تصاعدات الاحتجاجات الشعبية في إندونيسيا، في الآونة الأخيرة، ورغم أن الرئيس الحالي برابوو سوبانتو الذي وصل للحكم بانتخابات تعددية حرة، إلا أن الشعب الإندونيسي لم يمهله عامه الأول، فما الذي دفع الشباب الإندونيسي للاحتجاج ضد إدارته بهذه السرعة؟
تشهد إندونيسيا، أحد أكبر الاقتصادات الناشئة في جنوب شرق آسيا وأكبر دولة مسلمة من
حيث عدد السكان، موجة احتجاجات عارمة أعادت إلى الأذهان شبح أزمات التسعينيات التي
أطاحت بحكم سوهارتو. فبينما لا يزال الرئيس برابوو سوبانتو في عامه الأول بالسلطة،
يواجه غضباً شعبياً متصاعداً يتجاوز القرارات الآنية إلى جذور أعمق متصلة بتاريخ
طويل من الفساد البنيوي، وعنف الدولة، وهيمنة النخبة العسكرية–السياسية
على مقاليد الحكم. ما يحدث اليوم ليس مجرد رد فعل على امتيازات البرلمان أو سياسات
تقشفية، بل هو تعبير عن تراكمات بنيوية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وعن فجوة
آخذة في الاتساع بين تطلعات جيل شبابي واسع وبين واقع دولة ما زالت أسيرة إرثها
القديم.
1.
إرث العلاقة المدنية–العسكرية:
تاريخ لا يغيب
عاشت إندونيسيا عقوداً تحت الحكم العسكري أو في ظله غير المباشر. ومع وصول برابوو،
الجنرال السابق ووزير الدفاع الأسبق، إلى الرئاسة، تجددت المخاوف من إعادة إنتاج
هذا النموذج. التعديلات القانونية الأخيرة التي وسّعت صلاحيات الجيش في المجال
المدني اعتُبرت خطوة إلى الوراء تهدد المكتسبات الديمقراطية الهشة.
وصل الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو إلى كرسي الرئاسة في جاكارتا بعد الفوز
بالانتخابات الرئاسية الإندونيسية لعام 2024 من الدورة الأولى، وحصل على نحو 58.6%
من الأصوات، وأدى اليمين الدستورية رئيسا للبلاد يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول.
وهو ينتمي إلى بالأصالة إلى النخبة العسكرية بالإضافة إلى كونه رجل أعمال بعد
التقاعد من الحياة العسكرية ومشتبك بقدر كبير مع النخبة الحاكمة فهو صهر الرئيس
الأسبق سوهارتو.
تزوج برابوو عام 1983 من ستي هدياتي هاريادي، الابنة الثانية لسوهارتو، بعد تخرجه
من الأكاديمية العسكرية عام 1974 وخدم في الجيش لمدة 28 عاما، شارك في بعثة عسكرية
إلى تيمور الشرقية في عام 1976 لقمع الحركة الانفصالية هناك.
وأصبح برابوو قائدا لكتيبة المشاة المحمولة جوا التابعة لقيادة الاحتياط
الإستراتيجي للجيش (كوستراد) في عام 1987 بعد إكمال دورة ضباط القوات الخاصة في
قاعدة "فورت بينينغ" بالولايات المتحدة.
وبعد تنحي سوهارتو عن منصبه رئيسا للبلاد في مايو/أيار 1998 وبداية فترة النظام
الجديد القائم على التعددية الحزبية والديمقراطية، تولى برابوو قيادة كلية القيادة
والأركان في باندونغ، وبعدها بفترة وجيزة تم تسريحه من الجيش بعد اتهامه بالتورط في
اختطاف طلاب نشطاء في عام 1998 وانتهاكات لحقوق الإنسان في بابوا وتيمور الشرقية.
|
اقتصاد إندونيسيا ما زال يعاني من تشوهات هيكلية تعود لعصر سوهارتو، حين
تركزت الثروة في أيدي مجموعة قليلة من العائلات. تحت حكم برابوو، زادت
الفجوة بفعل سياسات تقشفية |
وجاء تسريحه من الخدمة العسكرية أيضا بعد أن أمر قواته بمحاصرة القصر الرئاسي في
عهد يوسف حبيبي، الذي خلف سوهارتو في حكم البلاد، مما دفع مجلس شرف الضباط لمحاكمته
أمام محكمة عسكرية، وفصله من الجيش في 14 يوليو/تموز 1998 بعد إدانته بـ7 تهم.
توجه إثر إقالته للإقامة في منفى اختياري في الأردن، ومنه إلى بلدان أوروبية، ثم
عاد إلى إندونيسيا عام 2001، وسار على خطى شقيقه الأصغر رجل الأعمال هاشم
جوجوهاديكوسومو، الذي يعد أحد أغنى رجال الأعمال في إندونيسيا، وله أصول في جميع
أنحاء العالم من إندونيسيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية.
أنشأ برابوو عدة شركات تعمل في مجال الطاقة وزيت النخيل والفحم والغاز والتعدين
والزراعة وصناعات صيد الأسماك.
وفرضت عليه الولايات المتحدة وعلى مجموعة من قيادة القوات الخاصة حظر السفر إلى
أراضيها، بسبب اتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد شعب تيمور الشرقية،
واستمر هذا الحظر حتى عام 2022، عندما تم رفعه فعليا حتى يتمكن برابوو من زيارة
الولايات المتحدة بصفته وزيرا للدفاع في إندونيسيا.
لذا فإن أي تصرفات أو قرارات سياسية أو اقتصادية للرجل تستعدي مباشرة تاريخه
العسكري السابق وقربه من الرئيس سوهارتو التي ثار الشعب الإندونيسي عليه، فالشارع
الإندونيسي وإن كان قد انتخب الرجل، إلا أنه يقف متوجسا من قراراته ولديه خشية
كبيرة من عودة نهج الديكتاتورية العسكرية مرة أخرى.
2. فساد النخبة والامتيازات: رمز للظلم المزمن
الشرارة التي فجّرت الغضب الشعبي كانت قرار البرلمان رفع بدلات السكن لأعضائه إلى
50 مليون روبية شهرياً (نحو 3000 دولار)، أي ما يعادل عشرة أضعاف الحد الأدنى
للأجور في جاكرتا، وعشرين ضعفاً في المناطق الفقيرة. هذا القرار اعتُبر دليلاً
جديداً على "الفساد المؤسسي" المتجذر منذ ما بعد إصلاحات 1998، حيث تسيطر عائلات
قليلة على مفاصل الاقتصاد والسياسة. البرلمان، الذي يعاني أصلاً من انعدام الثقة
الشعبية، بات رمزاً للإسراف، في وقت يعاني فيه المواطنون من غياب الأمن الاقتصادي.
لذلك اتسعت المطالب من رفض الامتيازات إلى الدعوة لحل البرلمان وإصلاح النظام
الحزبي، وسط اتهامات للرئيس برابوو بتعزيز نفوذ الجيش على حساب المدنيين، بما يعيد
إلى الأذهان ممارسات الديكتاتورية العسكرية السابقة.
3. قمع الشرطة وعنف الدولة: استمرارية مقلقة
وفاة الشاب أفان كورنياوان (21 عاماً) بعد أن دهسته عربة شرطة مدرعة في 29 أغسطس
2025 كانت نقطة تحول؛ إذ تحولت الاحتجاجات إلى صدامات دامية خلّفت ستة قتلى ومئات
الجرحى وفق تقارير حقوقية. هذه الحادثة ليست معزولة، بل تعكس تاريخاً طويلاً من عنف
الأجهزة الأمنية منذ عهد سوهارتو. وبرابوو نفسه، الذي تولى مناصب عسكرية بارزة في
تلك الحقبة، ارتبط اسمه بعمليات خطف وقمع ضد ناشطين عام 1998. واليوم، أوامره
باستخدام "القمع الصارم" ضد ما وصفه بـ"الإرهابيين" تثير المخاوف من عودة الحكم
العسكري المباشر، بعد اعتقال أكثر من 1200 شخص وخسائر اقتصادية تجاوزت 3 مليارات
دولار. الحركات الطلابية، وعلى رأسها تنسيقية
BEM SI، رفعت مطالب واضحة: إصلاح
جهاز الشرطة وتقليص نفوذ الجيش في الشؤون المدنية.
|
جيل زد الذي اقتلع منظومة الحكومة الفاسدة في سريلانكا، كان دافعا أيضا في
تحريك الشارع، وانتشار عدوى التغيير، وإندونيسيا نفسها كانت ملهمة في ذلك
وقد سبق للتيارات الطلابية أن اقتلعت نظام سوهارتو العتيد.
|
4. الأزمة الاقتصادية: من تركة سوهارتو إلى سياسات التقشف
اقتصاد إندونيسيا ما زال يعاني من تشوهات هيكلية تعود لعصر سوهارتو، حين تركزت
الثروة في أيدي مجموعة قليلة من العائلات. تحت حكم برابوو، زادت الفجوة بفعل سياسات
تقشفية
اقتطعت
18 مليار دولار من الإنفاق الحكومي لصالح برامج دعائية مثل "الوجبات المدرسية
المجانية"، مما أدى إلى خفض ميزانيات التعليم والصحة والبنية التحتية. تصاعدت
الضرائب المحلية في بعض المناطق بنسبة 1000%، وارتفع التضخم إلى 2.3%، بينما ارتفعت
أسعار السلع الأساسية كالخدمات والمياه والأرز. هذه التطورات انعكست مباشرة على
الطبقات الفقيرة والمتوسطة، في وقت لم يحقق فيه الاقتصاد سوى نمو متواضع (4.8%)
مقارنة بوعود برابوو بتحقيق 8%. هذه الإخفاقات أحيت ذاكرة أزمة 1997–1998
التي أطاحت بسوهارتو، وفتحت الباب أمام شعور عام بأن التاريخ يعيد نفسه.
5. الشباب وقود الاحتجاجات
يمثل الشباب أكثر من نصف سكان إندونيسيا، ومعظمهم دون الثلاثين. هذا الجيل يملك
توقعات عالية بشأن الوظائف والتعليم والخدمات، لكنه يصطدم بواقع "التشغيل الناقص"
والوظائف الهشة. ولذا، لم يكن غريباً أن يقود الطلاب والناشطون الشباب موجة
الاحتجاجات الأخيرة، باعتبارهم الفئة الأكثر إحساساً بانسداد الأفق.
رغم أن برابوو لم يمضِ في الحكم سوى عام واحد، إلا أن كثيراً من المحتجين لا يرونه
وجهاً جديداً، بل امتداداً لطبقة سياسية عسكرية–مدنية
قديمة، متهمة بالفساد والتواطؤ. لذلك لم ينتظر الناس سنوات للحكم عليه، بل رأوا في
سياساته المبكرة دليلاً على إعادة إنتاج الماضي.
إندونيسيا بلد متنوع بتياراته الإسلامية والمدنية والقومية، وغالباً ما تنشط هذه
القوى في لحظات الأزمات. المظاهرات الحالية لم تكن محصورة في الشارع الطلابي، بل
انخرطت فيها جماعات إسلامية ونقابات ومنظمات مدنية، رافعة شعارات العدالة
الاجتماعية ومنددة بسلطة النخب.
جيل زد الذي اقتلع منظومة الحكومة الفاسدة في سريلانكا، كان دافعا أيضا في تحريك
الشارع، وانتشار عدوى التغيير، وإندونيسيا نفسها كانت ملهمة في ذلك وقد سبق
للتيارات الطلابية أن اقتلعت نظام سوهارتو العتيد.
ويمكنن أن نضيف إلى ذلك حالة التقاطع بين الأزمات الداخلية والعوامل خارجية:
فارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، وتوترات الإمدادات بسبب الحرب الأوكرانية، والمنافسة
الأمريكية–الصينية
على النفوذ في جنوب شرق آسيا. فالإندونيسيون يخشون أن تتحول بلادهم إلى ساحة
مساومات بين القوى الكبرى، فيما يبقى المواطن العادي الخاسر الأكبر.
الخلاصة
ما يحدث في إندونيسيا اليوم هو انفجار لغضب شعبي تراكم لعقود: فساد النخب، استمرار
قبضة العسكر، اقتصاد غير عادل، فجوة متزايدة بين تطلعات الشباب وأداء الدولة. قد
يكون قرار البرلمان بزيادة الامتيازات هو الشرارة، لكن الوقود الحقيقي هو شعور
جماعي بأن الديمقراطية تتآكل، وأن الماضي يعيد فرض نفسه بوجوه جديدة.