بيت العنكبوت
هل نحن في حلم؟ هذه أول حرب في المنطقة
استعد لها الطرفان وبدأت عندما بدا لطرف أنه في أفضل أحواله وأن الآخر في أسوئها. إنها
الحرب الثالثة التي تشنّها إسرائيل على غزة في محاولة لتوظيف الأحوال المضطربة
التي تمر بها المنطقة والاستفادة منها؛ فسورية والعراق قد يعاد تقسيمهما وفق
موازين القوى المتغيّرة، ففشل النصيرية في التحكم في سورية يجعل أقصى أمنياتهم أن
يحكموا مناطقهم في الساحل، مع أن هذا الاحتمال يضعف مع الوقت؛ لتماديهم في الإجرام
الأعمى بحق السنة، وأما الشيعة فلم يفلحوا في استثمار سيطرتهم على العراق تحت
الحماية الأمريكية وصدقوا أنهم يمكن أن يحكموا العراق وينفردوا به، فبطشوا
بحلفائهم من المنتمين للسنة اعتقاداً منهم بعدم الحاجة إليهم، واستهانوا بمطالب
السنة السلمية حتى تحوّلت إلى مسلحة في الرمادي، وبانت ملامح فشل الهلال الشيعي،
وأن إمكانية احتفاظ الشيعة بجنوب العراق تعد إنجازاً كبيراً، وأصبحت المشكلة هي
الحاجة الملحة للغرب إلى سرعة ترتيب المنطقة والبدء بمخطط ما بعد «سايكس-بيكو»،
ويبدو أن هناك سباقاً مع الوقت لمنع السنة في سورية والعراق من استثمار ثورتهم،
وستكون سورية والعراق محل صراع دولي وإقليمي يقوم فيها ما يسمى «تنظيم
الدولة» بدور أساسي في المناطق السنية، في محاولة
تشكيل كيان استباقي لما يمكن أن تفرزه الثورات، فهو يحمل شعارات إسلامية مفرّغة من
المضمون، ويتحرك بتحكم أمريكي في مناطق نفوذه ومدى تسليحه. وإن
محاولة إبعاد الإسلاميين عن الحكم في مصر وليبيا تواجه صعوبات حقيقية، ومن ثم فإن
حالة الاصطفاف الحالية حول مشروع تصفية الإسلام السياسي أدخلت إسرائيل شريكاً
ضمنياً باستهداف «حماس» ووضعها
في بؤرة الصراع على السلطة في مصر، فتهم الرئيس مرسي هي التخابر مع حماس والهروب
من سجن مبارك (النطرون) بمساعدة
حماس؛ ولذا فإن الخطة كانت خنق حماس ومن ثم ضربها، وتم تسخين سيناء لتبرير إرسال
قوات مصرية للحدود مع غزة، وبدأت عملية خنق ممنهجة بإقفال معبر رفح وتدمير الأنفاق
وقيام السلطة في رام الله بإيقاف تحويل رواتب الموظفين، بحيث أصبحت المصالحة
وتكوين حكومة وحدة وطنية فلسطينية مخرجاً لحماس للتخلص من عبء إدارة القطاع،
ومدخلاً لاختراق السلطة لغزة، لكن يقابله أيضاً اختراق حماس للضفة، ومن ثم كان
هناك توتر إسرائيلي وخوف من أن تكون المصالحة في مصلحة حماس وتفوّت فرصة ضربها في
هذه الظروف الحالية التي قد لا تتكرر؛ ولذا ضغطت إسرائيل لتنفيذ مصر لما كان يطرح
إعلامياً من مطالبة الجيش المصري بضرب حماس ودخول غزة وتسليم المعابر لقوات
السلطة، وحيث إن هذا السيناريو غير مأمون العواقب، فقد اقتصر دور السلطة ومصر على
الخنق، ولم تجد الحكومة الاسرائيلية بدّاً من تولي الباقي بنفسها؛ خوفاً من فوات
الفرصة وانفراط التحالف الجديد وانشغال الأطراف بهمومها الأكثر أهمية.
لقد كان اختطاف ثلاثة مستوطنين فرصة لتسخين
الرأي العام ضد المتهم الوحيد طوال عملية البحث، وكان العثور عليهم خاتمة عملية
وتهيئة الرأي العام لضرب الإرهاب القابع في غزة، وبدأت العملية وسط تهليل وتأييد
مصحوبة بحملة شيطنة واستخفاف بحماس وبالمقاومة، لكن الذي حصل لم يكن بحسبان
المخططين، وسارت الأحداث في منحنى خطر يقتضي التوقف قبل خروج الأحداث عن السيطرة،
وأنا هنا سأقف أمام بعض الأحداث المهمة التي تبيّن كيفية إدارة هذه الأزمة:
بدأ العدوان بعنف، وكان الرد تصاعدياً مع
اقتصاد واضح في القوى، ما يعني القدرة على الاستمرار لفترة طويلة، وهو ما لا تطيقه
حكومة إسرائيل.
كان هناك حشد للتأييد الدولي للعدوان، وكان
وزير خارجية أمريكا والأمين العام للأمم المتحدة أول الحاضرين المؤيدين لحق
إسرائيل في حماية شعبها! ومطالبة حماس بإيقاف
الصواريخ، ورجاء الحكومة الإسرائيلية ضبط النفس، وكان كيري يحاول جاهداً وقف إطلاق
النار، ولما هاجمه الإعلام الإسرائيلي صرح بأنه يقوم بذلك تنفيذاً لطلبات نتنياهو
المتكررة؟
كان هناك فشل واضح للعمليات الأولى في
استهداف منصات الإطلاق وقوات المقاومة، حتى إن حماس أعلنت موعد ضرب تل أبيب في
تحدٍّ واضح وإثبات لعدم قدرة إسرائيل على منعها أو اكتشاف مكان إطلاقها.. لقد
كانت ضربة معنوية قاسية.
تركيز القصف على المنازل وقت السحور
والإفطار، وتمت إبادة أسر كاملة للقادة وعامة الناس (10000 منزل)،
وتم استهداف المساجد (42 تدميراً كلياً و90 جزئياً)،
كما استهدفت المدارس حتى التي تتبع الأمم المتحدة، في محاولة لتحطيم إرادة الناس،
وهو ما لم يحصل، لكن الأهم هو انكشاف الفشل في معرفة الأهداف العسكرية.
فشل الحملة الجوية أدى إلى محاولة التدخل
البري، وهنا فوجئت إسرائيل بمقاومة شرسة وأساليب قتال مبتكرة أثبتت أمام العالم
تفوق المجاهد الفلسطيني على جنود النخبة، وكان الرد ارتكاب مجازر بحق المدنيين،
ودمرت تجمعات سكانية كاملة.. إنها تغطية للفشل بفضيحة.
بدأت إسرائيل العدوان وسعت للهدنة، لكن
المقاومة قدمت مطالب صادمة تتلخص في رفع الحصار وفتح مطار وميناء غزة، وأن يكون
معبر رفح تحت الحماية الدولية، وتخفيف الضغط على الأهل في الضفة! وعدم
طرح أو التفكير في نزع السلاح، ما يعني أن تنفيذها إعلان لهزيمة إسرائيل، وبعد أن
كانت مطالب كيري نزع السلاح وتدمير الأنفاق مقابل فتح المعابر، تحولت المفاوضات
إلى محاولة منع فتح مطار وميناء غزة.
كانت المبادرة المصرية قُدمت مبكراً لترفض،
إلا أنها رُفضت ورُفض معها الدور المصري، وكان هذا صدمة لمصر وإسرائيل اللتين
استماتا في محاولة إحياء الدور المصري، والذي تم هو بحث مطالب المقاومة بوفد مشترك
مع السلطة في القاهرة. وإنه محاولة لجر السلطة مجبرة لخندق
المقاومة وعدم الصدام مع مصر التي تحاول البقاء في المشهد الفلسطيني.
أداء المقاومة يدل على تخطيط جدي للمعركة
منذ فترة طويلة وتصور واضح لطبيعة الصراع والنجاح في تحييد جيش العملاء في غزة،
فمثلاً شبكة أنفاق ضخمة يعمل فيها عدد كبير من الكوادر لفترة طويلة من الزمن تعلم
بوجودها أجهزة الاستخبارات وتجهل تفاصيلها؛ إنجاز بحد ذاته، أما استعمالها العسكري
فهو إبداع لن تجرؤ إسرائيل على عملية أخرى قبل اكتشاف طريق عملية للتعامل معها.
سربت وسائل الإعلام الإسرائيلية محادثة بين
أوباما ونتنياهو فحواها أن إسرائيل ليست في وضع يمكّنها من اختيار الوسطاء، ما
يوحي بحقيقة الورطة التي وقعت فيها حكومة إسرائيل، وأنا هنا سأذكر بعض مظاهر الضعف
في الجانب الإسرائيلي التي يجب أن توضع في الحسبان في جولات الصراع القادمة:
أولاً: مقتل
قيادات ألوية وكتائب النخبة في الجيش الإسرائيلي يدل على تواجدهم في منطقة
العمليات الخطرة، وهذا لا يحصل إلا في حالة الاضطرار لرفع الروح المعنوية للجنود.
ثانياً: تم
تسريح وحدة من لواء جولاني بتهمة التمرد.
ثالثاً: دخول
قوات الجيش إلى غزة ودخولهم في اشتباكات مستمرة مع المقاومة من مسافات قريبة لفترة
طويلة، وعدم حصانة المدرعات؛ أدى لتململ وتهديد بالتمرد، ما أدى للانسحاب الكامل
من القطاع.
رابعاً: نحن
في مرحلة انكشاف حقيقة معنويات الجيش، ولا ننسى وصف الله سبحانه وتعالى لهم: «لا
يقاتلوكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر»،
وإذا كانوا خاطبوا نبي الله موسى بقوله: {فَاذْهَبْ أَنتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24]،
فماذا سيقولون لنتنياهو ولقادة الوحدات. أعتقد جازماً أن هذه
الحالة النفسية هي التي أدت بالقادة لأن يكونوا في المقدمة وأن يموتوا أولاً.
خامساً: هناك
خلافات علنية داخل الحكومة بعضها خلاف حول إدارة المعركة وجزء نابع من الاستعداد
للتخلص من نتنياهو والصعود بدلاً عنه. ويبدو أن ليبرمان، وزير
الخارجية المتطرف، يعد نفسه لمنافسة نتنياهو.. والذي
أراه أن المزاج العام في إسرائيل بعد انكشاف عدم حصانة الجبهة الداخلية، سيميل إلى
الاعتدال وقبول التعايش مع حماس مؤقتاً، ولذا أتوقع عودة خط حزب العمل إلى الواجهة
وتراجع الليكود.
سادساً: لا
ننسى أن نتنياهو والإعلام الإسرائيلي كان يكرر أن هناك توافقاً دولياً وإقليمياً
ضد حماس، وأن التطبيع الكامل سيتم بعد التخلص من حماس.. والذي
يهمنا أن التصريح من طرف واحد هو محاولة توريط للأطراف الأخرى وإدخالها مباشرة في
الصراع.. والذي يبدو أن إسرائيل في النهاية وقفت
وحدها.
إن مسار الأحداث يوحي بأن تصفية المقاومة
قضية خاسرة في هذه المرحلة، وسنشهد تسابقاً دولياً وإقليمياً على البذل في مساعدة
القطاع وإعماره وإعادة الحياة لحكومة الوحدة الوطنية، ومحاولة الالتفاف على
المقاومة بمشاريع التسمين بدلاً من التجويع، وسنرى مزايدة على الموقف التركي
والقطري وعدم السماح لهما بالتفرد.
أما الكيان الصهيوني فسيدخل مرحلة لعق
الجراح والتفكير الجدي بمستقبل الكيان، وسنشهد مرحلة صراع سياسي وتصفية حسابات،
وصدق الله: {بَأْسُهُم
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، فهم أشبه بـ «بيت العنكبوت».
:: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.