ميزان الفتنة
تأتي الفتنة في ميزان الكتاب والسنة لعدة
معانٍ، من أهمها ما يلي:
1 – الفتنة بمعنى الامتحان والاختبار:
ومنه قوله تعالى: {آلـم
1 أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ 2
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:
١-٣].
ومنها فتنة النساء التي قال الرسول صلى الله
عليه وسلم عنها: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء»[1].
ومنها فتنة الدنيا ومناصبها وجاهها وزخرفها.
ومنها فتنة الدخول على السلاطين.
ومن ذلك الفتنة بالمصائب والمكاره؛ كما قال
تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْـمَوْتِ
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
[الأنبياء: 35].
2- الفتنة بمعنى الشرك والكفر:
ومنه قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإنِ انتَهَوْا
فَإنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
[الأنفال: 39]، وقوله عزَّوجلَّ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ
مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى
يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الْكَافِرِينَ} [البقرة: ١٩١].
3- الفتنة بمعنى الأذى والعذاب:
ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13]، وكذلك
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا
بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ
وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ
لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}
[العنكبوت: 10].
4- الفتنة بمعنى الاقتتال والاختلاف بين الناس:
وهذا كثير في تحذيرات الرسول صلى الله
عليه وسلم وكلام السلف، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإني لأرى الفتن خلال
بيوتكم»[2]،
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتنٌ؛ القاعد فيها خير من القائم، والقائم
فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي...»[3].
5- الفتنة بمعنى الإثم والضلال:
ومنه قوله تعالى: {مَا
أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ 162 إلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْـجَحِيمِ} [الصافات:
162، 163]، وقوله سبحانه: {وَمِنْهُم مَّن
يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ
جَهَنَّمَ لَـمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:
49].
ويقول الأزهري في تهذيب اللغة: «وجماع الفتنة
في الابتلاء والامتحان»[4].
ولو تأملنا أنواع الفتن السابق ذكرها
لرأيناها إما أن تكون سبباً في وقوع الإثم فهذا فتنة، أو هي الإثم نفسه، وهذا
أيضاً فتنة، أو هي ما يترتب على الوقوع في الإثم وهو العذاب في الدنيا والآخرة
وهذه فتنة أيضاً[5].
ونستطيع القول إن الميزان الإلهي للفتنة هو
حسب معانيها السابقة، والموقف منها هو المقت لها والتحذير منها.
والفتنة - إذن - هي كل ما من شأنه أن يكون
وسيلة للوقوع في الإثم الذي يترتب عليه عذاب الله عز وجل: إما بترك واجب، أو فعل
محرم من الشرك وما دونه، أو هي الإثم نفسه، أو العذاب المترتب عليه.
وسواء كان هذا السبب دنيا مغرية، أو نساء
وأولاداً، أو أذى من الناس وعذاباً، أو اختلافاً وتفرقاً، أو شبهات وأفكاراً، أو
مصيبة ومكروهاً؛ فكل ما كان سبباً في ترك طاعة الله عز وجل أو فعل محرم يؤدي إلى
عذاب الله تعالى فهو فتنة يجب الحذر منها. وقد تكون الفتنة عظيمة؛ كالتي توقع في
الكفر والكبائر، وقد تكون دون ذلك.
موازين البشر المعوجة للفتنة:
تتسم هذه الموازين بالتلبيس في أمر الفتنة،
بحيث يتورط أصحاب هذه الموازين في الفتن التي حذر الله عز وجل ورسوله صلى الله
عليه وسلم منها، أو ما يترتب عليها من إثم وعقوبة، وبدلاً من اعتراف أصحابها
بالوقوع فيها، وبذل السبب في النجاة منها؛ فإن أصحاب هذه الموازين يحاولون تأصيل
مواقفهم بشبه شرعية يبررون بها شرعية أفعالهم، ويظهرون ذلك بأنه فرار من الفتنة،
أو مواجهة وإخماد لها، أو منعٌ من ظهورها.
أخرج البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما
-: «أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر وصاحب
النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أن الله حرم دم أخي
المسلم. فقالا: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:
39] قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا
حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله»[6].
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي ظبيان قال: «جاء
رجل إلى سعد فقال له: ألا تخرج تقاتل مع الناس حتى لا تكون فتنة؟ فقال سعد: قد
قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تكن فتنة، فأمَّا أنت وذا البطين
تريدون أن أقاتل حتى تكون فتنة»[7].
والأمثلة التالية توضح الخلل في موازين
الفتنة عند بعض الطوائف:
المثال الأول والثاني:
مثالان من فرقتين ضالتين في هذه
الأمة: إحداهما تركت واجباً شرعياً وشعيرة عظيمة - ألا وهي شعيرة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والجهاد - خوف الفتنة بزعمهم؛ وهؤلاء هم المرجئة وأهل الفجور.
والأخرى ارتكبت محرماً كبيراً بخروجها على الأمة بالسيف - حتى لا تكون فتنة بترك
الأمر والنهي بزعمهم - وهؤلاء هم الخوارج ومن شابههم من المعتزلة ونحوهم.
ومن أحسن ما جاء في وصف هاتين الطائفتين
وتفنيد موازينهم المعوجة للفتنة ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى
- عنهم، حيث يقول: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر
بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة؛ فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة
والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم
ظلماً، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون
أولئك»[8].
ويقول في موطن آخر مبيناً أن لزوم جماعة
المسلمين ودرء الفتنة لا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك قول كلمة
الحق: «ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة،
والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان. كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة
وإجماع الأمة.
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في
ذلك، فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة، فإما أن يؤمر بهما جميعاً، أو يُنهى
عنهما جميعاً، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة؛ كما قال تعالى: {يَا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
[لقمان: 17].
وقال عبادة رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة
علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا، ولا نخاف في
الله لومة لائم»[9].
فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق.
ولأجل ما يُظن من تعارض هذين تَعْرِض الحيرة
في ذلك لطوائف من الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتميز المفعول من
المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه، أو لخفاء ما يناسب هواه عليه»[10].
وإن مما يشبه موازين أهل الإرجاء والفجور
للفتنة: ما يرفع اليوم في وجه بعض الدعاة المصلحين الآمرين والناهين في أكثر بلدان
المسلمين من تهم باطلة وإشاعات كاذبة تصفهم بالخوارج تارة، وإثارة الفتن وزعزعة
الأمن تارة، وبالابتداع تارة؛ وكون هذه التهم تصدر من دعاة العلمانية والفساد فهذا
أمر متوقع وغير مستغرب، لكن أن يصدر هذا من بعض المتحمسين للعلم والدعوة فإن هذا
من العجائب، والعجائبُ جمة!
إن قومة لله - عز وجل - صادقة مخلصة بعيدة
عن التعصب والحزبية والغوغائية لتقود صاحبها إلى صدق الدعاة المصلحين وصحة
معتقدهم، وأنهم خائفون على أمتهم، ومشفقون عليها من عذاب الله عز وجل، وليسوا دعاة
خروج ولا فرقة ولا فتنة.
بل الفتنة، والله، في ترك الدعوة والأمر
والنهي، وإسلام الأمة لأهل الشر والفساد ليفسدوا دينها ودماءها وعقولها وأموالها
وأعراضها؛ فأي الفريقين أحق بالفتنة وزعزعة أمن الأمة؟ آلذين يواجهون الفساد
والمفسدين لتأمن الأمة على دينها وأعراضها وأموالها، أم الذين يسعون في زعزعة
أمنها في هذه الضروريات التي هي أساس حياتها وبقائها؟ {الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم
مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
فبالله: أين الفتنة والخروج فيمن يحذر الأمة
من الشرك وآثاره؟ وأين الفتنة فيمن يحذر الأمة من هبوطها في وحل الرذيلة بما تبثه
وسائل الإعلام والبث المباشر من قتل للأخلاق وتحريض على الفساد، وإغراء المرأة على
السفور والعري وهجر بيتها وعشها واختلاطها بالرجال؟ أين الفتنة فيمن يحذر الناس من
الربا والبيوع المحرمة؟ أين الفتنة فيمن يحذر الناس من محبة الكافر وموالاة أعداء
الله عز وجل؟ إن الفتنة في ترك الناس على هذه المفاسد وغيرها لا يؤمرون ولا
يُنهون.
وإن وصف الآمرين والناهين بالخروج على جماعة
المسلمين مع براءتهم من ذلك هو في الحقيقة فتنة كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام - رحمه
الله تعالى - في النقل السابق.
المثال الثالث: تغليب منهج السلامة:
إن من الموازين المختلة للفتنة موازين
من يؤثر الراحة، ويغلب السلامة على الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله
سبحانه؛ وذلك لما فيها من المشاق والأذى على النفس، ويرى أن ذلك من الفتن التي يجب
التحرُّز منها، ويرى الاقتصار في الدعوة على ما لا يجلب على النفس الأذى والمصائب.
وهذا خلل في ميزان الفتنة، وقلة فهم لسنن
الله عز وجل في الابتلاء والتمحيص؛ قال الله عز وجل عن نصيحة لقمان لابنه: {يَا
بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
[لقمان: 17]، وقال عن سنة الابتلاء التي لا تتبدل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31].
وقال سبحانه عن سنته مع أنبيائه - عليهم
الصلاة والسلام - مذكراً بهذه السنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ
نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ
الْـمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].
وشنَّع على الذين لا يثبتون عند الأذى في
سبيل الله عز وجل فينكصون ويزيغون عند تعرضهم لأذى الناس: {وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ
لَيَقُولُنَّ إنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي
صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10].
وفضح الله عز وجل المنافقين الذين احتجوا
لترك الجهاد في سبيل الله عز وجل بخوفهم من التعرض للفتنة، فقال: {وَمِنْهُم
مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ
جَهَنَّمَ لَـمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]،
فأخبر سبحانه أن الفتنة الحقيقية التي سقطوا فيها هي تركهم للجهاد، وليست التي
أظهروا خوفهم منها.
وفضح سبحانه أولئك الأعراب، الذين ربطوا
دخولهم في الإسلام وبقاءهم فيه بتحسن أمورهم المعيشية ونماء أولادهم وأموالهم،
فإذا لم يحصل لهم شيء من ذلك وحصل لهم شيء من البلاء تركوا الدين وارتدوا على
أعقابهم؛ قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ
عَلَى حَرْفٍ فَإنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ
انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ
الْـمُبِينُ} [الحج: ١١].
والمقصود أن من ينظر إلى الابتلاء والعقبات
التي تواجه الداعية في طريقه بأنها من الفتن التي يجب أن تتجنب هو في الحقيقة غالط
في ميزانه للفتنة جاهل بسنن الله عز وجل؛ لأن الفتنة في الحقيقة هي ترك الدعوة
والأمر والنهي، وعدم مدافعة الفساد وأهله.
وعن الفرق بين سلامة المنهج ومنهج السلامة
يحدثنا الدكتور عبدالعزيز كامل فيقول: «دعونا نسأل بصراحة: هل
يمكن أن توجد دعوة صحيحة وسليمة تبتغي العمل للإسلام ونصرته ونشره وهي مع ذلك لا
تضحي، ولا تنتظر أن تبتلى، أو تواجه الشدائد والمحن، أو تدخل في صراعات مع الباطل؟
نجيب من خلال نقطتين:
الأولى:
سنن الله الكونية:
إن الصـراع بين الحق والباطل قائم
دائماً، موجود ما وجدت البشرية؛ قال تعالى: {وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ 118 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْـجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118،
119] ،
فهــو إذنْ سنة الله في خلقه ليميز الخبيث من الطيب، والصادق من المدعي؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ٣]،
وقال: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن
سُلْطَانٍ إلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي
شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21]،
وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَن
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإن كَانَتْ لَكَبِيرَةً
إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ
إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 143].
الثانية:
دراسة تاريخ الدعوات عبر العصور:
لقد فهم حملة الدعوات والرسالات أن طريق
الجنة محفوف بالمكاره، ومن ثم فإن الطريق إلى نصرة الدين لا يعبر بدون تضحيات،
فهموا هذه الحقيقة القرآنية من قوله تعالى: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: ٢]. وهاكم
بعض النماذج من الدعوات عبر التاريخ:
• أبو الأنبياء وخليل الرحمن إبراهيم عليه
السلام في دعوته لقومه: لماذا صدع بدعوته في وجه
الباطل معرضاً نفسه - وهو لم يزل في سن الشباب - إلى
مخاطر الصدام مع قوم شداد أقوياء ظالمين من المشركين الذين منهم أبوه وأهله
وقبيلته؟ لماذا فاصل الباطل معلناً البراءة منه، ومن أتباعه؟ ألم يكن أمامه طريق
أخرى يمضي فيها بدعوته حفاظاً على شبابه، وأتباعه ومصلحة دعوته؟ لماذا لم يكتفِ
بذم الأصنام وسبها، أو وعظ عابديها وإقناعهم حتى يهدموها بأنفسهم؟ لماذا لم يختر
الطريق الأسلم، ويبقَ مقيماً بين أهله دون أن يضطر إلى قطع الصحارى والقفار
مهاجراً من العراق إلى الشام؟ إن إبراهيم عليه السلام اختار المنهج الصحيح ثم
تحمَّل تبعاته، ولهذا انتصرت دعوته وبقي في العالمين ذكره؛ قال تعالى: {إنَّ
إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْـمُشْرِكِينَ 120 شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ
وَهَدَاهُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120،
١٢١]،
إنه سلك الطريق المستقيم ولم يكتف بالطريق الآمن.
• وهذا موسى عليه السلام يقوم في قومه بالدعوة
إلى الله، ومع ذلك يسلك طريقاً مملوءاً بالصراعات مع طغاة الأرض: فرعون
وهامان، ويصدع بالحق في كل مكان، ويتحدى ويقبل التحدي، ويصبر على المكاره ويُصبِّر
أتباعه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا
بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]،
ويمضي في طريق المواجهة مع الكفر، فإذا ما هلك فرعون وجنوده، استعد لمرحلة أخرى: {يَا
قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْـمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا
تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
• ولقد امتثل قدوة الداعين وإمام المجاهدين
محمد صلى الله عليه وسلم للأمر، واهتدى بهدي
الأنبياء قبله، فأمضى عمره في بذل دائم، وجهد وجهاد لنصرة دعوة الإسلام، حتى
تنزَّل الوحي يبشره بثمرة جهده في آخر عمره؛ قال تعالى: {إذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: ١]،
ألا نستطيع القول إن النصر لهذه الأمة ولهذه الدعوة عبر التاريخ لم يتم إلا بعد
سلوك طريق شاق محفوف بالمكاره، كله بذل وتضحية؟ بديهي أن نجيب بنعم، وإذا عبرنا
تاريخ دعوات الأنبياء لننظر في سير أتباع الأنبياء - وأفضلهم
صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم - فإننا سنرى عجباً:
- أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرسل منادياً
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوم ليتم بعث أسامة،
وينفذ الجيش الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه
ليبدأ ملاحم الإسلام الكبرى ضد مشركي الروم بعد إنهاء المعركة ضد مشركي العرب، ثم
يستعد أبو بكر في الوقت نفسه لدخول حرب مريرة على مستوى الجزيرة ليرد من ارتد،
ويؤدب من ظن أن دعوة التوحيد كلأ مباحٌ لكل مستهتر عابث.. لم
يكن أبو بكر الصديق هياباً من النتائج، ولا وقافاً أمام المصاعب، لم يشأ أن يستمع
إلى نصيحة من أشاروا عليه بالانحناء للعاصفة حتى تمر، لكنه عصف بالعاصفة، ثم انطلق
يجهز الطلائع لفتح بيت المقدس وإعادة مسجده إلى كنف التوحيد، لقد كان طريقاً صعباً
لكنه سهَّل المهمات على من جاؤوا بعده.
- أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يكن
أسهل مراساً من سلفه الجاد المجاهد، لم يقل دعنا نرتب أوراقنا داخل الجزيرة أولاً،
أو ننكفي على بناء الذات والحفاظ على المنجزات، لا.. لقد
سيَّر الجيوش شرقاً وغرباً، ليحضر لأكبر معركتين ضاربتين يكسر بإحداهما قرون
الأكاسرة، وبالثانية يزلزل عروش القياصرة. وقد
كان له ما أراد بمعونة الله، فانطفأت نيران فارس، وانكسرت صلبان الروم في أرض
الشام، وتم تطهير المسرى الشريف من شرك الرومان؛ ولم تكن تلكم الخدمة العظيمة
لدعوة الإسلام لتتم دون فداء ودماء وشهداء.
وإذا قال قائل: تذكرون
الأنبياء وهم لا يخطون خطوة إلا بوحي، وتذكرون الصحابة وهم خير القرون حكاماً
ومحكومين، فأين نحن في زمن الأزمات من أيام العز والتمكين تلك؟ أقول: سأضرب
أمثلة أخرى من أزمنة مختلفة كانت الأمة تعاني فيها أيضاً كزماننا هذا:
- هل ننسى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه
الله تعالى - أيام المغول والتتار؛ حيث استفاضت في
العالمين سيرته الجهادية إلى جانب حياته العلمية والدعوية العامرة؟ لقد عاش زمن
أزمة مستحكمة لا في بلاده - الشام - فقط،
بل عمَّت العالم الإسلامي بأسره، ولم يكن استيلاء التتار على ذلك العالم في أوضاع
صحية أو ظروف سوية في الأمة، بل كان الضعف والتمزق والشتات مستشرياً في جنباتها،
بدليل أنه لم يصمد شعب في أرض أمام الاجتياح التتري.. لم
يؤثر ابن تيمية السلامة والبقاء بعيداً عن المخاطر، لم يتذرع بالأعذار التي يلقيها
مشايخ اليوم.. لم يقل: دع
الخلق للخالق، فأنا رجل علم لا رجل جهاد، وكان يمكنه أن يقول: إن
الزمان زمان فتنة، والتتار الكفار قد استولوا على كل الديار، وما باليد حيلة،
أنخالف الأقدار؟ أم نصلح الكون؟ لم يقل: إن الأمة تستحق ما يحدث
لها لتفرقها فدعوها تتعلم! لم يقل: إن
الله يعاقب الناس بتسليط حكام الجور والكفر عليهم وكما تكونوا يُولَّ عليكم.. لم
يقل: ضاع
العلم وضاعت التربية، والآن يجب أن ننشغل بنشر بعض العلم، ونتربى على بعض أنواع
التربية التي لا تشكل خطراً على أعداء الله التتار أو الصليبيين أو المرتدين.. لم
يقل: هذا
الجيل جيل تافه لا علم عنده.. لم يقل: ما
لنا وللسياسة التي تفسد الدنيا، أقبلوا على شأنكم معاشر طلاب العلم، فمن الكياسة
ترك السياسة لأهل النجاسة.. لم يقل: إن
العزلة واجبة لفساد الزمان، ولا حل إلا بمجيء المهدي.. لم
يقل: شغر
الزمان عن خليفة ولا جهاد إلا بخليفة.. لم يقل: سقطت
الدولة الشرعية والرسول صلى الله عليه وسلم لم
يبدأ الجهاد إلا بعد إقامة الدولة، لم يقل: نتغلغل
في أوساط التتار ونلتحق ببعض المراكز لنحقق من خلالها بعض المصالح وندرأ بعض
المفاسد.. لم يقل: كيف
نقاتل التتار وفيهم من يعلن الإسلام ويصوم ويصلي، وهو وإن كان يتحاكم إلى الياسق،
ويحارب دونه ويحميه، ولكنه موحد يقول لا إله إلا الله ودمه حرام.. لم
يقل: نحن
أمة دعوة فلندع الكفار، ولا نتكلم بفضح من له شوكة أو قدرة على أذيتنا، إنما نتكلم
عن الكفار البعيدين أو السابقين.. لم يقل: دار
الزمان كهيئته يوم كان المسلمون مستضعفين في مكة، فنحن مستضعفون والتكاليف ساقطة
عنا لنصرة الدين وأهله.. لم يقل: لا
قدرة لنا على مواجهتهم، فعلينا بالمسايرة والمداهنة والتنازل عن بعض ثوابت الدين؛
كالكفر بالطاغوت، أو الولاء والبراء، أو إثبات الحاكمية المطلقة لله وحده، وعدم
الإقرار بأي حكم غير حكم الله.
إن شيح الإسلام ابن تيمية وأتباعه الصالحين
لم يقولوا شيئاً من هذا، ولكنهم حملوا أعباء الدعوة كاملة، وكانت دعوتهم نبراساً
لكل العاملين الصادقين؛ يضيء الطريق أمام الباحثين عن سلامة المنهج لا منهج
السلامة.
وهذا إمام دعوة التوحيد في جزيرة العرب في
العصور الأخيرة: الإمام محمد ابن عبدالوهاب - رحمه
الله -: هل اكتفى بنصرة هذه الدعوة بمؤلفاته
ومناظراته ودروسه فقط؟ أم أنه قاد دعوة لها أبعادها البارزة على المحاور العلمية
والسياسية والجهادية؟ ألم تكن للشيخ وإخوانه معارك لنصرة الدعوة ضد من يراهم أعداء
لدعوة التوحيد الخالص من أهل الجزيرة وغيرهم؟ هل كان لهذه الحركة أن تعطي هذه
الثمار والآثار لو اكتفت بالجوانب العلمية الوعظية، أو التأليفية والتنظيرية مهما
كانت نقية وصافية؟
إني أدعو إلى إعادة النظر
في مفهوم نصرة الدين، ثم إعادة النظر في برامج التحرك من أجل تلك النصرة بشكل
متوازن وصادق مع الله ثم مع النفس، لأن الله عز وجل قال عن أقوام ادَّعوا الصدق في
نصرة الدين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْـخُرُوجَ لأَعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ
اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، إننا في حاجة أن نطالب
أنفسنا - دعاة وطلبة علم، ومنتمين إلى هذا الدين حقيقة - أن نعيد قراءة تلك الفصول
من تاريخ الدعوة، ثم نقيس عليها مناهجنا لنرى الفرق بيننا وبينهم، فالسلف وأتباعهم
كانوا كثيراً ما يقولون: لا نعدل بالسلامة شيئاً. ولكن مفهوم السلامة عندهم كان
يعني نجاة الآخرة، أما عند كثير من المشايخ والجماعات والجمعيات الإسلامية اليوم،
فهو نجاة الدنيا، وسلامة المرتب والوظيفة والمنصب والجاه والمال والمركز والجسد، ولذلك
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن معنى الوهن الذي يتسبب في غثائية
الأمة، قال: «حب الدنيا وكراهية الموت»[11]، وفي رواية صحيحة أخرى:
«حب الدنيا وكراهية القتال»[12]. وحب الدنيا هو أول فصول
منهج السلامة، نسأل الله العفو والعافية[13].
:: مجلة البيان العدد 331 ربيع الأول 1436هـ، يناير
2015م.
[1] البخاري (5096)، مسلم (2740).
[2] البخاري (7060)، ومسلم (2885).
[3] البخاري (3602)، ومسلم (2886).
[4] تهذيب اللغة 14/299.
[5] يرجع لمعرفة أنواع الفتن إلى كتاب:
«ففروا إلى الله»، للمؤلف.
[6] البخاري (4515).
[7] تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم،
سورة الأنفال، الآية 39.
[8] الآداب الشرعية 1/177.
[9] البخاري في الفتن (7199)، مسلم في
الإمارة (1709).
[10] الاستقامة 1/42،41.
[11]أبو داود (4297)، وأحمد: 5/278 .
[12] أحمد في المسند: 2/359.
[13] مجلة السنة.