• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الإسلام مرجعية لمملكة مالي خلال القرن 8هـ/ 14م

الإسلام مرجعية لمملكة مالي خلال القرن 8هـ/ 14م

 

تهدف هذه الدراسة إلى كشف النقاب عن وضعية العقيدة الإسلامية في عهد مملكة مالي، والتي أصبح فيها الإسلام مرجعية لشعوب هذه المملكة.

فما هي إذاً، وما أهم مظاهر تفاعل الماليين مع الدين المحمدي؟ وأين تكمن مواقع القوة والضعف في هذا التفاعل؟

1 ــ نبذة تاريخية عن مملكة مالي[1]:

يستفاد من الشهادات المصدرية أنَّ مالي أو ملل عُرفت نشأتها الحقيقية في القرن 7هـ/13م[2]، واتسعت حدودها في نهاية نفس القرن لتعرف أقصى مداها، حيث أصبحت تشمل جل الإمارات والممالك السودانية، مثل: إمارة كوكو وسلطنة التكرور ومملكة غانة. وبانصهار هذه الوحدات في كيانها أصبح نفوذ مملكة مالي يغطي جل مناطق بلاد السودان[3].

وباستهلال القرن 8هـ/14م، أخذت المملكة تتحسس طريقها نحو المجد والازدهار إبان عهد السلطان منسى موسى (712 ـ 737هـ/1312 ـ 1337م)، وأخيه منسى سليمان (741 ـ 761هـ/1341 ـ 1360م)، وبلغت مالي المسلمة أوج عظمتها وذروة مجدها. وبتقعيد أمور الدولة أخذ الماليون قمة وقاعدة يبحثون لأنفسهم من خلالها عن موقع متميز داخل الأمة الإسلامية؛ لذا وجدناهم يعملون على توثيق وتوطيد علاقاتهم بباقي الأقطار الإسلامية، وسلكوا بهذا الصدد أربع قنوات أساسية يمكن أن نجملها في العناصر التالية: التجارة، والرحلة لطلب العلم، والحج، وأخيراً السفارات[4].

وفي القرن التاسع الهجري (15م) أصاب الضعف إمبراطورية مالي، حيث تغلب عليها أهل سنغاي الذين أسّسوا إمبراطوريتهم ما بين عامي (1488 ـ 1592م) التي كانت تشمل زمن حُكم سني علي وغيره من أقوياء سلاطينهم، معظم السنغال الحالية ومالي والنيجر وشمال نيجيريا[5].

2 ـــ نماذج من مظاهر تفاعل الماليين مع العقيدة الإسلامية:

تنامي ظاهرة الحج:

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، يقول المولى عزَّ وجل في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: ٩٧].

ولكن أنْ يحج سلطان إفريقي في القرن 13 أو 14م، فهذه مسألة يُمكن أنْ تطرح بعض التساؤلات وعلامات الاستفهام:

هل يعني ذلك رغبة السلطان في تطبيق أركان الإسلام، علماً أنَّ تركه للعاصمة وقيامه برحلة نحو الديار المقدسة يستلزم وقتاً طويلاً يراوح بين 18 و24 شهراً، ما قد يشكل خطراً على مملكته؟

وهل يمكننا أنْ نعلل ذلك برغبة السلطان في الاطلاع على أحوال بلدان المشرق العربي ونظمها ليقلد بعضها؟

وهل يوحي ذلك أيضاً برغبة الملك في توطيد علاقات بلاده الثقافية مع تلك البلدان، ومن ثم جلب مجموعة من كبار العلماء للسهر على تكوين نُخبة محلية مثقفة، ومن ثم الانتقال من مرحلة ممارسة السلوك الديني كما دعا إليه الإسلام، إلى مرحلة أخرى وهي تكوين نخبة مطلعة على التراث الإسلامي والنظم الحضارية الإسلامية لتنقلها إلى السودان؟

وختاماً: هل يمكننا القول إنَّ كل هذه العوامل هي التي جعلت السلاطين الماليين الذين أدوا فريضة الحج، ينفقون بسخاء أموالاً طائلة في رحلاتهم إلى القاهرة ومكة والمدينة، وهي مراكز ذات ثقل ثقافي في العالم الإسلامي؟

يُعد المنسى ولي (1255 ـ 1270م) من أول سلاطين مالي الذين قاموا بالحج 658هـ/ 1259م زمن ملك مصر الظاهر بيبرس، ثم تلاه ساكوره (1285 ـ 1300م) الذي قُتِل بطرابلس أثناء عودته في أواخر القرن 13م[6].

ويُعد منسى موسى أشهر من عُرف بحجه من سلاطين مالي[7]، وذلك لكثرة ما أنفقه في رحلته، فقد كان «يسعى بين يديه إذا ركب خمسمائة عبيد، وبيد كل واحد منهم عصا من ذهب، في كل منها خمسمائة مثقال»[8].

وكانت تلك الرحلة استهلالاً لتوافد أعداد كبيرة من التجار والعلماء إلى مالي، حيث أسهموا في ازدهار النشاطين الاقتصادي والثقافي اللذين شجعهما منسى موسى، وقد أحضر معه في طريق العودة جُملة من الكتب الدينية التي تركت نشاطاً علمياً ملحوظاً. إنَّ حجَّ منسى موسى أصبح معلماً في تاريخ مالي وبلاد السودان، وورد ذكره في المصادر الإسلامية وغير الإسلامية، وأصبحت مالي معروفة في أوروبا، يقول فرناند بروديل عن شهرة منسى موسى بعد حجه: «إنَّ ذهب السودان كان أكثر من أساسٍ لرخاء شمال إفريقيا والأندلس، فهذا الذهب لعب دوره في تاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط كله، حيث بدأ تداول هذا الذهب من القرن الرابع عشر عقب الحج الشهير لملك مالي منسى موسى»[9].

وإذا عدنا إلى كلام السعدي سنجد أنَّ فيه الكثير من المبالغة والتضخيم، وإذا كان الكلام صحيحاً فلماذا حمل معه كل هذه الأموال؟

نميل إلى الاعتقاد بأنَّ المنسى أراد أنْ يتقرب إلى حكام وعلماء مصر والمدينة المنورة ومكة، ومن ثم توطيد العلاقات الثقافية بين مملكته وبلدان المشرق العربي. كما كان لهذا التوجه بواعث داخلية؛ بمعنى أنَّ حج منسى موسى جاء استجابة لحركة دينية إسلامية ببلاد السودان أخذت في التنامي بين مختلف الفئات الاجتماعية، لذلك لم يُرد المنسى أنْ يعزل نفسه عن هذا التطور، وأحبّ أنْ يظهر بمظهر الحاكم الشرعي المدافع عن الدين الجديد، فنجده يفتخر في القاهرة بكونه مالكيَّ المذهب[10]. ثم ألا يمكننا القول إنَّ الهدف من هذا الحج فضلاً عن أداء الفضيلة هو التعرف إلى النظم الحضارية الإسلامية السائدة في المشرق العربي، خاصة الاطلاع على ملامح الحركة التعليمية ومحاولة الأخذ بها في البلاد السودانية، علماً أنَّ الانفتاح على التقاليد الإسلامية يلزمه أنْ يمر عبر الاطلاع أولاً على المعرفة الدينية؛ أي إدراك معظم العلوم المرتبطة بالشرع الإسلامي. وبنفس التفسير يمكننا أنْ نعلل إرسال منسى موسى مجموعة من الطلبة إلى مدينة فاس للتفقّه على يد علمائها.

كما شرع المنسى بعد عودته من الحج في بناء مجموعة من المساجد، والتي كانت في نفس الوقت أماكن العبادة ومراكز للتعليم، يقول السعدي: «ورجع موسى من الحج فابتنى مسجداً ومحراباً خارج مدينة كاغ، كما قام ببناء مساجد أخرى في أماكن متفرقة من البلاد»[11].

وقد كان للمساجد في الذهنية المالية حُرمة لا يمكن لأحد أنْ يتجرّأ عليها، حتى لو كان السلطان؛ لهذا السبب كان الماليون يلتجئون إليها، ويستجيرون بها لطلب العفو، أو للتشكي من تعسف حاكم متسلط[12].

يمكننا إذاً أنْ نقول إنَّ تعدد رحلات حج سلاطين مالي يعني نمو الحركة الدينية الإسلامية ببلاد السودان؛ فحج الملك بما يتطلبه من نفقات وما قد يُشكله من خطر على العرش بعد غياب الحاكم عن العاصمة لمدة قد تتعدى السنة؛ يعكس قبول الطبقة الحاكمة للإسلام، وليس لكسب شرعية سياسية لهذا الملك أو ذاك كما يعتقد غير واحد من الدارسين[13]. وإذا كان بإمكاننا أنْ نصدر هذا الحُكم بالنسبة للفئة الاجتماعية الأولى، فلا شك في أنْ نعترف أيضاً بأنَّ الأهالي كانوا يترددون باستمرار على الديار المقدسة.

وعليه يمكننا القول إنَّ الحج بهذا الشكل قد عكس تطوراً إيجابياً في طريق أسلمة السودان التي ستتعزز بمكتسبات جديدة.

الدعوة إلى الإسلام من طرف الماليين:

باستقراء وتحليل المعطيات التي تطرحها بعض المصادر، تبيَّن لنا الدور الكبير الذي قام به سلاطين مالي لتوسيع رقعة الإسلام والانتصار له، وذلك عن طريق إعلان الجهاد ضد القبائل الوثنية المجاورة، رغم أن أهل مالي كانوا بالنسبة إلى من جاورهم من أمم السودان المتوغلين في الجنوب «كالشامة البيضاء في البقرة السوداء»[14].

ويقول فضل الله العمري: «وهذا الملك [منسى موسى] هو أعظم ملوك السودان المسلمين، وأوسعهم بلاداً، وأكثرهم عسكراً، وأشدهم بأساً، وأقهرهم للأعداء»[15].

ولا ريب في أنَّ المنسى بعد عودته من الحج قام بحروب دينية لنشر الإسلام في الجهات المجاورة لمملكته، والتي لم تعتنقه بعد، وقد ترتب على المجهود الذي قام به السلطان أنْ أضاف إلى دار الإسلام مجالات جغرافية جديدة. ونهج منسى سليمان (741 ـ 761هـ/ 1341 ـ 1360م) نفس سياسة أخيه في توسيع رقعة الإسلام، يقول القلقشندي: «واجتمع له [منسى سليمان] ما كان أخوه افتتحه من بلاد السودان وإضافة إلى يد الإسلام»[16]. وإلى مملكة مالي يرجع الفضل في نشر الإسلام في بلاد الهوسا[17] منذ نحو القرن الثامن الهجري (14م).

واعتباراً لكل ما تقدم من توضيحات، يتضح للقارئ أنَّ الماليين لم يتقبلوا الإسلام فقط، بل أسهموا أيضاً في نشره بالجهات المجاورة لهم، كما عملوا أيضاً على ترسيخ مبادئه بين مختلف أفراد ومكونات المجتمع السوداني، لذلك سهروا على تطوير مراكز التعليم نظراً للمكانة العظيمة التي يحتلها العِلمُ في بناء المجتمع وازدهاره.. فما أهم مجهوداتهم في هذا المجال؟

الاهتمام بالحركة التعليمية:

إنَّ المتمرس بالمادة المصدرية السودانية سيجد أنَّ المنسى موسى كان حريصاً على نشر العلم والدين في مختلف أرجاء مملكته، سواء بين الحضر أو البدو. ونتيجةً لهذه المجهودات ظهرت بمالي مجموعة من المراكز الثقافية التي كان لها دور كبير في نشر الثقافة العربية الإسلامية بين أهالي السودان.

وأهم هذه المراكز: جني، ونياني العاصمة، وولاتة[18]. فيما كانت مدينة تنبكت حينها لا تزال في الظل ولم تكتسب بعد شهرتها. وفي نفس الإطار أخذ بعض الطلبة السودانيين يتطلعون لاستكمال دراستهم بفاس ومراكش والقاهرة المملوكية التي كانت توجد في طريقهم إلى الحج. وكان ارتيادهم للأزهر الشريف يدفعهم للتحلق حول فقهاء المالكية لا غير. ووجدت هذه الديناميكية تشجيعاً ورعاية، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي[19]. ولا شك في أنَّ مكانة العلماء الاجتماعية كانت محل تقدير وإجلال من طرف المجتمع السوداني حُكاماً ورعية، سواء في عهد مالي أو عهد سنغاي. وبالنظر إلى المكانة الرفيعة هذه، كان سلاطين مالي وسنغاي فيما بعد يعملون جاهدين على استقطابهم والتودد لهم وتشكيل بطانتهم منهم[20].

ويُحدثنا كعت[21] أنَّه لم يكن في مملكة مالي من يتجرأ على مصافحة السلطان إلا القاضي. ومؤرخنا السوداني إذ ينبهنا لهذا الامتياز فلأن التقاليد السودانية في المراسيم التشريفية عند الدخول على السلطان تفرض على الرعايا مهما بلغت مرتبتهم أنْ يرفعوا التراب على رأسهم تأدباً مع السلطان[22]. وفي الإطار نفسه، يُخبرنا ابن بطوطة أنَّ دار الخطيب كانت تحظى بحرمة تضاهي حرمة المسجد، لذلك كان أهل مالي يستجيرون بها حينما يتعذر عليهم الدخول إلى المسجد[23].

صفوة القول: إنَّ السياسة الدينية لسلاطين مالي حققت بعض النتائج الإيجابية في جانبها التعليمي، وإذا كنا قد تحدثنا في الصفحات السابقة عن مظاهر إسلام الطبقة الحاكمة وكذلك الطبقة المثقفة، فوجدنا أنَّ الأولى جعلت من الحج مناسبة أو فرصة للاستفادة من بعض المظاهر الحضارية ببلدان المشرق العربي، وحاولت استقدام بعض الأشراف والكتب والعلماء المالكية، وعملت على نشر الإسلام بالجهات المجاورة، وتوسيع المؤسسات الدينية والتعليمية بالبلاد. ولمسنا أيضاً مساهمة العلماء في توجيه سياسة الدولة الدينية، وما حظيت به من احترام وتقدير كنتيجة لذلك؛ فيحق لنا الآن أنْ نتساءل عن السلوك الديني الشعبي كما وصفه ابن بطوطة على اعتباره كان شاهد عيان وذلك أثناء زيارته لمملكة مالي عام 1352م[24]؟ وللتذكير هنا فقد كانت الرحلة السودانية البطوطية خاتمة سياحته خارج حدود المغرب المريني.

السلوك الديني الشعبي في عيون ابن بطوطة:

بين أيدينا مادة وفيرة عن مالي في منتصف القرن الثامن الهجري (14م) وعن سلطانها منسى سليمان، شقيق منسى موسى. فإضافة إلى ما ذكره كل من القلقشندي والعمري، لدينا معلومات من شاهد عيان هو الرحالة المغربي «ابن بطوطة»، الذي أمضى أكثر من تسعة شهور في زيارة مالي 1352م.

يمكن أنْ نستنتج من رواية ابن بطوطة هذه أنَّ الإسلام كان قد توطد وتجذَّر في مالي، ومع ذلك فإنَّ السلطان كان يُراعي العادات والتقاليد المحلية المنتشرة بين الأرواحيين[25] من رعاياه[26]. وقد أُعجب رحالتنا باستتباب الأمن والعدالة في البلاد، كما أُعجب بتدين القوم وأدائهم الصلوات في أوقاتها وحفظهم القرآن الكريم. مما يدل على عدم وجود أي تمييز عنصري عند المسلمين[27].

ويلاحظ كذلك أنَّ المساجد كانت حُرماً يلجأ إليها المستجيرون من بطش وظلم الحاكم؛ فابن بطوطة يذكر أنَّ منسى سليمان غضب على زوجته الكبرى وابنة عمه قاسا[28]، إذ اتهمها بتدبير مؤامرة ضده، فيقول: «فخافت قاسا واستجارت بدار الخطيب، وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد، وإن لم يتمكن فبدار الخطيب»[29]. وكان علماء المسلمين يبادرون إلى الإصلاح بين المتنازعين حقناً للدماء، فابن بطوطة يذكر أنه أثناء إقامته بتكدا توجه القاضي والخطيب والمدرس والشيخ بها إلى أميرها للإصلاح بينه وبين أمير آخر[30].

ويوجز ابن بطوطة محاسن أهل مالي فيقول: «فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم، فهم أبعد الناس عنه، وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. وشمول الأمن في بلادهم، ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان، ولو كانت القناطير المقنطرة، إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقه، وكذلك مواظبتهم على الصلوات، والتزامهم لها في الجماعات، وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة ولم يُبكّر الإنسان إلى المسجد، لم يجد أين يصلي لكثرة الزّحام. ولبسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة. وعنايتهم بحفظ القرآن العظيم، وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه، فلا تفك عنهم حتى يحفظوه»[31].

ويقول توماس هودجكين، من كبار المتخصصين في تاريخ إفريقيا، مُعلقاً على أثر الإسلام في مالي نهاية القرن الرابع عشر: «إنَّ المصادر الوثائقية الوفيرة نسبياً عن تاريخ مالي في القرن الرابع عشر، تمكننا من الحُكم على مدى ما حققه الإسلام آنذاك في تحرير النظم والأعراف المحلية السائدة قبل وصول الإسلام، كما هو الحال بالنسبة للمراسم في البلاط، وصيام شهر رمضان، والاحتفال بالعيدين، واستخدام القضاء (في المدن)، وتأسيس المدارس القرآنية، والاستعانة بالمتخصصين الأعراب (مع تنويع العلاقات الخارجية بحيث تشمل الشمال الإفريقي ومصر والحجاز)»[32].

يُمكننا القول إجمالاً إنَّ هذه الخِصال إنْ دلّت على شيء فهي تدلُّ على مدى تمسك أهالي مالي بأركان الإسلام، وحرصهم على تطبيقها، والتزامهم بالنهج الصالح.

ومن المظاهر الإيجابية الأخرى التي تُبرز مدى رسوخ التعاليم الإسلامية في نفوس الماليين؛ تعلقهم الكبير بآل البيت[33]، واعتناؤهم بشهر رمضان الكريم، خاصة ليلة القدر[34].

خلاصة القول: يتضح جلياً من النماذج التي استعرضناها أنَّ وضعية الإسلام والثقافة العربية الإسلامية على عهد مالي تُبشر بآفاق رحبة، وبمستقبل أفضل، فقد أصبح الإسلام مرجعية دينية لهذه المملكة سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، غير أنَّ بروز عوالم انهيار مالي وسقوطها، خاصة بعد عهد السلطان منسى موسى، وتزامن ذلك مع بداية انهيار دولة بني مرين؛ كان له أثر سلبي على مسالك التجارة الصحراوية، وكل ما يتبع ذلك على المستوى الاقتصادي، أو السياسي، أو الثقافي.

ومما زاد في تعقد المشكل وتعميقه أنَّه لم يكد القرن الثامن الهجري (14م) ينتهي حتى أمست الحضارة والثقافة العربية – في مغرب ومشرق العالم الإسلامي – تنحدر من عليائها وتشهد نكوصاً وانكماشاً خطيرين[35].

 

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.


[1] أسَّس هذه المملكة شعب زنجي أصيل هو شعب الماندي أو الماندينغ، وكلمة مالي تحريف لكلمة ماندنجو، ومعناها الذين يتحدثون لغة الماندي. وقد اعتنق هذا الشعب الإسلام في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (11م)، حيث اعتنق أول ملك منهم الإسلام حينئذ ويُعرف بالمسلماني. راجع في هذا الصدد: أبو عبيد البكري، 1965، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، وهو الجزء الخامس من المسالك والممالك، تحقيق دوسلان، باريس، ميزونوف، ص 178.

ـ  Mauny (R),1961 ; Tableau Géographique de l’ouest Africain au moyen – âge Mem, de I.F.A.N.B , No 61, Dakar, p. 60.

[2] يرجع تأسيس مالي بحسب رواية ابن خلدون إلى سندياتا أو ماري جاطة 1230 ـ 1255، حيث يقول «كان ملكهم الأعظم الذي تغلب على شعب الصوصو وافتتح بلادهم وانتزع الملك من أيديهم اسمه ماري جاطة[بمعنى الأمير الأسد]». راجع: عبد الرحمن ابن خلدون، 1981، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (العبر)، بيروت، دار الفكر، ج 6، ص 413.

[3] بلاد السودان: تُعرف حالياً بـ «إفريقيا الغربية» أو السودان الغربي، ويقع هذا المجال في النطاق الفاصل بين الضفة الجنوبية للصحراء ومقدمة الغابات. وبذلك فالسودانيون يشغلون تقريباً المجال المنحصر فيما بين خطي 11 و17 درجة شمالاً. فيما يشكل المحيط الأطلنطي حداً طبيعياً من جهة الغرب. امتد مجال انتشار بلاد السودان شرقاً إلى بحيرة تشاد وهوامشها. راجع: أحمد الشكري، 2011، الذاكرة الإفريقية في أفق التدين إلى غاية القرن 18 «نموذج بلاد السودان»، الرباط، منشورات معهد البحوث والدراسات الإفريقية، ص 23 -30.

[4] أحمد الشكري، 2004، «التأثيرات الثقافية المتبادلة ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء (الإسلام واللغة العربية، ضمن ندوة التواصل الثقافي بين ضفتي الصحراء الكبرى في إفريقيا، طرابلس الجماهيرية، دار الوليد للنشر والتوزيع، ط 1، ص 268.

[5] الملاحظ أنه مباشرة بعد عهد منسى سليمان الذي يمثل أحد أواخر عهود الازدهار التي عرفتها مالي، ستتميز الأوضاع السياسية بالاضطراب وبسمتين أساسيتين: الأولى هي: الصراع على السلطة، وظهور عناصر تتوخى الوصول إلى العرش، لكن الأرضية والمشروعية التي يرتكزون عليها لم تكن لتساعدهم على ذلك. الثانية هي: تسلط واستبداد الموظفين الكبار من وزراء ومستشارين بالسلطة. مجموع هذه الملاحظات يدل على حالة مرضية أصابت العائلة المالكة، وأذنت بتقلص المملكة لصالح قوى أخرى.

[6] ابن خلدون، كتاب العبر، م. س، ج 6، ص 267. أحمد بن علي القلقشندي، 1985، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج 5، ص 294.

[7] كانت حجته هذه عام 1324م، فكانت بادرة طيبة سار على منوالها سلاطين بلاد السودان وفي طليعتهم الأسكيا الحاج محمد.

 [8] عبد الرحمن السعدي، 1981، تاريخ السودان، وقف على طبعه من غير تغيير نصه مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس بمشاركة تلميذه السيد بنوة، باريس، ميزونوف، ص 7.

[9] فرناند بروديل، 1993، المتوسط والعالم المتوسطي، بيروت، دار المنتخب العربي، ص 75.

[10] أبو العباس أحمد بن المقريزي، 2009، الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك، تحقيق كرم حلمي، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ص 112.

[11] عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، م. س، ص 57.

[12] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني، م. س، ص 210.

[13] كانت الرحلة الحجية السودانية في تلك الفترة تُعاني صعوبات ومعوقات شتى، نذكر منها على سبيل المثال: فقدان الأمن، وبعد المسافة ما بين مالي والديار المقدسة. لكن هذه الصعوبات لم تمنع سلاطين السودان من أداء فرضهم، بل نستشعر إصراراً وعزيمة من جانبهم على ركوب كل المخاطر في هذا السبيل، حتى لو وصل بهم الأمر إلى فقدان حياتهم. فكيف لنا بعد ذلك أن نتصور ونتفهم: أنَّ حجَّ هذا السلطان هو محاولة فقط لإضفاء الشرعية على حُكمه؟! راجع بهذا الصدد: الإسلام والمجتمع السوداني، ص 241 وما يليها.

[14] الإسلام والمجتمع السوداني، ص 211.

[15] ابن فضل الله العمري، 2010، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق عامر النجار، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ص 60. صبح الأعشى، ج 5، ص 294.

[16] صبح الأعشى، ج 5، ص 297.      

[17] الهوسا: هكذا ترد في النصوص العربية القديمة، والكُتَّاب المحدثون لا يتقيدون بهذا الرسم، فبعضهم يكتبها هكذا: «الحوص»، وبعضهم يكتبها كما يلي: «الهوسا». وتشغل شمال نيجيريا.

[18] للوقوف على هذه المراكز الثقافية ودورها في تأطير الإسلام في بلاد السودان يُمكن الرجوع إلى المصادر التالية: ابن بطوطة، 2009، رحلة ابن بطوطة في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق محمد عبد الرحيم، دمشق، دار الأرقم، ط 1، ص 365 وما يليها. عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، م. س، ص 11 - 25. الحسن الوزان، 1983، وصف إفريقيا، ترجمه من الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، ط 2، ج 2، ص 161- 167.

[19] أحمد الشكري، «التأثيرات الثقافية المتبادلة ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء» ، م. س، ص 270.

[20] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني، م. س، ص 211.

[21] محمود كعت، 1981، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وآكابر الناس، باريس، ميزونوف، ص 35.

[22] الإسلام والمجتمع السوداني، ص 210ــ 211.

[23] رحلة ابن بطوطة، ص 377.

[24] يعد ابن بطوطة من أعظم رحالي العصور الوسطى إن لم يكن أعظم رحالي كل العصور، اجتاز الصحراء الكبرى من سجلماسة إلى مالي عبر تغازة وولاتة ليعود إلى المغرب عن طريق تنبكت فكاو فتادمكة. وقد تضمنت رحلة ابن بطوطة ملاحظات تفصيلية عن مدن المنطقة والسكان وعاداتهم والمناخ والمسالك والقوافل التجارية والبضائع المبادلة وأسعارها.. إلخ.

[25] الأرواحية: مصطلح حديث يستعمل في حقل الدراسات الإفريقية للدلالة على المعتقدات الدينية الإفريقية في عصر ما قبل الإسلام.

[26] نذكر من هذه المظاهر على سبيل المثال: عدم تحجب النساء واختلاطهن بالرجال، ونزع الثياب ونثر التراب فوق رؤوسهم عند مخاطبتهم الملك، وهي عادة قديمة ترجع إلى العهد السابق للإسلام. إضافة إلى ظهور الخدم والجواري والبنات الصغار عاريات أمام الناس. لكن هذه السلوكيات ستختفي تدريجياً مع تزايد احتكاك مالي بالشمال الإفريقي، سواء من خلال الرحلات الحجية، أو الرحلات العلمية إلى فاس، إضافة إلى الدور الإيجابي بهذا الصدد للسفارات المتبادلة ما بين سلاطين مالي وسلاطين بني مرين خلال القرن الثامن الهجري (14م). راجع: أحمد الشكري، «التأثيرات الثقافية المتبادلة ما بين المغرب ودول إفريقيا جنوبي الصحراء»، م. س، ص 268.

[27] رحلة ابن بطوطة، م. س، ص 376.

[28] معنى قاسا عند أهل السودان الملكة، وهي شريكته في المُلك على عادة السودان.

[29] رحلة ابن بطوطة، ص 375.

[30] رحلة ابن بطوطة، ص 375.

[31] رحلة ابن بطوطة، ص 376.

[32] Hodgkin (T) 1962, «Islam and National in West Africa», in Journal of African History, Vol. 2, P. 223.

[33] برزت هذه الظاهرة في البلاد منذ منتصف القرن 6هـ/12م مع حكام غانة. وبتطور الإسلام في المنطقة ازداد حب الماليين لآل البيت، ولم يكتفوا برفع نسبهم إليهم، وإنما أصبحوا يحرصون على استقدامهم لبلادهم. ونتبين درجة هذا الحرص من خلال سلوك السلطان منسى موسى في أثناء حجه 724هـ/1324م، حيث استغل وجوده وجلب عدداً من الأشراف القرشيين. راجع: الإسلام والمجتمع السوداني، ص 208.

[34] حسب تلميحات ابن بطوطة، كان سلاطين مالي يحيون شهر رمضان بالذكر الحكيم، وذلك بحضور القاضي والخطيب والفقهاء والأمراء، فكان السلطان يفرق المال على الحاضرين، ويسمونه الزكاة. المرجع نفسه، ص 204.

[35] أحمد الشكري، الإسلام والمجتمع السوداني، م. س، ص 270.

 

أعلى