمال الشرقي لسورية في هذا السياق. ووفقاً «لمؤتمر
الاستخبارات والوحدات الخاصة الدولي» الذي عُقد في 3 يوليو الماضي، فإن التقدم الذي
أحرزه الأكراد، يعتبر أهم تطور حدث في سورية في الآونة الأخيرة، لأن القوة الكردية
باتت القوة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها حسب توصيات المؤتمر، وهو ما أكدته
الصحف الإسرائيلية التي ترى في تعزيز علاقات الكيان مع غير العرب والتحالف معهم
فرصة مناسبة لإسرائيل، خاصة أن الموقف الرسمي لكردستان العراق يرحب بعلاقات
استراتيجية مع الكيان الصهيوني.
الدور الإيراني
إذا كانت تركيا تسعى لدمج الأكراد في المجتمع التركي عبر تدشين مصالحة معهم
وإشراكهم بشكل غير مسبوق في الانتخابات البرلمانية، وحصولهم على نسبة جيدة فيها؛
فإن إيران تواصل قمعهم في الداخل والتحالف معهم في العراق وسورية ودفع أكراد الداخل
للهجرة نحو العراق وسورية، وهو ما أكده كثير من الشواهد بعد أحداث «مهاباد» في مايو
الماضي.
استطاعت القوات الكردية في العراق مع نهاية عام 2014، أن تفرض سيطرتها الكاملة على
مدينة كركوك العراقية، تلك المدينة التي لا تقل فيها نسبة السكان العرب عن الأكراد
إلا القليل، حيث تقترب نسبة السكان العرب من 37%، في حين لا تتجاوز نسبة الأكراد
حاجز 40%، وذلك حسب الإحصائيات غير الرسمية.
لم تتوقف الهجمة الكردية في العراق عند هذا الحد، فقد وصل الأمر إلى منعها للسكان
العرب من العودة إلى أماكن سكناهم في بعض المدن العراقية، وهو ما أكدته منظمة
«هيومان رايتس ووتش» في 27 فبراير الماضي، حيث اتهمت قوات البيشمركة الكردية، بمنع
العرب الذين نزحوا جراء المعارك مع تنظيم الدولة، من العودة إلى مدنهم وقراهم في
بعض مناطق العراق التي خرج منها التنظيم المتشدد. وأكدت المنظمة أن قوات البشمركة
تمنع عودة النازحين العرب في المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان والحكومة
المركزية في بغداد.
في المقابل قالت المنظمة سالفة الذكر: إن النازحين الأكراد تمكنوا من العودة إلى
المناطق نفسها، محذرة الحكومة الكردية من فرض «العقاب جماعي» على العرب، الذين وصلت
أعدادهم إلى حوالي 2 مليون وثمانمائة وخمسين نازحاً حسب تقرير المنظمة الدولية
للهجرة الصادر في 12 مايو 2015.
في سياق مختلف لم تستطع القوة التركية الناعمة من استثمار نجاحها الاقتصادي
والثقافي في كردستان العراق، وهو ما مكن إيران من التدخل في مناطق النفوذ التركية،
ونجحت في صياغة علاقات جديدة مع إقليم كردستان وكذلك الأكراد في سورية، حتى عندما
تشتد الأزمات الكردية في الداخل الإيراني ولا سيما أزمة «مهاباد» الأخيرة، كانت
القنوات السرية والدبلوماسية بين إيران وكردستان العراق تعمل في اتجاه حل المشكلة
حتى لو كان على حساب أكراد إيران، فالمعلومات الواردة من بعض المنظمات الكردية تؤكد
استقبال كردستان العراق لعشرات الأكراد الإيرانيين، كما استغلت إيران الأكراد
«الفيليين» وضمت الآلاف منهم لقواتها في العراق وسورية دون أي اعتراض من أكراد
كردستان العراق وأكراد سورية، وهو ما يؤكد مستوى كبيراً من التفاهم والتنسيق بين
الجانبين.
في نهاية الأمر بات واضحاً أن هناك إجماعاً دولياً وموافقة صهيونية واستحساناً
إيرانياً، على تغيير الخريطة السياسية في المنطقة عبر استغلال أجزاء كبيرة من
جغرافية سورية والعراق لإنشاء دولة للأكراد، من شأنها أن تعزل تركيا عن محيطها
العربي والإسلامي، وفي الوقت نفسه ترى إيران أن الفرصة باتت مناسبة لها، للتحرك في
منطقة الشرق الأوسط بموافقة دولية بعد توقيع اتفاقها النووي مع مجموعة الدول 5+1 في
14 يوليو الماضي.
:: مجلة البيان العدد 339 ذو القعدة 1436هـ، أغسطس - سبتمبر 2015م.
::
"البيان"
تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية