• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صراع النفوذ والهيمنة في الشرق الأوسط

المقال يستعرض تطور النظام الإقليمي في الشرق الأوسط عبر مراحله التاريخية حتى ما بعد طوفان الأقصى، موضحًا صعود وتراجع القوى الفاعلة (تركيا، إيران، السعودية، إسرائيل) وتأثير الصراعات والتحالفات الدولية، ليخلص إلى أن المنطقة تتجه نحو نظام هشّ يميل لهيمنة صهيو


مَن يتأمل قليلًا المشهد في منطقة الشرق الأوسط خلال الشهور الماضية، يُلاحظ أنه على حافة بركان متفجر.

ففي أعقاب طوفان الأقصى بدأت وتيرة الصراعات في النمو والتصاعد، حتى وصلت إلى حدود غير مسبوقة، تمثلت في عدة أمور: منها معركة لم تُحسم في غزة وسط حرب عصابات ناجحة تخوضها فصائل المقاومة الفلسطينية، تتخللها عربدة صهيونية في المنطقة؛ بدأت بارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة، وليس انتهاءً بقصف مقر قيادات حماس السياسية في الدوحة، وضرب سفن قوافل الإغاثة الإنسانية في البحر المتوسط.

ولكن لم يكن هذا فقط ما شهده الإقليم من تنامي الصراع، فقد حدث انكماش للتمدد الإيراني لأول مرة منذ عقود؛ إثر الضربات الصهيونية الأمريكية على الداخل الإيراني، وتوارَى حزب الله عن المشهد، بعد اغتيال قياداته وكوادر الصف الثاني.

كما سقط نظام دمشق الطائفي، والذي جثم على أهل سوريا أكثر من نصف قرن، ليحكم الثوار بلدهم بدعم تركي واضح، ثم توالى الدعم الخليجي وبالذات من المملكة العربية السعودية.

وهنا تظهر العديد من التساؤلات:

كيف فتحت تلك الصراعات الباب أمام إعادة رسم التوازنات والتحالفات في المنطقة؟ وهل نحن أمام نظام إقليمي جديد أم إعادة تموضع داخل النظام القديم؟ وما شكل النظام الإقليمي الذي يمكن تصوُّر أن ينتج عن كل هذا؟

مع العلم أن هذا الإقليم لا يتأثر فقط بصراعاته الداخلية، ولا يعيش في جزيرة منعزلة، بل يتأثر أيضًا بما يجري عالميًّا على صعيد إعادة تشكيل النظام الدولي، خاصةً بعد ما جرى في قمة منظمة شنغهاي في تيانجين في الصين، والتي عُقِدَت مؤخرًا.

لذلك سيحاول هذا المقال الإجابة عن هذه التساؤلات، مع إدراك أهمية أمرين؛ الأول التعريف بالحدود الجغرافية للإقليم الذي نتحدث عنه. والثاني إيجاد عناصر دراسة النظام الإقليمي لجغرافية ما في علم السياسة، والتي على ضوئها يمكن تحليل ما يجري في منطقتنا.

منطقة الشرق الأوسط وإشكالية الحدود

بصرف النظر عن تسمية الشرق الأوسط، والتي تم إطلاقها على المنطقة مِن قِبَل بريطانيا، وهي التي صاغت مصطلحات لمناطق العالم المختلفة بالنسبة لموقعها هي؛ فقد حدث اختلاف في تسمية المناطق التي تندرج تحت ذلك المصطلح.

فهل يتم اعتبار المناطق التي لها نفس الخصائص الجغرافية، أم الثقافية (مثل اللغة العربية والإسلام)، أم السياسية (مثل الصراعات المشتركة)، أو الاقتصادية كالاعتماد على النفط كمورد رئيس.

لكنّ التعريف الأكثر شيوعًا، والذي يتم التعامل على أساسه في أكثر معاهد البحث والدراسات بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط؛ يتضمن أن الحدود الشمالية لهذا الإقليم هي تركيا، وذلك بسبب دورها السياسي والتاريخي (الدولة العثمانية) وتفاعلاتها مع المنطقة.

أما حدود الإقليم الجنوبية، فتشمل عمان واليمن، وتمتد إلى البحر الأحمر وبحر العرب.

أما الحدود الشرقية، فتشمل إيران مع أفغانستان وباكستان، وإن كانت بعض التعريفات تعتبر باكستان وأفغانستان جزءًا من جنوب آسيا.

وفي النهاية، تضم الحدود الغربية دول شمال إفريقيا، مثل ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، بالرغم من أن بعض مراكز البحث تفصل هذه الدول عن الشرق الأوسط.

النظام الإقليمي

يتم تعريف النظام الإقليمي في أدبيات علم السياسة بأنه مجموعة من الدول المتفاعلة جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا في منطقة معينة. ودراسة هذه التفاعلات داخل تلك المنطقة تتطلب تحليل عدة عناصر رئيسية لفهم ديناميكيات التفاعلات وتأثيراتها، منها: السياق التاريخي، الفاعلون الأساسيون، العلاقة بالنظام الدولي، التفاعلات والعلاقات.

هذه العناصر الأربعة، هي التي سنعتمد عليها في فهم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.

أولاً: المراحل التاريخية لنشأة النظام الإقليمي الحالي

حتى يتم فَهْم النظام الإقليمي الحالي لمنطقة الشرق الأوسط، ينبغي لنا تتبُّع المراحل التاريخية التي مرَّ بها مع بداية القرن العشرين حتى وصل إلى شكله في اللحظة الراهنة، على النحو التالي:

-المرحلة الأولى، والتي بدأت مع قرب انتهاء الحرب العالمية الأولى والانهيار الوشيك للدولة العثمانية، والتي كانت تسيطر على معظم المنطقة لأكثر من 600 عام، ويمكن اعتبار أن تلك المرحل تمتد من عام 1918م حتى قرب انتصاف القرن العشرين.

كانت أبرز خصائص تلك المرحلة، تدخُّل أكبر قوتين في الغرب وهما بريطانيا وفرنسا، لتشكيل نظام إقليمي للمنطقة يضمن بقاء هيمنة الغرب السياسية والعسكرية والثقافية.

يقوم هذا النظام الذي أسَّسه الغرب للتحكم في المنطقة على أُسُس ثلاثة: التقسيم، وزرع الكيان الصهيوني، وصنع أو تطويع النظم المُوالية.

ولذلك تمت اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916م، حين قسمت المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، مما أدّى إلى إنشاء حدود مصطنعة تثير النزعات الوطنية وتتعصب لها، وصدر الوعد البريطاني لليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين على لسان وزير الخارجية البريطاني بلفور في عام 1917م.

وتم تشكيل نُظُم تُدير الحدود التي جرى تقسيمها، وتدور في فلك التبعية الفكرية والسياسية والاقتصادية داخل المنظومة الغربية، تقودها نُخَب سياسية وفكرية جرى تربيتها على أعين الغرب.

-المرحلة الثانية، وهي مرحلة الحرب الباردة، وتمتد من بداية الخمسينيات حتى بداية التسعينيات؛ حيث جرى استقطاب نُظُم المنطقة بين زعيمي الاستعمار حينذاك، وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

وكانت أبرز معالم تلك الفترة بالنسبة للنظام الإقليمي هي الصعود المصري، ممثلًا في شعارات القومية العربية، ثم انهياره مع هزيمة عام 1967م، وأيضًا صعود عراقي وتحدِّيه للهيمنة الدولية، ثم ما لبث أن انهار كذلك بعد أن تم خداعه مِن قِبَل الولايات المتحدة وجرّه إلى معركة خاسرة، أنهت قوته.

-المرحلة الثالثة، وتبدأ مع انتصاف التسعينيات إلى نهاية القرن العشرين.

فقد شهدت تلك الفترة انتهاء الحرب الباردة، وتصدُّر أمريكا النظام العالمي، باعتبارها القطب الوحيد.

وكانت من أبرز معالم تاريخ الإقليم، محاولات أمريكية لإنهاء القضية الفلسطينية، وإقامة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة وقطاع غزة، فكانت اتفاقيات أوسلو؛ حيث ظهر لأول مرة كيان فلسطيني له مؤسساته على الأراضي الفلسطينية، ولكنّ المفاوضات ما لبثت أن انهارت، مع التعنُّت الصهيوني برفض إدراج القدس أو حتى منطقة الأقصى كجزء من الكيان الفلسطيني الموجود. وكردّ فِعْل اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبدا أن المنطقة تتحضَّر لتقلُّبات قادمة.

-المرحلة الرابعة، وهي تبدأ من بدايات القرن الحادي والعشرين إلى نهاية عام 2010م.

حيث كانت من أبرز معالمها ضربات 11 سبتمبر، مِن قِبَل جماعات داخل الإقليم تتحدَّى الهيمنة الأمريكية في العالم، وما أتبعها من غزو أمريكي مدعوم من تحالف 40 دولة تابعة للغرب وبمساهمة إيرانية، ليتم احتلال أفغانستان والعراق، ثم ما لبثت أن اندلعت حروب عصابات في كلٍّ من البلدين المحتلين.

وتشهد تلك الفترة صعود قوتين في الإقليم: القوة الإيرانية بأذرعها والتي امتدت في المنطقة.

أما القوة الأخرى التي شهدت صعودها تلك الحقبة، فكانت تركيا ممثلة في نجاح حزب العدالة التركي ووصوله الى الحكم، وحصوله على تأييد شعبي وشبه رسمي في المنطقة نتيجة استخدامه إستراتيجية «تصفير المشكلات» مع دول الإقليم.

-المرحلة الخامسة، وهي تمتد من عام 2011م إلى ما قبل طوفان الأقصى؛ فقد شهد الإقليم صعود وسقوط ما يُعرَف بالربيع العربي، والذي ترتب عليه شبه انهيار لدول مثل ليبيا وسوريا واليمن والسودان، وعانت هذه الدول من حروب أهلية، يرجع جانب من أسبابها إلى تدخُّل دول داخل الإقليم وخارجه لإعادة تشكيل خريطة الصراع في الإقليم؛ لتتلاءم مع طموحاتها وأهدافها.

وانتهز الكيان الصهيوني تلك الفرصة، لمحاولة تصفية القضية الفلسطينية، والدخول بمساعدة أمريكية في خطوات واسعة للتطبيع مع دول في المنطقة، تتضمن غسيلًا فكريًّا كالاتفاقيات الإبراهيمية، أو خطط مشروعات اقتصادية كممر داود وغيره.

كما شهدت تلك الفترة توغُّل إيران في المنطقة، وتمكُّنها من السيطرة على القرار في أربع عواصم عربية، وفي نفس الوقت كان هناك تمدُّد لتركيا عبر تدخلات عسكرية محسوبة لأول مرة؛ لنصرة بعض أطراف الصراع في ليبيا وسوريا وأذربيجان والصومال.

وبرز أيضًا في هذه الحقبة، ظهور طموحات لأطراف عربية متنافسة في أن يكون لها مشاريع للهيمنة إقليميًّا، وتوظيف ثرواتها في هذا الاتجاه.

وتأثر الإقليم في هذه الفترة بحدثين على الصعيد الدولي؛ أولهما الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وعودة طالبان للحكم. والآخر: الغزو الروسي لأوكرانيا، وتكتُّل الغرب لمساندتها.

-المرحلة الأخيرة، وهي تبدأ مع حرب طوفان الأقصى، وتمتد إلى الأيام الحالية.

وتغيَّر على إثرها وضع الكيان الصهيوني في الإقليم؛ حيث انهارت نظرية الردع التي أسَّسها على مدار تاريخه الطويل، ليدخل في مواجهة حرب عصابات طويلة مع المقاومة الفلسطينية، وهي جماعات مسلحة بأسلحة خفيفة ومتوسطة ولا تمتلك طائرات أو مدرعات، وتعتمد على الأنفاق في حربها، الأمر الذي أفقد الكيان توازنه، وحاول استعادته عبر قيامه بأعمال وُصِفَت دوليًّا بأنها إبادة جماعية بقتله النساء والأطفال وشروعه في التهجير.

وبعد أن لم تُجْدِ هذه المحاولات نفعًا في هزيمة المقاومة، استدار الكيان لضرب إيران وذيولها، محاولًا استعادة هيبته العسكرية في الإقليم، ونجح في إلحاق هزيمة بإيران وذراعها الرئيسي وهو حزب الله، أخرجتهما من حلبة الصراع على النفوذ والهيمنة في المنطقة.

واستغلت تركيا وضع النظام السوري، وضعف الدعم الروسي والإيراني له؛ نتيجة انشغالهما سواء في حرب أوكرانيا بالنسبة لروسيا، أو تراجع النفوذ الإيراني نتيجة الضربات الصهيونية، فشجَّعت فصائل الثورة السورية للتحرك لإسقاط النظام السوري، ووصلت إلى معظم محافظات الدولة، وأعلنت نظامًا جديدًا، واكتسبت تركيا عمقًا إستراتيجيًّا مهمًّا في المنطقة.

وأثّر الطوفان أيضًا على مشاريع التطبيع في المنطقة، فتراجعت أو تباطأت وتيرتها، ومعها تأخرت قليلًا أحلام بعض دول المنطقة في التقدم والهيمنة.

 

استعراض هذه المراحل يظهر لنا عدة أمور:

أولًا: كيف انتقل الإقليم من جغرافية موحدة تسيطر عليه ما يُوصَف في علم السياسة بإمبراطورية كبرى (الدولة العثمانية)، إلى نظام مصنوع من دول قومية مُجزَّأة، تم تشكيلها من جانب إمبراطورية كبرى (الغرب)، مع وجود قوى داخل الإقليم سواء دول أو مجموعات تقاوم هيمنة الإمبراطورية الكبرى، وتحاول تشكيله بما يتناسب مع هوية وتاريخ الإقليم.

ثانيًا: يُظهر لنا الاستعراض التاريخي أيضًا الفاعلين الأساسيين في المنطقة من دول وحركات، والتي تستطيع أن تقوم بأدوار فاعلة في توجيه دفة الإقليم في أيّ اتجاه يسير، ومن هنا نأتي إلى العنصر الثاني الذي نعتمد عليه في فهم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط الحالي والمستقبلي.

ثانيًا: الفاعلون الرئيسيون

مفهوم اللاعب الإقليمي أو القوة الإقليمية في العلاقات الدولية لا يقوم على معيار واحد فقط، بل على مجموعة من الشروط والمعايير المتداخلة.

ويمكن تقسيمها إلى خمسة مستويات أساسية:

أ- القوة الجغرافية والديموغرافية: وتشمل، امتلاك موقع جغرافي إستراتيجي (مضائق، بحار، حدود مع عدة دول)، ومساحة واسعة نسبيًّا تسمح بعمق إستراتيجي، وتعداد سكاني كبير، أو على الأقل مؤثر في السوق والعمل.

ب-القدرات العسكرية والأمنية، ومنها جيش قوي وقادر على حماية الدولة، والتدخل خارج حدودها عند الحاجة، وامتلاك صناعات عسكرية أو تكنولوجيا دفاعية متطورة، ومنها القدرة على لعب دور أمني في الإقليم، سواء كوسيط، أو ضامن، أو طرف ضاغط.

جـ- القدرات الاقتصادية، وهي الاقتصاد المتنوع أو امتلاك موارد إستراتيجية مثل النفط والغاز أو التكنولوجيا المتقدمة، أو القدرة على التحكم في جزء من التجارة أو الطاقة أو البنية التحتية الإقليمية.

د- القوة السياسية والدبلوماسية، ومن بينها، نظام سياسي مستقر نسبيًّا، ونفوذ دبلوماسي وقدرة على قيادة تحالفات أو مبادرات إقليمية، وامتلاك رؤية أو مشروع سياسي (قومي/ديني/اقتصادي) ينعكس على الجوار.

هـ- القوة الثقافية والأيديولوجية (القوة الناعمة)، وتتضمن تأثيرًا إعلاميًّا أو ثقافيًّا أو دينيًّا يتجاوز حدود الدولة، والقدرة على تشكيل السرديات والرأي العام في المنطقة، وامتلاكها لأدوات تأثير مثل الجامعات، الإعلام، الإنتاج الثقافي، أو الرمزية الدينية.

حاليًّا هناك أربعة أطراف رئيسية في المنطقة، يمكن أن ينطبق عليها جزء كبير من هذه المعايير، وهي: تركيا، وإيران، والسعودية، والكيان الصهيوني.

وسنقوم بالنظر في كل دولة منهم على حدة، وتحليل موارد القوة لديها، وما تمتلكه من العناصر التي ساهمت في تعزيز نفوذها الإقليمي.

1- تركيا، جغرافيًّا: تقع بين آسيا وأوروبا، وتتحكم في مضيقي البوسفور والدردنيل، وديموغرافيًّا: لديها أكثر من 85 مليون نسمة، وعسكريًّا: ثاني أكبر جيش في الناتو، ولديها صناعة عسكرية متطورة، واقتصاديًّا: لديها اقتصاد صناعي وسياحي متنوّع، رغم الأزمات التضخمية، وسياسيًّا: لها نفوذ واسع في سوريا وليبيا، وتحاول لعب دور في القوقاز والبلقان، بل يمتد إلى جنوب آسيا في باكستان وأفغانستان، وشرق إفريقيا في الصومال. ولديها قوة ناعمة ضخمة: كتأثير ثقافي (المسلسلات التركية)، وتعليمي، وديني (التيار العثماني الجديد). ولذلك تبرز تركيا كقوة إقليمية عابرة، من الشرق الأوسط إلى البلقان إلى جنوب آسيا إلى إفريقيا.

2- إيران، جغرافيًّا وديموغرافيًّا: لها مساحة شاسعة، وموقع على الخليج والمحيط، وأكثر من 85 مليون نسمة، وعسكريًّا: تمتلك جيشًا كبيرًا، بالإضافة إلى قوات الحرس الثوري، وعندها قدرات صاروخية وطائرات مُسيَّرة، ونفوذ عبر أذرع مسلحة (حزب الله، الحوثيون، ميليشيات في العراق)، ولديها برنامج نووي، وبالرغم من ذلك تراجع دورها الإقليمي مؤخرًا نتيجة الضربات الصهيونية والأمريكية.

واقتصاديًّا: تعاني من العقوبات، لكنها تمتلك احتياطيًّا ضخمًا من النفط والغاز.

وسياسيًّا: يسيطر عليها نظام أيديولوجي (ولاية الفقيه)، ويحاول تصدير نموذجه الديني والسياسي. بالنسبة إلى القوة الناعمة: فلها تأثير مذهبي (شيعي) في العراق ولبنان واليمن والبحرين، كما يتعاطف معها جزء من جماهير أهل السنة، نتيجة رفعها شعارات مقاومة الكيان.

والمحصلة: لاعب إقليمي، فقد كثيرًا من قوته وحتى تأثيره.

3- السعودية، جغرافيًّا: أكبر مساحة في شبه الجزيرة العربية، قلب العالم الإسلامي، وديموغرافيًّا: سكانها حوالي 36 مليون، وهو صغير نسبيًّا إذا قارناه بكلٍّ من تركيا وإيران، وعسكريًّا: لديها جيش مُجهَّز بأحدث الأسلحة، وإن كان يعتمد على الاستيراد أكثر من التصنيع، واقتصاديًّا: لديها قوة مالية هائلة ممثلة في النفط، وصندوق الاستثمارات العامة، وعوائد الحج والعمرة، وسياسيًّا: تتمتع المملكة بنفوذ واسع في العالم الإسلامي وخاصة في الخليج، كما لديها مشروع لقيادة المنطقة، يعتمد في جوهره على رؤية ٢٠٣٠.

أما القوة الناعمة: فلها المكانة الدينية بوجود الحرمين، كما شيَّدت مشروعات رياضية وثقافية عالمية.

والمحصلة، قوة إقليمية ذات بُعْد اقتصادي وروحي.

4- دولة الكيان الصهيوني

منذ قيام دولة الكيان الصهيوني عام 1947م، يحتار المرء كيف تحوَّل هذا الكيان الغاصب من دولة محاصَرة إقليميًّا بالكامل، وجزئيًّا على الصعيد الدولي إلى قوة مهيمنة: تتحكم في مجريات الصراع، وتعربد وتصول وتجول في أنحاء المنطقة، ليس لها خطوط حمراء تقف عندها.

فالدولة الصهيونية تُلبّي كثيرًا من شروط القوة الإقليمية، بموقع إستراتيجي في قلب المنطقة، وبتفوق عسكري (نووي غير معلن ودفاع جوي متقدم)، واقتصاد تكنولوجي قوي، وتحالفات مع بعض الدول في المنطقة عبر اتفاقيات إبراهيم، ولديها نظام سياسي قوي، وتأثير كبير في إعادة تشكيل التوازن الأمني بعد أكتوبر 2023م، مما يجعلها تبدو كمهندس للأمن الإقليمي.

أما دول أخرى مثل مصر أو الإمارات أو قطر، فتنطبق عليها بعض الشروط، لكنها لا تصل إلى مستوى التأثير الكبير للقوى الأربع الرئيسية.

ثالثًا: تأثير الصراع الدولي

هناك حدثان دوليان أثَّرا على الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط: الحرب في أوكرانيا، وإستراتيجية العزلة الأمريكية في عهد ترامب.

فالنزاع الأوكراني الروسي لم يكن معزولًا، بل انعكس بشكل مباشر وغير مباشر على علاقات القوى الإقليمية، على مستويات ثلاثة: الطاقة، وتغيير توازنات القوى، والتحالفات.

فعلى صعيد الطاقة، فالحرب في أوكرانيا عطَّلت إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، الأمر الذي جعل الشرق الأوسط، وخاصة السعودية، شريكًا أساسيًّا لأوروبا في تأمين الغاز والنفط، وهذا عزَّز الوزن الجيوسياسي لدول الخليج وعلى رأسها السعودية، وزادت من قدرتها على المناورة بين الغرب وروسيا.

ومن ناحية أخرى أضعفت الحرب نفوذ روسيا في المنطقة، وقدرتها على دعم حلفائها مثل نظام الأسد في سوريا، وهذا أدّى إلى استغلال تركيا الفرصة فدفعت بقوى المعارضة السورية إلى الوصول للحكم وإسقاط نظام الأسد.

أما على صعيد التحالفات، فقد دفَع الغزو الروسي لأوكرانيا، إلى زيادة حدة التنافس والاستقطاب بين الغرب وروسيا، وهذا الأمر أوجد مساحة للتحرك لكلٍّ من تركيا والسعودية، وخاصة تركيا لتوفر لها مناورة بين القطبين، ولتجعل من التحالف مع روسيا ورقة تحاول بها الحد من الجموح الصهيوني في المنطقة.

أما عن تأثير إستراتيجية «أمريكا الجديدة» في عهد ترامب على الوضع الإقليمي؛ فيشير عدد من خبراء النظام الدولي إلى أن ترامب يسعى للابتعاد عن النهج الأمريكي التقليدي الذي يُركّز على هيمنة القطب الأوحد (الولايات المتحدة) بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. بدلاً من ذلك، يبدو أنه يدعم توازن قوى جديدًا يعتمد على ثلاثة أقطاب رئيسية: الولايات المتحدة، روسيا، والصين.

هذا التوجُّه يعكس رغبته في طَيّ صفحة الحقبة التي كانت فيها الولايات المتحدة حارس النظام العالمي، والتركيز على نهج أكثر براغماتية يعتمد على الصفقات الاقتصادية والسياسية.

ووفق التصور الأمريكي لتقاسم النفوذ؛ فإن الولايات المتحدة ستظل القوة الأكثر نفوذًا في الشرق الأوسط، ولكن نهجها يتحوَّل من الهيمنة الشاملة إلى تركيز براغماتي على الصفقات الاقتصادية والدفاعية. وهذا يُعزّز التحالفات مع الدول الخليجية وبالذات السعودية.

كما أن هذه الإستراتيجية ستزيد من مكانة الكيان الصهيوني من خلال صفقات ضخمة، مثل استثمارات بتريليونات الدولارات واتفاقيات الدفاع والذكاء الاصطناعي. كما يدعم توسيع اتفاقيات «أبراهام» لتشمل دولًا أخرى، مما يُعزّز النفوذ الأمريكي في مواجهة إيران.

وفي نفس الوقت، فإن التصوّر الأمريكي لتقاسم النفوذ قد يُدْخِل سوريا في مناطق النفوذ الروسي، وهذا الأمر سيُقلّل من التأثير التركي فيها، ولكنّه في نفس الوقت سيَحُدّ من التدخلات الصهيونية في سوريا.

ونظرية ترامب في تقاسم النفوذ، قد تمنح الصين نفوذًا اقتصاديًّا متناميًا في إيران، ويمكن أن يتحوَّل إلى إعادة تسليح إيران مجددًا بأنظمة دفاع جوي حديثة، وطائرات شبحية من الجيل الخامس، الأمر الذي يزيد من احتمالات فرص صعودها إقليميًّا مجددًا.

رابعًا: التفاعلات والعلاقات

من بين عناصر دراسة النظم الإقليمية هي التفاعلات والعلاقات ما بين القوى المؤثرة في النظام. وتشمل العلاقات التفاعلية: التعاون، والصراع، والتجارة، والتحالفات، وتوزيع القوة (مثل أحادي القطب أو متعدد الأقطاب).

وعند تطبيق تلك النظرية على منطقة الشرق الأوسط نجد أن هناك نوعين من تلك التفاعلات: الصراع، والتعاون.

1-أنماط الصراع:

هناك الصراع العسكري: وهذا ينطبق على ما جرى بين الكيان الصهيوني وإيران وأذرعها؛ حيث أدَّت الضربات الصهيونية على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو الماضي إلى إضعاف برنامجها النووي، كما وجَّه الكيان ضربات مباشرة أيضًا إلى وكلاء إيران سواء حزب الله أو الحوثيين.

وتُعدّ الضربة غير المسبوقة على قطر؛ -والتي استهدفت مبنًى يستخدمه قادة حماس-، من بين هذا النمط من الصراع، ويزيد من الهشاشة الإقليمية، مع ارتفاع خطر التصعيد إلى حرب شاملة.

وهناك أيضًا الصراع السياسي، وهذا يظهر بوضوح بين تركيا والكيان الصهيوني، خاصةً في الشهور الأخيرة، مع وصول قوات الثورة السورية إلى دمشق بدعم تركي صريح، كما تحتضن تركيا بعضًا من قيادات حماس، وينبري رئيسها في الدفاع عنها، وعن مقاومتها للاحتلال، ويُندِّد بجرائم الحرب في غزة، ومؤخرًا منَع تمامًا التعامل الاقتصادي مع الكيان، ورفَض عبور الطائرات المدنية من الكيان عبر الأجواء التركية.

بينما على الجانب الآخر، توالت تحذيرات زعماء الكيان أنهم لن يسمحوا بوجود خلافة إسلامية في شرق المتوسط، وهددوا تركيا بمصير إيران، الأمر الذي جعل الأتراك يستعرضون إنجازاتهم في مجال التسليح ومشروعاتهم في إنتاج الصواريخ والطائرات الشبحية.

ولكنَّ الأمر الأكثر ترجيحًا أن الصراع بين الدولتين لن يصل إلى صراع عسكري، فقد نقلت قناة «كان» العبرية عن مسؤول أمني صهيوني، أن الكيان قد فكّر في مهاجمة قادة حماس في تركيا، لكنَّه اختار قطر بدلًا من ذلك، خوفًا من تداعيات سياسية واقتصادية بسبب عضوية تركيا في الناتو.

2-أنماط التعاون والتحالف:

هذه هي الصورة الثانية من التفاعلات داخل الإقليم، وتتعدد صورها؛ فمنها التعاون الاقتصادي والأمني: ويبرز هذا النمط في التفاعلات بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربية، ممثلة في تعاون اقتصادي ودبلوماسي وثقافي، وجاءت مشروعات مثل اتفاقيات إبراهيم وممر داود في هذا الاتجاه.

ولكن بعد الضربات الصهيونية التي أضعفت إيران؛ حيث الخوف من التمدد إلى دولهم من أهم الأسباب في لجوء بعض العرب إلى الكيان، وعلى إثرها أصاب الفتور التعاون العربي مع الكيان بعد أن ضعف الخطر الإيراني.

طبيعة النظام الإقليمي (متعدد الأقطاب أم أحادي القطب؟)

بعد ضربات الكيان الصهيوني يمينًا ويسارًا، والتي طالت عدة دول في الإقليم، بل حتى وصلت اعتداءاته إلى نشطاء أوروبا على سفنهم التي أبحرت لكسر الحصار؛ فإن النظام الإقليمي يميل إلى حدّ ما نحو نظام أحادي القطب مع الكيان الصهيوني كقطب مهيمن، خاصةً بعد إضعاف إيران نوويًّا، وإثارة مخاوف في الخليج من توسُّع الضربات، وميل تركيا إلى عدم الدخول في صدام مسلح لحسابات مُعقَّدة، حتى أصبح سلوك الكيان غير مُقيَّد في عملياته عبر المنطقة، خاصةً أنه مدعوم بشكلٍ مُطلَق من أقوى قوة عسكرية في العالم وهي أمريكا.

ومع ذلك، يحتفظ النظام بسمات تعدُّد الأقطاب بسبب أن الهيمنة الصهيونية لم تستطع الانتصار على المقاومة في غزة، كما أن تنامي الدور السعودي (اقتصاديًّا ودينيًّا)، والتركي (وساطة في سوريا وليبيا)، والإيراني رغم ضعفه (عبر وكلائها)، مما يجعل الهيمنة الإسرائيلية غير كاملة.

والاحتمالات تبقى مفتوحة لتصعيد إقليمي أوسع لمنع الكيان الصهيوني من التفرُّد بالهيمنة، مع ازدياد عزلة الكيان إقليميًّا بعد ضرب قطر. هذا التحوُّل يُعزّز من الفوضى، مع زيادة الإنفاق العسكري وتآكل احترام القانون الدولي بسبب المعايير المزدوجة في المنطقة.

 

أعلى