• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بصائر في تدريس العقيدة

بصائر في تدريس العقيدة

 

لا ريب في أن العقيدة السليمة هي هوية المسلم وعنوان سعادته ومعبره إلى النجاة، ولا قيمة له في ميزان الله إلا بصفائها وسلامتها، كما أنها محل الصراع الرئيس بين الحق والباطل.

هذه القيمة والأهمية البالغة للعقيدة تفرض على العلماء والدعاة والمربين المراجعة المستمرة والتقييم المتتابع لتدريسها وتعليمها للناس، من حيث الوسائل والكيفية والهيئة ومدى التركيز على مفرداتها ومدى توافقها مع المنهج.

ومن هذا المنطلق كان التأمل في واقع تدريس العقيدة للناس هو الدافع لكتابة هذه السطور، فمن يقلب النظر في واقع الدعوات والمربين وأهل العلم في تناول العقيدة وتعليمها، يقف بلا ريب على أن النتائج المرجوة لم ترقَ للجهود المبذولة، وأبصر بوضوح تلك الهوة السحيقة بين الواقع والمأمول في تعليم الناس العقيدة.

فالعقيدة السليمة حتماً تفرز أخلاقيات وقيماً وسلوكيات سوية، حيث إن العمل والسلوك جزء من الإيمان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان)[1].

وفي نفس الوقت هو ثمرة لأصله الإيماني الذي يكمن في القلب، تظهر على عمل الجوارح والتي منها التمثل بالأخلاق الفاضلة، وهو ما أشار إليه الحسن البصري بقوله: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل)[2].. ولا يخفى على ذي بصر ما تعانيه الأمة من انحرافات سلوكية وأخلاقية.

وبين تلك السطور نعرض بعضاً من البصائر التي يرجى من خلالها أن يؤتي تدريس العقيدة ثماره المرجوة:

مقولة (البدء بالعقيدة) كيف نفهمها

عقيدة التوحيد هي أصل الأصول، ودعوة الأنبياء كافة بلا منازع، وهي مبدأ كل دعوات المرسلين، لكن ثمة إشكالية تتعلق بهذه القضية في واقع الصحوة الإسلامية والمحاضن العلمية، وهي جعل البدء بتعليم العقيدة حتميّاً في التعامل مع كل المدعوين بلا تفريق.

فما إن يحدث الارتباط بين المصلح أو المعلم وبين المدعو حتى يبادر بتلقينه كتب التوحيد، حتى لو لم يكن متلبساً بعقائد ضالة، في الوقت الذي قد يرجئ المعلم والمربي إصلاح سلوكيات الطالب المعوجة التي قد تصل إلى حد التلطخ بالكبائر.

فمسألة البدء بالعقيدة فيها تفصيل، فإن كان المدعو من غير المسلمين فلا خلاف في أن يكون أول ما يتعرض له هو التوحيد؛ لأنه إن مات على ذلك كان خالداً مخلداً في نار جهنم، بينما إذا كان على التوحيد ومرتكباً لكل الرذائل والمعاصي فهو في مأمن من الخلود في النار، إن مات عليها فهو في مشيئة الله، وإن تاب منها قبل الممات تاب الله عليه.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن قال: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس)[3].

فوجه النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى البدء بالتوحيد لأنه أتى أهل كتاب، فكان لزاماً عليه أن ينتشلهم مما يتحقق معه هلاكهم إن ماتوا عليه، وهو الشرك والكفر.

وأما إذا كان المدعو مسلماً فينظر في حاله، فإن كان الجهل قد أوقعه في اعتقادات فاسدة لزم البدء معه بالتوحيد وتعليمه أمور العقيدة السليمة، وإن كان مسلماً صحيح العقيدة إلا أنه واقع في انحرافات سلوكية، لزم البدء معه بما يصلح لديه تلك السلوكيات؛ لأنها في ذلك المقام تصير هي أعظم الأخطار التي تحيق به وتعرضه لعذاب الله.

فتخليص الإنسان من الشر الحاصل دون المحتمل هو مما اتفق عليه العقلاء، وقد يدل على هذا المسلك الذي نطرحه ذات الحديث في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، فقوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات)، مبنيٌّ على كونهم أهل كتاب، فإن صاروا مسلمين انتقل إلى أداء الفرائض.

والمدعو المسلم الذي نود تعليمه أمور دينه قد حقق هذه الكلمة (فإن هم عرفوا ذلك)، حيث إنه مسلم ابتداء، فلا حاجة إذاً للبدء بتعليمه أمور العقيدة، بل يسعى الداعية والمربي لنجدته من أي أخطار أخرى تحيق به.

وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية: «تختلف الجماعات الإسلامية هنا في البدايات التي يجب على الدعاة البدء بها، هل هي الجانب السياسي أو العقائدي أو الأخلاقي، فما هي الأمور التي ترون أن يبدأ بها؟».. فأجابت اللجنة: (يشرع البدء بالعقيدة كما بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأت بها الرسل، ولحديث معاذ السابق إذا كان المدعوون كفاراً، أما إذا كان المدعوون مسلمين فإنهم يبيّن لهم ما جهلوا من أحكام دينهم وما قصروا فيه، ويعتنى بالأهم فالأهم)[4].

لغة العقيدة

ونعني بها كيف نطرح المسائل الاعتقادية، وكيف نخاطب الناس بأمور العقيدة.

العقيدة بالأساس هي مادة لترقيق القلوب، حيث إن لبّ موضوعها: الحديث عن الله تعالى وعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يجب له من أفعال العباد، وعن أمور الآخرة من الموت وخروج الروح، مروراً بالقبر ونعيمه وعذابه والبعث والنشور وما يحدث من أمور عظيمة في أرض المحشر من ميزان وعرض، ثم المرور على الصراط إما إلى جنة أو نار.

وموضوعها كذلك الإيمان بالرسالة والرسل والملائكة والغيبيات ونحو ذلك، وكلها مسائل ترقق القلوب وتربطها بما عند الله، وتسمو بالنفوس عن أغلال الأرض.

غير أن المشاهد لواقع تدريس العقيدة وتعليمها الناس، لا يجد لدى الكثيرين من القائمين على ذلك بالتصنيف أو التلقين، سوى الأسلوب الجاف الذي يجعل من دراستها مادة مستثقلة يتمنى الطالب أن لو حفظ كتابها أو حديث معلمه عنها عن ظهر قلب في طرفة عين، كي يريح نفسه من عناء مطالعتها ومدارستها.

فكيف بطالب علم يكون هذا حاله خلال مدارسة العقيدة هل يتوقع له التغيير؟ هل سيتفاعل كيانه معها ويعيش بها ويموت لها؟ هل ستترجم في حياته إلى واقع ملموس؟

إننا نلتمس لدى المصنف أن يكون كتابه ومصنفه عن الله يربط الدارس بالله ويوصل قلبه بما عند الله، وأن يشعر خلال كل صفحة تقلبها أنامله بمزيد من محبة الله بعد التعرف إليه. ونرى أن التجارب في ذلك المضمار نادرة، لعل أجودها وأحسنها سلسلة العقيدة في ضوء الكتاب والسنة للشيخ عمر سليمان الأشقر - رحمه الله، حيث يشعر القارئ بأنه قد انفصل عن النمط التقليدي لكتب العقيدة، مع إجلالنا لأصحابها ومحتواها.

ومن أروع الكتب التي انتهجت ذلك في الحديث عن أسماء الله الحسنى، كتاب «مع الله» للشيخ سلمان العودة، حيث تعرض لشرح أسماء الله الحسنى بطريقة جذابة وبسيطة في الوقت ذاته.

الأمر نفسه ينبغي أن يسلكه المعلم والمربي عندما يجلس إليه الطالب أو المدعو، حيث لا بد من صياغة حية لمسائل العقيدة تحقق المراد منها من ربط القلب ووصله بخالقه وبارئه.

ولا بد أن نبتعد عن مسلك «رصّ المعلومات» في تدريس العقيدة، فالمراد هو تحريك القلوب بها، وهذا ما نلمسه بوضوح في المنهج النبوي.

فلينظر الداعية كيف يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر من صميم الاعتقاد وهو نسبة المطر إلى المنعم به سبحانه وتعالى، ففي حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب)[5].

فالنبي صلى الله عليه وسلم يستغل مناسبة قريبة وهي نزول المطر حتى يشرع في تعليمهم أمور عقيدتهم، ثم تراه يحفز اهتمامهم بسؤال يأخذ بتلابيب القلوب: (أتدرون ماذا قال ربكم؟)، وأي من عباد الله بعد تلك العبارة لا تتوق نفسه لمعرفة ما قاله الرحمن جل في علاه؟! إن هذه التهيئة الحافزة ستصغى لها الآذان وتفتح لها القلوب، ليسكب فيها النبي صلى الله عليه وسلم من رحيق العقيدة الصافية.

ولعل حديث البراء بن عازب الطويل الذي يتناول رحلة العبد الصالح والكافر أو الفاجر منذ ساعة الاحتضار حتى ينزل قبره؛ يجلي بوضوح ما نعنيه بلغة تدريس العقيدة، فالأمر كان أشبه بقصة متكاملة بسياق متصل تنقل كيان السامع من محطة إلى أخرى وكأنه رأي عين.

وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة. فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحاً فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها. ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة)[6].

فهذا هو المراد، أن يعيش الدارس والمتعلم مع مسائل العقيدة بكيانه ووجدانه لا عقله فحسب، حينها سيؤتي تدريس العقيدة الإسلامية ثماره المرجوة، وينطلق به المتعلم والدارس لتشييد صرح حضاري سامق على غرار ما فعل أسلافنا.

بوصلة التركيز تتجه نحو الأحداث

العقيدة الإسلامية مستهدفة، وتشرئب الأفكار الباطلة المناهضة لها بكرة وعشياً، الأمر الذي يتطلب أن يكون الخطاب العقدي مسايراً للواقع.

فعلى سبيل المثال: المد الإلحادي وانتشار خبثه في حقبة ما يلزم أن يركز الدعاة والمربون والمعلمون خطابهم في العقيدة على إثبات وجود الله وتوحيد الربوبية وسوق الأدلة القرآنية والنبوية والبراهين العقلية على وجود الله وأفعاله في الكون.

وإذا حمي وطيس المعارك مع الشيعة في مكان ما، وبدأ خطرهم على العقيدة يزداد؛ يلزم حينها أن يكون التركيز في الخطاب العقدي على بيان بطلان عقائدهم، وبيان عقيدة أهل السنة في القرآن الكريم وحفظ الله له عن التحريف، وبيان اعتقادهم في الصحابة وعدالتهم ومنزلتهم، ونحو ذلك.

وفي الأماكن والحقب التي ينشط فيها المتصوفة، يكون التركيز في خطاب الداعية على المعجزة والكرامة، وبيان من هو الولي، والتركيز على توحيد الألوهية والتحذير من صرف أي عبادة إلا لله، وحكم الدعاء والاستغاثة بغير الله.

ويُستخلص ذلك العنصر من منهج القرآن في مسايرة الأحداث، والتركيز على ترسيخ معاني العقيدة بما يناسب المقام.

ففي الوقت الذي كان فيه المسلمون مستضعفين في مكة ويسامون سوء العذاب على أيدي صناديد الكفر، كان القرآن يركز على أمور الاعتقاد باليوم الآخر، وما عند الله من النعيم الذي أعده لأصفيائه وأوليائه الذين صبروا على أمره، يقول د. علي الصلابي: «ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز، فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين، وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم، وحتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين»[7].

ولما تكونت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، وظهر المسلمون على عدوهم في بدر؛ نجم النفاق وتكوّن الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي، فكان التركيز القرآني على النفاق الاعتقادي وعقائد المنافقين وسيماهم، وما أعده الله لهم من عذاب أليم يوم القيامة.

فترى في بدايات سورة البقرة – وهي مدنية - يتناول القرآن الكريم بعض ملامح إطارهم العقدي من إبطان الكفر وإظهار الإسلام، وعداوة ومخادعة أهل الإيمان، وما يعتمل في قلوبهم من ريبة، وعاقبتهم في الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ 8 يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ 9 فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ 10 وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11 أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْـمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ 12 وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ 13 وَإذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ 14 اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ 15 أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: ٨ - 16].

والمراد مما سبق عرضه أن يدرك المتصدر لتعليم الناس أمور عقيدتهم أهمية مسايرتها للواقع، بحيث يركز على ترسيخ المعاني العقدية التي يواجه الناس بها واقعهم.

توحيد الربوبية بين التهميش والاستغراق

هناك طريقتان لدى أهل السنة في تقسيم أنواع التوحيد مؤداهما واحد، فالطريقة الأولى تقسم التوحيد إلى قسمين اثنين: (الأول: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل وتنزيهه عن صفات النقص، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. والثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وتجريد محبته والإخلاص له وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضا به ربّاً وإلهاً وولياً وأن لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء، وهو توحيد الإلهية)[8].

والطريقة الثانية قال بها بعض العلماء هي: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات[9].

وحديثنا في هذه السطور عن توحيد الربوبية، والذي يعني إفراد الله بأفعال الخلق والتقدير والإحياء والإماتة والرزق وتصريف الأمور وتدبير الكون، أو ما أجمله العلماء في قولهم (إفراد الله بأفعاله)، ويتضمن في معناه بداهة إثبات وجود الخالق سبحانه.

وذلك أن تناول هذا النوع من التوحيد يترنح في المحاضن العلمية بين تهميشه لدى طرف، والاستغراق فيه وجعل قضية إثبات وجود الله وربوبيته على خلقه هي غاية علم التوحيد لدى طرف ثان.

فتجد مثلاً في كتب المناهج الدراسية الأزهرية والمتأثرة بمذهب الأشاعرة في الاعتقاد، أن محتواها ينصب على الحديث عن إثبات وجود الله وربوبيته على خلقه، وعلى الإيمان بالأسماء والصفات على ما به من عوار في مسألة تأويل الصفات.

وأما توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة، فلا تجد له ذكراً في كتب التوحيد هذه، مع أنه أصل دعوة الرسل، حيث أنه يواجه الانحراف الذي طرأ على الفطرة الشاهدة على وحدانية الله، فما نال ذلك الانحراف من عقيدة البشر كمثل ما نال من توحيد الألوهية، حيث صرف الناس عن مقتضى فطرتهم، وكما في الحديث القدسي: (وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً)[10].

فكل الأمم في جميع الأزمنة لم يكن لديها ما يقدح في توحيد الربوبية سوى قليل منها، كالدهرية والمجوس الثنوية قديماً والشيوعية في عصرنا هذا، بل جلّ الشرك قد انصب على جانب الألوهية.. وكان الشرك لدى مشركي العرب يتمثل في اتخاذهم معبودات باطلة من دون الله مع اعتقادهم أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وهو ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].

وكانت نتيجة الاستغراق في جانب توحيد الربوبية أو التوحيد العلمي الخبري بصفة عامة وإهمال جانب توحيد العبادة (توحيد الألوهية)؛ أن صار هناك من حملة العلم وذوي الشهادات والدرجات العلمية الرفيعة من تلبّس بقوادح عقدية فادحة، كالاستغاثة ودعاء غير الله.

وفي المقابل نرى كثيراً من كتب العقيدة لدى الاتجاه السلفي لا تعطي توحيد الربوبية حقه في التناول، مبررين ذلك بما بيّناه سالفاً من أن جميع البشر إلا القليل مقرين بتوحيد الربوبية، ومن ثم فالإسهاب في عرضه من الحشو غير المبرر.

ويعيب هذا المسلك أنه يبني بغير أساس قوي، فتوحيد الربوبية هو الأساس لجميع مفردات التوحيد الأخرى، فهو أساس لتوحيد الألوهية؛ لأن الفاعل المطلق في الكون ومدبره ومن بيده أمر الخلق، هو وحده الذي يستحق أن يتوجه العبد إليه بالعبادة، وهو التفسير الحق لمعنى (لا إله إلا الله)، أي: لا معبود بحق إلا الله.

ومن ناحية أخرى هو أساس لتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن الرب الخالق المدبر مصرف شؤون عباده هو وحده الجدير بكل صفات الجلال والكمال والتنزه عن جميع النقائص والعيوب.

فالاقتصار على مجرد الإشارات المختصرة في تناول توحيد الربوبية يجعل البناء التعبدي ضعيفاً، فالعبد لا ينشط للعبادة ويؤديها بتمامها على الوجه المراد ويحافظ عليها إلا إذا عرف ربه تبارك وتعالى، وشاهد في شؤون خلقه دلائل عظمته وربوبيته.

والمراد مما سبق عرضه أنه ينبغي أن يكون هناك توازن في تناول توحيد الربوبية، ويعطى حقه دون إجحاف أو استغراق.

ربط العقيدة بالعمل

وهذا أمر جدّ عظيم، فليست العقيدة الإسلامية مجموعة من المعلومات النظرية التي تختزنها ذاكرة العبد ولا تتجاوزها إلى الواقع، بل العقيدة التي ينتفع بها العبد وينجو بها يوم القيامة هي التي تترجم إلى واقع عملي ويكون لها أثر ظاهر في الحياة.

ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص في تدريس العقيدة على ربطها بالعمل، فعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم عياناً». وفي رواية: قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130][11].

فلم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليمهم مسألة عقائدية مهمة وهي إثبات رؤية الله تبارك وتعالى في الجنة، وإنما وجّه إلى العمل بمقتضى ذلك العلم، وحوّل الحديث إلى برنامج عملي وهو الصلاة.

ويأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله: متى الساعة يا رسول الله؟ فهذا رجل يطرح سؤالاً عقائدياً قد أجاب عنه القرآن بأن علمها مرده إلى الله، وكذا بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، ولم يزد النبي على أن قال: (ما أعددت لها؟)[12].

فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى التركيز على الجانب العملي في قضية وقت قيام الساعة، لا الانشغال بأمر علمه لله سبحانه وتعالى لم يُطلع عليه عباده وفق حكمته التي لا تنفك عنه سبحانه.

ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه يدخل الجنة من أمته 70 ألفاً بغير حساب ولا عذاب كما في صحيح مسلم، أرشدهم إلى ما ينال به ذلك المقام وتلك المكرمة من العمل والجد والاجتهاد، فقال: (هُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[13].

فيجدر بمن يتصدر لتعليم الناس أمور عقيدتهم أن يقرنها بالعمل؛ فعلى سبيل المثال عندما يتحدث عن توحيد الربوبية يوجههم إلى عبادة التفكر والتأمل في خلق الله، وإذا تحدث عن الأسماء والصفات أرشدهم إلى الدعاء بها والعمل بمقتضاها، وإذا تحدث عن الميزان مثلاً وجّههم إلى محاسبة النفس، وإذا تحدث عن الجنة أرشدهم إلى المحافظة على الفرائض واجتناب الذنوب... وهكذا.

استخدام الوسائل العملية في تدريس العقيدة

فلا بد من التعاطي مع الواقع والاستفادة منه في مجال تدريس العقيدة، وتسخير آليات العصر وإمكانياته في ترسيخ معانيها.

فإذا أراد المعلم أن يتحدث عن دلائل عظمة الله مثلاً، فما المانع من أن يدعم حديثه بمقاطع مرئية (فيديو) عن الكون والمجرات وتكوّن الجنين والبراكين والمخلوقات متناهية الدقة... وهكذا؟!

ويصلح مع الأطفال إضافة إلى ذلك: الأناشيد ذات المعاني العقائدية، واللوحات الإرشادية التي ترسخ المعاني عن طريق النظر إليها.

كما يستشهد المعلم المتصدر لتدريس العقيدة بالأخبار والوقائع الحادثة التي تعضد تلك المعاني؛ فمثلاً: عندما يتناول قضايا الشرك بالله يعضد حديثه برصد واقع المزارات والأضرحة وولع كثير من الناس بها وما يحدث عندها من الأمور الشركية وصرف العبادة لغير الله.

وإذا تحدث عن أسماء الله المتضمنة القهر والجبروت والقوة، يستشهد بالزلازل والخسوف والبراكين والأعاصير التي تجتاح البلدان التي أوغلت في الكفر والرذائل قديماً، كما حدث في قرية بومبي الإيطالية التي غطتها الحمم البركانية في عهد الإمبراطورية الرومانية، وبقي الناس على أحوالهم التي كانوا عليها حتى جمدتهم تلك الحمم وصاروا تماثيل، وصورهم منتشرة على الإنترنت.

أو إعصار كاترينا بالولايات المتحدة، أو تسونامي، وغير ذلك مما يظن أنه انتقام من الله سبحانه وتعالى ومحض عقاب.

وأخيراً: فمسألة تدريس العقيدة تحتاج من القائمين عليها إلى المراجعة الدورية؛ لأنها بصورتها الحقيقية طريق فلاح العبد، وسبيل التمكين لهذه الأمة، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور: ٥٥].

 

:: مجلة البيان العدد  324 شعبان 1435هـ، يونيو  2014م.


[1] متفق عليه.

[2] مدارج السالكين لابن القيم، (3/92).

[3] متفق عليه.

[4] فتاوى اللجنة الدائمة، (12/238).

[5] متفق عليه.

[6] صحيح الجامع رقم (1676).

[7] السيرة النبوية للصلابي، ص (104).

[8] معارج القبول، حافظ بن حكمي، (1/98).

[9] انظر على سبيل المثال: شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين.

[10] صحيح مسلم.

[11] متفق عليه.

[12] متفق عليه.

[13] صحيح مسلم، ولفظة (لا يرقون) هي زيادة شاذة عند مسلم، وانظر في ذلك سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني، (8/169).

أعلى