• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مسارات التغيير في المنطقة وتأثيرها على الملف الفلسطيني

ما جرى لا يُخفي حقيقة أنّ ما تمر به الدولة العبرية له عنوان كبير يُخفيه جبل من الرماد شكَّلته الحرب المتواصلة على قطاع غزة والجبهات التي تخوض معها الدولة العبرية حرب استنزاف، هذا العنوان مفاده هو أن «الولايات المتحدة رغم التصريحات الدبلوماسية الداعمة بشر


تتَّجه منطقة الشرق الأوسط للتعاطي مع سيناريوهات سياسية وأمنية خارجة عن المألوف في ظل عنوان رئيسي حَمَلته إستراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة بزعامة الرئيس دونالد ترامب للتعاطي مع قضايا المنطقة، وتستند هذه الإستراتيجية إلى مزيجٍ من الدبلوماسية الجريئة التي تتوافق مع المصالح الأمريكية والارتجال المُطلَق البعيد عن المسار التقليدي الذي لطالما سلكته الإدارات الأمريكية السابقة التي آمنت بأن الاعتماد على الحلفاء في المنطقة يكفي لتأمين المصالح الأمريكية والصهيونية على حدّ سواء. 

فحقيقة الحملة العسكرية التي أطلقتها الحكومة الصهيونية بعد المواجهة الدبلوماسية التي جرت بين واشنطن وتل أبيب على خلفية المفاوضات المباشرة التي أجراها مبعوث الرئيس الأمريكي «آدم بولر» مع حماس لإطلاق سراح أسير أمريكي، كانت أحد أهم المؤشرات التي تُعبِّر عن وجود فجوة كبيرة في التعاطي مع الملف الفلسطيني بين الإدارة الأمريكية وحكومة اليمين الصهيوني.

وبغَضّ النظر عن وجود تفسيرات عدة لتبرير استئناف الحرب على قطاع غزة؛ من بينها: إقالة رئيس الشاباك «رونين بار»، والاتهامات التي انهالت على نتنياهو مِن قِبَل الشاباك بشأن تلقّي مُقرّبين منه أموالًا من قطر خلال الحرب فيما عُرِفَ بقضية «قطر جيت»، وكذلك ضمان وجود إجماع حكومي بشأن المصادقة على الميزانية وإرجاع بن غفير إلى تحالفه؛ إلا أن التصريحات الصهيونية يمكن تفسيرها على أنها جزء من الدراما الإعلامية التي تحاول الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية الصهيونية التي تمر بأصعب لحظات انهيارها، وهذا ما عبَّر عنه رئيس المحكمة العليا السابق، أهارون باراك الذي وصف ائتلاف نتنياهو بأنه يسعى لقيادة البلاد إلى حرب أهلية، والقضاء على شرعية المؤسسة القضائية في البلاد. ومصطلح «الحرب الأهلية» كرَّره العديد من النُّخَب الصهيونية، مثل إيهود باراك رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، وكذلك الجنرال المتقاعد إسحاق بن بريك، ورئيس المعارضة يائير لبيد، وهو منزلق خضير لأول مرة ينعكس على البيئة السياسية الداخلية في الدولة العبرية، ويقسمها إلى تحالفات لا تتعلق فقط بالمعارضة والسلطة، بل أيضًا بالمؤسسة الأمنية والائتلاف الحاكم.

وهذا الأمر انعكس على الأداء الدبلوماسي الأمريكي الذي تسبَّب بتحرُّك للتفاوض المباشر مع حماس الذي أغضب بصورة كبيرة حلفاء واشنطن من العرب ونتنياهو على حدّ سواء؛ فقد رأوا في هذه الخطوة اعترافًا بقوة حماس وشرعيتها، وإلغاءً لدورهم في الاستحواذ على الملف الفلسطيني، وحصرية تمثيله وفقًا لمصالحهم ورؤيتهم السياسية.

لكن ما جرى لا يُخفي حقيقة أنّ ما تمر به الدولة العبرية له عنوان كبير يُخفيه جبل من الرماد شكَّلته الحرب المتواصلة على قطاع غزة والجبهات التي تخوض معها الدولة العبرية حرب استنزاف، هذا العنوان مفاده هو  أن «الولايات المتحدة رغم التصريحات الدبلوماسية الداعمة بشراهة للمشروع اليهودي في فلسطين؛ إلا أن ترامب غير معنيٍّ بخوض حروب جديدة نيابةً عن الدولة العبرية»، وهذا الأمر أكَّد عليه العديد من المحللين الصهاينة؛ فالرجل الذي حمَّس نتنياهو بشأن مشروع تهجير الفلسطينيين إلى مصر؛ عادَ مرة أخرى ونفى أقواله خلال مقابلته رئيس الوزراء الإيرلندي، مايكل مارت، كما أنه نحَّى نفسه جانبًا تجاه المتغيرات التي تجري في سوريا، والتي تُعدّ من أبرز الملفات التي تُقلق الدولة العبرية، وإن كانت الجبهة السورية خاملة في الفترة الحالية؛ إلا أن احتمالات تحوُّلها إلى جبهة معارك بالنسبة للاستخبارات الصهيونية كبيرة جدًّا؛ لذلك تسعى لتشييد جدار بشري كبير عازل من خلال تجنيد الدروز في جنوب سوريا، بعد أن بدأت تل أبيب تستعدّ لخسارة حلفائها في المليشيات الكردية الذين خسروا رهانهم على استمرار الدعم الأمريكي في ظل تصريحات مختلفة من ترامب بشأن سحب الجيش الأمريكي من سوريا.

كما تضغط الإدارة الأمريكية بشدة على الدولة العبرية لسحب قواتها من جنوب لبنان، واستكمال اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، بعد جولات تفاوضية متعددة قامت بها نائبة المبعوث الأمريكي مورغان أورتاغوس، واعتبر ذلك في سياق الجهود الحثيثة التي تسعى من خلالها إدارة ترامب لعدم اشتعال القتال مرة أخرى بين الجانبين، وليس ضمن مسار إستراتيجي لتطبيع العلاقات بين البلدين. 

على الجانب الآخر من الجبهة المشتعلة في الشرق الأوسط؛ فإن الرئيس ترامب هرب من الرغبات الصهيونية بضرب إيران إلى الأمام؛ من خلال إرسال رسالة للمرشد الإيراني علي خامنئي يقترح عليه إجراء مفاوضات سلام لإنهاء المواجهة السياسية المتواصلة بشأن الملف النووي الإيراني، وهذا الأمر فُسِّر في سياقين؛ الأول وهو السيناريو المعتاد المتعلق بإلهاء إيران تمهيدًا لضربها، والسيناريو الآخر هو إلهاء بنيامين نتنياهو وتجميد النقاش، في هذا الملف في ظل انشغال الإدارة الأمريكية بعدة ملفات؛ مثل: ملف الهجرة، وملف التعرفة الجمركية الذي كبَّد البورصة الأمريكية خسائر فادحة؛ قدَّرها تقرير نشرته وكالة رويترز بأنها زادت عن 10 في المائة من قيمة الأسهم المتداوَلة، فالولايات المتحدة التي تنشغل في تجميد الصراع مع أوكرانيا لتجنُّب صدام مع روسيا ووقف الاستنزاف الاقتصادي على هذه الجبهة تخوض الآن أصعب معاركها مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي وكندا والصين قد تُكلِّفها خسائر أكبر بكثير من تمويل حروب الدولة العبرية.

وهذا المؤشر يُؤكِّد ما تحدّثنا عنه سابقًا بشأن أولويات واشنطن في المرحلة الراهنة، والتي لا تمثل بالضرورة التصريحات الهوجاء التي يُطلقها طائفة من المهرجين الذي يُمثّلون الدبلوماسية الأمريكية على شاشات التلفزة وسائل التواصل الإعلامي بقدر ما تُمثّلها أولوية ترامب في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي، ولو كان ذلك على حساب الحلفاء التقليديين لواشنطن، وهذا الأمر جسَّده بوضوح التقارب الأمريكي الروسي، والصدام الأمريكي الأوروبي والكندي، وهذا الأمر جعل المخاوف الأوروبية تتزايد بشأن المستقبل الدفاعي لبروكسل في مواجهة طموحات روسيا، وأجبر أصواتًا أوروبية تنادي بتوثيق العلاقات مع تركيا بصفتها تمتلك ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، بينما ذهبت أصوات أخرى للمطالبة بتكثيف الإنفاق الدفاعي، وهذا الأمر فعلته دولة مثل بريطانيا التي تخوض صراعًا تقليديًّا مع روسيا منذ عقود. 

أما بالنسبة للحلفاء التقليديين للسياسات الأمريكية في المنطقة؛ فقد تجد نفسها في مواجهة بيئة غير مستقرة، ترجمها ترامب بابتزازها بشأن ملف قطاع غزة من خلال التلويح بملف المساعدات، وهذا الأمر فعله مع الأردن حينما قطع جزءًا من المساعدات المقدَّمة لها، فالتعرُّض للأمن الاقتصادي لدولةٍ مثل مصر أو الأردن لا يُهدِّد استقرارها فحسب، بل إنه يمسّ بأمن واستقرار المنطقة بصورة كاملة.

ومن أبرز المؤشرات على انعزالية السياسة الأمريكية الخارجية المستقبلية هو الخطوات السريعة التي تُظهرها واشنطن في تفكيك وإعادة هيكلة المؤسسات الأمريكية التي لطالما لعبت دورًا حيويًّا في بسط نفوذ واشنطن في المنطقة، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي تم إلغاء 82 في المائة من عقودها، وتسريح الآلاف من موظفيها، وكذلك مؤسسة صوت أمريكا التي تُعدّ أهم منافذ الإعلام الأمريكي الموجَّه إلى الخارج.

فواشنطن التي لطالما اعتمدت تلك المنظمات بصفتها من أدوات دبلوماسيتها الناعمة للدفاع عن الليبرالية والديمقراطية؛ أصبحت اليوم تعتمد كليًّا على عناوين واضحة في بناء علاقاتها الدبلوماسية، تعتمد على القيمة الاقتصادية لحلفائها، لذلك حينما زار نائب ترامب، «جيه دي فانس» مؤتمر ميونيخ وسلّط الضوء على أن التحالف مع بروكسل المبني على القيم الديمقراطية المشتركة أصبح يحل محله المصالح التجارية، بل رفض دي فانس لقاء المستشار الألماني أولاف شولتز، واختار بدلًا من ذلك لقاء قادة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. وهي خطوةٌ اعتُبرت تدخلًا أمريكيًّا صارخًا في السياسة الألمانية خلال انطلاق الحملات الانتخابية للمتنافسين.

وفي هذا يقول معهد دراسات الأمن القومي الصهيوني: «إن استمرار سياسة خفض المساعدات الخارجية الأمريكية قد يكون خيارًا تواجهه الدولة العبرية في حال زادت الضغوط الاقتصادية على الإدارة الأمريكية، وهذا الأمر عبَّر عنه السيناتور الجمهوري روجر ويكر الذي يرأس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، والذي صرَّح بأن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وتقليص أنشطتها يفتح الباب أمام الصين لتعزيز نفوذها في عدة دول، ومنها «إسرائيل»، وهذا من شأنه أن يمس بتوازن النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة».

أما بالنسبة لتأثير تركيا في السياسيات الأمريكية، فمن المرتقب أن يجري لقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شهر أبريل المقبل، وغالبًا ما يلتقي الجانبان في عدة ملفات؛ أهمها الموقف المشترك إزاء الملف الأوكراني، فما لا تقبله أنقرة هو سيطرة الروس على الساحل الأوكراني، وبالتالي البحر الأسود، لذلك طوال الحرب استغلت أنقرة اتفاقية مونترو لتقييد التحرك العسكري الروسي في البحر الأسود، وهذا الأمر سمح لها بلعب دور الوساطة بين الطرفين، وجعلها تلعب دورًا حيويًّا في محادثات السلام بوصفها ثاني أكبر قوة في حلف الناتو، وكذلك من أهم القوى الاقتصادية في مجموعة العشرين. 

كما تبدو الأهمية الحيوية لتركيا في جانبين؛ الأول رَدْع إيران ونفوذها في المنطقة، وكذلك دورها الحيوي في سوريا الذي اعتبرته الدولة العبرية من أهمّ مُهدّدات الأمن القومي الصهيوني في الفترة الحالية، لذلك تحاول أنقرة الحفاظ على مسافة دبلوماسية حيَّة مع واشنطن من خلال القنوات الاقتصادية، وما يتعلق بتعاقداتها بشأن أزمة توريد الطائرات، وتُقدّم نفسها لاعبًا رئيسيًّا في الملفات الأساسية في الشرق الأوسط، في سياق السياسة الواقعية التي يتبنّاها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتهدف بالدرجة الأولى لتحجيم حلفاء واشنطن في المنطقة.

أعلى