• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تدبر القرآن الكريم

تدبر القرآن الكريم

تمهيد في: «فضل القرآن وعظم المنة به على الإنسان»:

إن الكتاب الذي لا ريب فيه، ولا نقص يطرأ عليه ويعتريه، هو القرآن العظيم كتاب الله تعالى، روح الأمة وحياتها، وعزها وهدايتها، ونبراس حضارتها، أحسن الحديث وأطيبه، وأعظمه وأحكمه.

لم يترك صغيرة ولا كبيرة في صلاح الفرد والمجتمع إلا دل عليها، وأرشد الناس إليها، يقول تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، لا يعلو على أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة، يخاطب العقل ويناجي العاطفة، الأمة بدونه أمة هامدة، لا وزن لها ولا حياة ولا كرامة.

أعظم منن الرحمن، وأكبر عطاءاته لبني الإنسان، يقول تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ١٥].

لم يأذن الله بالفرح بشيء مثلما أذن بالفرح بكتابه حيث قال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

إنّه كلامُ الله رب العالمين، أحسن الكتب نظامًا، وأبلغها بيانًا، وأفصحها كلامًا، وأبينها حلالًا وحرامًا، تحدى العظماء وأفحم البلغاء، وأسكت الشعراء، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين.

أعز الله مكانه، ورفع سلطانه، من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين»[1].

 سماه الله روحًا ورحمة وشفاء وهدى ونورًا وفرقانًا وبرهانًا.

 وَكَلَ الله إلى كل أمة حفظ كتابها، أما القرآن العظيم فتكفل الله بحفظه، حيث قال سبحانه: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر: ٩].

تحدى الجن والإنس أن يأتوا بمثله أو بسورة أو بآية من آياته فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالْـجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨].

شد أسماع المشركين إليه، حتى لم يملك زعيمهم أن أعلن إعجابه به قائلًا: «والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة[2]، وإن أسفله لمغدق[3]، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر»!![4]

عجب الجن لسماعه {فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا 1 يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: ١، ٢].

تدبر القرآن الكريم، الضرورة الملحة والمستعجلة لعودة الأمة إلى عزها ومجدها:

ضمن الله ورسوله الهداية والسعادة، والنجاة من الضلالة والشقاوة، لمن تمسك بالقرآن والسنة فقال تعالى: {فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى} [طه: 123]، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي»[5].

ومن ثم فلا سبيل إلى الهداية والسعادة بالقرآن الكريم إلا بفهمه، ولا سبيل إلى فهمه إلا بتلاوته وتدبره، يقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].

تدبر القرآن الكريم غاية من غايات إنزاله التي قال الله عنها: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].

مدح الله تعالى المتدبرين لكتابه، فقال: {وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، وذم من لا يتدبرونه فقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

المقصود بتدبر القرآن الكريم:

تدبر القرآن الكريم: هو التأمل لآياته، والتفاعل معها بقصد العظة والادكار، والطاعة والامتثال.

تدبر القرآن الكريم: أن يقرأ المسلم الآية من كتاب الله، فينظر إلى موقعها من نفسه، وآثارها على عمله وقلبه[6].

هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلاوة القرآن الكريم وتدبره:

إن من يتدبر القرآن الكريم حق تدبره، لا تكاد آية منه تسلمه إلى أخرى، من عظيم ما يستشعر فيها من عظمة الله، وعظيم ما يبصر في نفسه من التقصير في حق الله.

فلا عجب أن قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بآيةٍ واحدة يرددها، يردد قول الله تعالى: {إن تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [المائدة: 118].

وعلى هذا النهج القويم في تلاوة القرآن الكريم وتدبره ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، إذ خاطبهم يومًا فقال: «ما لي أراكم سكوتًا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردًا[7]. ما قرأت عليهم من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.

سبب قلة انتفاعنا اليوم بالقرآن الكريم:

إنه ما قل انتفاعنا اليوم بالقرآن الكريم إلا لأننا نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك حقائقها، وكأن أمرها لا يعنينا، وكأن خطابها لا يناجينا.

 نمر على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل {لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. فلا ترق قلوبنا، ولا تخشع نفوسنا، ولا تدمع عيوننا.

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْـحَقِّ...} [الحديد: 16].

بعض ثمار تدبر القرآن الكريم وفوائده:

من تدبر القرآن الكريم حق تدبره: اقشعر جلده من خشية الله، خوفًا من سخطه وعقابه، ثم لان واستكان لذكر الله، طمعًا في مغفرته وثوابه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْـحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].

من تدبر القرآن الكريم حق تدبره: ازداد إيمانه، وقوي توكله على الله ويقينه {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: ٢].

من تدبر القرآن الكريم حق تدبره: حيي قلبه واستنار فؤاده، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].

من تدبر القرآن الكريم حق تدبره: طاب قلبه وقالبه، واستقامت سريرته وعلانيته، ففي الحديث: «مثل الذي يقرأ القرآن: كالأترجة طعمها طيب، وريحها طيب»[8].

من تدبر القرآن الكريم حق تدبره: بكى من خشية الله، وخر ساجدًا لعظمة الله.

{وَإذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].

{قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا 107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَـمَفْعُولًا 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 1٠7-1٠9].

 ألا إنه لا سعادة لنا إلا بالقرآن، ولا فلاح لنا إلا بالقرآن، ولا عز لنا إلا بالقرآن، ولا فوز في الدنيا والآخرة إلا بالعودة إلى القرآن.

 يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا صلى الله عليه وسلم174 فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 1٧4-1٧5].

فلنجتهد في تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ولنجاهد النفس على امتثال أمره واجتناب نهيه، فذلكم الفلاح والفوز والنجاح.

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وسائقنا وقائدنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.

اللهم ذكرنا من القرآن ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا.

اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه.

 

:: مجلة البيان العدد  333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.


[1] صحيح مسلم رقم 817.

[2] الطلاوة: الرونق والحسن الفائق.

[3] المغدق: كثير الماء.

[4] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (المتوفى: 544هـ) ج/506-507. دار الفيحاء - عمان، الطبعة الثانية 1407هـ . 

[5] موطأ الإمام مالك مرسلًا، رواية أبي مصعب الزهري، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر 2/899 رقم 03. والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، كتاب العلم 1/172 رقم 319.

[6] مجالس القرآن، فريد الأنصاري. ص7، دار السلام، الطبعة الأولى 1430هـ/ 2009م.

[7] سنن الترمذي بنحوه، رقم 3291 وحسنه الألباني. 

[8] صحيح البخاري، رقم 5020.

أعلى