الأمة الإسلامية قد تواجه الأذى والهزائم، لكنها تبقى صامدة بالإيمان والصبر، لا تُمحى ولا تُقهر، وتظل قوة الله وحكمته ضمان استمرارها، ليظهر نصره على الظالمين مهما طال الظلم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسّلامُ على نبيِّنا مُحمَّد وعلى آلِه
وصحبِه أجمعين، وبعدُ:
لن تُستَباح بَيْضة هذه الأُمَّة مهما بلغ الأعداء من سطوتهم، وقويت شوكتهم،
وتعاظمت جيوشهم، واستطالت أدوات بَطْشهم. ومهما نال الأُمَّة من ضَعْف أو وَهَن أو
تفرُّق؛ فإنها باقية لا بوَهْم القوة، بل بسُنَن الله ستظلّ بشاشة الإيمان صَلْدة
في قلوب أبنائها، لا تَذْبُل تحت الضغط، ولا تنكسر تحت الإيذاء، بل تَمْنحهم قُدرة
نادرة على الصبر والثبات حين تتهاوى المعايير المادية.
وفي الحديث الصحيح، حين سَأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رَبَّه ألَّا يُسلِّط
على هذه الأُمَّة عدوًّا مِن غيرها يستبيح بيضتها؛ فاستجاب الله له.
لم يكن ذلك وعدًا بالعافية الدائمة، ولا بشلّ الصراع، بل حصانة من الفناء الشامل.
فهذه الأُمَّة قد تُهْزَم جيوشها أحيانًا، وتُحتَلّ أراضيها زمنًا، وتُستنزَف
ثرواتها على مراحل، لكنَّها لا تُمْحَى من الوجود، ولا تُقْتَلَع من جذورها، ولا
تُلْغَى من التاريخ؛ لأن ما يَحفظها أعمق من موازين القوة.
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾
[آل عمران: 111]؛ لم تَنْفِ الآية الألمَ، ولم تَلْغِ الجِرَاح، ولا تَعِد بتاريخ
بلا خسائر أو ظهور دائم بلا انكسار، لكنّها تضع حدًّا أعلى للهزيمة. فالأذى فِعْلٌ
تكتيكي، أما الاستباحة فهزيمة وجودية، وما عرفته هذه الأُمَّة عبر تاريخها هو الأول
لا الثاني. فالابتلاء في هذه الأمة سُنَّة لا استثناء: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155]؛ فهو آية للفَرْز، وتمحيص للصفّ، وكشف لزيف
الانتماءات، وإعادة تعريف لمعنى الصمود حين تتساقط الأقنعة.
إن الخطر الحقيقي على هذه الأُمَّة لم يكن يومًا في قوة أعدائها، ولا فيما يُصيبها
من بلاء، بل في لحظات اليأس؛ أن يبثّها المنافقون حين يُصيبهم العمى عن سنن الله،
فتتوهم أن الغلبة المادية قَدَر أبديّ، وأن التفوق العسكري سقفٌ لا يُخْتَرَق، وأن
ميزان القوة إذا مال فلن يَعُود.
والحقيقة أن التاريخ لا يتحرَّك بالقوة وحدها، بل بتكامل الشرط الأخلاقي
والسُّنَنِيّ، وأن نَصْر الله لن يُلْغَى بالهزيمة. فالأرض التي رُويت بدماء
المسلمين لم تكن يومًا أرضًا ميتة، بل مخاض تاريخ؛ تتبدّل فوقها موازين القوة حين
يكتمل شَرْطها، ويُعاد فيها توزيع الغلبة حين تظنّ قوى الطغيان أنها بلغت نهايات
الطريق، فإذا بها عند بدايات الانكشاف، انكشاف يَجْلو لها كم هي أُمَّة الإسلام
عظيمة في صَبْرها، عظيمة في انتصارها، وإنه لقريب.