العمل الإسلامي ونزاع النخبة
إن الناظر اليوم إلى حجم ونوعية المخاطر المحدقة بجماعات العمل الإسلامي ليدرك حساسية المرحلة وما قد تنتجه من إفرازات خطرة ستنعكس على واقع تلك الجماعات خلال العقود القريبة القادمة.
تلك الإفرازات قد تؤدي إلى أفول جماعات وبزوغ أخرى وانحراف جماعات وثبات أخرى، وليس القصد هنا أن تلك الإفرازات ناتجة عن مؤامرات خصوم العمل الإسلامي، لا.. فأمرهم يسير وخطرهم يتلاشى إن عملت تلك الجماعات على مواجهتهم وفق السنن الشرعية والقدرية، وإن كان للتآمر الخارجي انعكاساته على داخل تلك الجماعات بلا شك.
القصد هنا أن من أعظم المخاطر التي ستؤثر على المستقبل المنهجي والحركي لتلك الجماعات هي المخاطر الداخلية التي تنهش في منهجها وتفت في حركتها وتعمل على إشغالها بنفسها شاغلة لها عن مشروعها.
ومن المؤسف أن الخلاف بين نخبة العمل الإسلامي صرنا نسمع عنه أحيانًا ما يوحي بعدم انضباط تلك النخبة في خلافها حقيقة بمصالح المشروع الإسلامي، بل هو محكوم أحيانًا بحظوظ النفس والإمعية وبالأهواء، ومن المؤسف أيضًا أن يتم تحويل النزاع والخلاف عن مسماه الحقيقي فيصبغ على أنه خلاف شرعي وهو في حقيقته خلاف هوى إذا دخل «أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور، بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها»[1].
إن الخلاف المنهجي والحركي الذي يضرب بمعوله في قيادات العمل الإسلامي ونخبه، مع ما يشوبه أحيانًا من صراع على القيادة وتعصب للرأي ومشاغبة معيبة في إثبات الذات والرأي، هو بحد ذاته سبب وجيه يؤدي إلى تآكل تلك المجموعات والجماعات وتقليل إنتاجيتها وإضعاف فعلها الحركي والمنهجي، إن التنازع الداخلي واضطراب صف النخبة الموجهة، هو بمثابة المنصة التي تقلع منها تلك المصارع والمخاطر والتشققات الأفقية والعمودية في جسم تلك الجماعات، ولهذا حذر القرآن أيما تحذير من التنازع لأنه طريق نهايته إلى الفشل والتصدع والسقوط {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
ومما يجب مجاهدة النفس عليه وتنمية الوعي بمخاطره لدى تلك النخب العاملة خاصة وقواعدها عامة أن تعمل بجد على تقليل أسباب النزاع وعوامل الشقاق، عبر توطيد العلاقة الإيمانية والأخوية بينها والتخلق بصفات العفو والتسامح والتطاوع، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما حين بعثهم إلى اليمن فقال: «تطاوعا ولا تختلفا»، إنها وصية تعني التحاور والتقارُب والتفاهم والتساهل والتفاؤل والتسامح والتغافل والتغاضِي والتغافر، ونحو ذلك من الأخلاق الإسلامية الحسنة المريحة المسعدة التي تحقق أكمل التجانس والانصهار والحب والتعاون والسلاسة والأمل والإيجابية.
وإذا استعرضنا أبرز الأسباب المولدة للتنازع في صفوف النخبة الإسلامية لأدركنا جانبًا من هذا الخطر الداخلي المحدق والذي بدأ يتنامى ويشكل شروخًا قد تتسع إن ترك دون معالجات عميقة خاصة مع تزايد المؤثرات الخارجية على الفعل المنهجي والحركي لتلك الجماعات.
من تلك الأسباب: أن يقدم للقيادة في تلك الجماعات أفراد ذوي نفسيات مضطربة ومتقلبة وإن كانوا يتمتعون بوعي نظري غير أنهم لا يستطيعون التعاطي مع الأحداث والمشكلات باتزان ووعي وإدراك لعواقب الأمور، ومع ذلك فهم يقدمون على توصيف الواقع على ضعفهم فيقعون في مخالفات منهجية معيبة ومخيفة، وإن وجد من هذا الصنف أعداد في القيادة فقد يشكلون جماعات ضغط خطيرة تغلب جهودها أهل المعرفة والنظر بأمور الشرع والواقع في تلك الجماعة، وعليه فإن المشكلات الداخلية ستتفاقم وتآكلها الداخلي واقع لا محالة.
ومن الأسباب: تغييب النخبة المسيطرة للنخب الأخرى داخل الجماعة الواحدة، وهو ما يتسبب في تنامي ظاهرة التململ وبوادر عزوف الكوادر النخبوية عن العمل لدى تلك الجماعة، وقد يصل لخروج مجموعات منها وعدم قبولها بالعمل مع نخبة حاكمة لا تولي أي اعتبار لها، وليس لحل هذه المشكلة سوى فتح قنوات الاتصال المباشر ما بين صناع القرار وتلك المجموعات وتعميق الممارسة الشورية على كل المستويات داخل الجماعة.
ومن الأسباب: عدم الاقتناع العام بالقيادة الحالية من قبل قواعدها، وهذا يعطل الإنتاجية لدى تلك الجماعات ويجعلها بيئة طاردة للكوادر المتميزة؛ عدم الاقتناع قد يكون بسبب ضعف الوعي الحركي والمنهجي لدى تلك القيادة، وقد يكون بسبب أن الواقع بتحدياته قد تجاوز القدرات الفكرية والحركية لتلك القيادة، وهنا يأتي التنازع والاختلاف ويكثر الجدل ويقل العمل.
ومن الأسباب: تسنم كبار السن في تلك الجماعات للمهام التنفيذية أو تأثيرهم عليها بشكل سلبي، إذ إن الواقع الحركي عمومًا يتطلب نشاطًا كبيرًا وجهدًا مضاعفًا خاصة في بيئة متغيرة باستمرار، كما يتطلب وعيًا «عمليًا» شاملًا بمهارات إدارية وإعلامية واجتماعية كبيرة، فخاصية الحركة والنشاط والعمل الدؤوب ضعيفة في تلك القيادات التي تمتلك الخبرة ولا تمتلك الحركة الكافية، وتجنب هذا السبب يكون بتأهيل تلك القيادات العتيقة لشباب «الزمن الجديد» ممن يتوسم فيهم القدرة الذهنية والحركية والمنهجية للقيادة.
ومن الأسباب: التمويل المشروط والذي يقدم أولويات الممول على أولويات مشروع الجماعة، وقد يتم تطويع مشروع الجماعة برمته ليتقاصر إلى رغبة الممول ومشروعه ونظرته الفردية التي قد تكون قاصرة ومحدودة، وهذا يشكل إزعاجًا متكررًا ودائمًا لمؤسسات العمل الإسلامي، والظاهر أن تلك الجماعات للأسف لم تتبنَ سياسات أو معالجات جادة لهذا الأمر، وعلاقة هذا بالنزاع هو كونه مولداً للاختلاف بين النخبة بسبب ما يوجده من قضايا واهتمامات وتحولات قد لا تكون محل اتفاق بين تلك النخبة.
ومن الأسباب: قلة الصبر وضيق النفس وتحويل كل خلاف إلى نزاع، وضعف مهارات إدارة الخلاف والحوار، ومع الضعف الشديد في مهارات تدبير الخلاف «تولَّى الحقُّ - سبحانه - وضْعَ منهجية عملية في التعامل مع المخالف، فقال سبحانه: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 325]»[2].
ومن الأسباب: غياب القائد الملهم الذي يرد إليه الأمر حين النزاع والخلاف، ونظر النخبة لبعضهم البعض على أنهم قرناء متنافسون متساوون في الأهلية والقدرة، وهذا يولد صراعًا على النفوذ والقرار والسلطة.
تلك أسباب مجملة وعامة تتضمن الإشارة إلى تفاصيل تدركها نخبة العمل الإسلامي بجميع مستوياتها، وهذه الأسباب هي مولدات لمشكلة نزاع النخبة التي أعتبرها أم المشكلات والبلايا؛ إذ أسهمت بشكل كبير في تراجع العمل الإسلامي وضعفه وتأزيمه.
وفي الختام: فإن العمل على تقليل أسباب النزاع والتفرغ لبناء الصف الإسلامي وتشييده وتأهيله وترميمه واجب الوقت والساعة، وبه يصل المشروع الإسلامي إلى ربيعه ومبتغاه، وإنه لمن المعلوم أن ما يفعله الخطر الداخلي ومشكلات الصف الإسلامي أعظم بكثير من المخاطر الخارجية التي يتولى كبرها قياصرة الاستبداد العالمي ضد جماعات العمل الإسلامي ولنا في غزوة أحد أكبر دليل وأعظم درس على خطورة هذا الأمر، فحين اختلف الرماة وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انكسروا بعد نصر محقق كادوا أن يقطفوا ثمرته لولا ذلك النزاع والتساهل في التزام أمر القيادة النبوية الشريفة.
:: مجلة البيان العدد 333 جمادى الأولى 1436هـ، فبراير - مارس 2015م.
[1] الموافقات للشاطبي.
[2] مقال الأستاذ إدريس زايدي في تدبير الخلاف بين العلماء على الشبكة.