• - الموافق2025/04/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بدء الحرب الروسية الأوكرانية بداية نهاية النظام الدولي

قامت الحرب الباردة على عدم استخدام السلاح وغزو حدود الدول الكبرى لبعضها البعض، وعلى التنافس السلمي بين الدول الكبرى -وحلفائها-، مع استمرار الصراعات والحروب عبر الوكلاء في مختلف أنحاء العالم.


شكَّل انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا -دوافعها وأسبابها ومجرياتها-؛ إعلانًا ببداية انهيار النظام الدولي، الذي تشكَّل بعد الحرب العالمية الثانية، وبشكلٍ خاصّ تداعي المرحلة الأخيرة من هذا النظام، التي شهدت هيمنة الولايات المتحدة، وانطلاق العولمة الشرسة بأبعادها الاقتصادية والثقافية والتجارية، وبطبيعة الحال، السياسية.

وتُمثّل التطورات الجارية في العالم حاليًّا، وما ترافق معها من تغييرات في السلوك الأمريكي في العلاقات الدولية -بعد تولّي الرئيس الأمريكي ترامب إدارة البيت الأبيض- إعلانًا بإطلاق حالة من الفوضى في العلاقات الدولية، وتغييرًا في التحالفات، وتخليًا عن المعاهدات... إلخ. تلك الفوضى بمثابة الضربة القاضية والحاسمة لجوهر النظام الدولي القديم، وهي مُقدّمة طالما تكررت عبر التاريخ، للانطلاق بعدها نحو بناء نظام دولي جديد.

المفارقة هنا، أن محاولة الإدارة الأمريكية الحالية، استعادة الدور الدولي لروسيا -ضمن إطار الفوضى التي أثارتها-، قد أحدثت دفعًا لتصعيد وضعية النظام الدولي الجديد.

وفيما يجري حاليًّا على الساحة الدولية، نشهد تراجعًا لقدرات الولايات المتحدة، كما نشهد شكلًا من أشكال الانسحاب من تقديم متطلبات قيادتها للنظام الدولي -الغربي في جوهره-، وتمترسًا للدفاع عن مصالحها الذاتية في مواجهة الحلفاء لا الخصوم فقط.

وفيما يجرى أيضًا، بات واضحًا حدوث تمايز بين أوروبا والولايات المتحدة، وتراجع عن فكرة الغرب، وهو ما أنتج تحركات ذات طابع إستراتيجي لبناء قطب أوروبي مستقل.

فإن أضفنا لذلك استعادة روسيا لدورها ومكانتها الدولية -إثر تحركات ترامب معها-؛ فالعالم أمام وضع يُعيد إنتاج المشهد الدولي الذي كانت قد تغيَّرت توازناته على الأرض من قبل، بصعود كلٍّ من الصين والهند، وغيرهما إلى مصافّ الدول الكبرى.

وفي ذلك يُطرَح سؤالان؛ الأول هو: هل تتطوَّر تلك الفوضى التي تُجْهِز على كل مبادئ النظام الدولي -القديم-، وتؤدي إلى توازنات وتحالفات واتفاق دولي على تشكيل نظام دولي جديد؟ يرى الكثيرون أنه سيكون نظامًا قائمًا على تعدُّد الأقطاب، بديلًا للنظام القائم على انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم، وعلى سيطرة الغرب على النظام الدولي.

والآخر، يتساءل عن احتمال انتهاء الحالة الراهنة من الفوضى إلى ما يُوصَف بالحرب العالمية الثالثة، التي ستنتهي هي الأخرى إلى بناء نظام دولي جديد، ستُحدِّده توازنات ما بعد الحرب.

حرب أوكرانيا: الخروج على النظام الدولي

تتلخَّص مسيرة الحرب الروسية على أوكرانيا في إطلاق عمل حربي مخالف لقواعد النظام الدولي الذي تشكَّل بعد الحرب العالمية الثانية. دوافع تلك الحرب ومجرياتها تُظْهِر أنها مثَّلت خروجًا على النظام الدولي الذي قام في جوهره على «اتفاقية عدم الاعتداء بين الدول المنتصرة في الحرب» -أمريكا وبريطانيا وروسيا (الاتحاد السوفييتي) وفرنسا، وعلى تقاسم النفوذ بين تلك الدول (الكبرى) في دول العالم الثالث، أو فتح المجال أمام الصراعات الدولية للاستحواذ على تلك الدول.

ولذلك، قامت الحرب الباردة على عدم استخدام السلاح وغزو حدود الدول الكبرى لبعضها البعض، وعلى التنافس السلمي بين الدول الكبرى -وحلفائها-، مع استمرار الصراعات والحروب عبر الوكلاء في مختلف أنحاء العالم.

وهي قواعد جرى إقرارها كخلاصة للأخطاء التي جرَّت دول العالم الكبرى إلى الحرب العالمية الثانية، التي شهدت اندفاع القوات الألمانية لاختراق حدود فرنسا وروسيا -وبقية دول أوروبا-، واندفاع القوات اليابانية للسيطرة على كثير من دول آسيا، وهو ما تطوَّر إلى حرب أمريكية يابانية.

في الحرب الأوكرانية، تدخَّل حلف الناتو في الأعمال الحربية على حدود روسيا -بطريقة غير مباشرة-، وتوسَّع الحلف إلى حدود روسيا الغربية، بما هدَّد الأمن القومي الروسي. فهدَّدت روسيا بالمقابل باستخدام السلاح النووي ضد دول الناتو.

وقد شهدت الحرب الأوكرانية خروجًا آخر على النظام الدولي لا يقل خطورة عن الفعل العسكري؛ إذ شهدت تفعيلًا حادًّا وغير مسبوق لأدوات الحصار الاقتصادي الشامل لروسيا، ومِثْل هذا الحصار ليس إلا أحد أدوات ووسائل القوة الصلبة. وكلاهما مثَّل خروجًا، بشكلٍ خاصّ، على ملامح المرحلة الثانية من النظام الدولي التي تشكَّلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وهي المرحلة الموصوفة بحقبة العولمة، التي شهدت تشكيل منظومة اقتصادية دولية تقوم على العولمة الاقتصادية التي شملت حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال، وبرز خلالها دور البنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية.

لقد جرى فرض آلاف العقوبات على روسيا، كما جرى تجميد أصولها المالية في البنوك الغربية. وكان الأشد خطرًا أن بدأت الدول الغربية التصرُّف في عوائد تلك الأصول لتمويل الحرب ضد روسيا.

لقد بدا بوضوح أن النظام الدولي قد توارى، وأن الدول الكبرى في طريقها لإشعال حرب لن تكون إلا نووية؛ إذ لا يمكن لروسيا الدفاع عن أراضيها في مواجهة أيّ هجوم للناتو -الذي يضم 31 دولة- إلا باستخدام السلاح النووي، التكتيكي على الأقل.

فوضى شاملة: كيف ستنتهي؟

عقب وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى سُدَّة الحكم في الولايات المتحدة، لم يَعُد للنظام الدولي والعولمة -بل وحتى للاتفاقيات والمعاهدات الدولية- أيّ أثر في قرارات الولايات المتحدة، لا في علاقتها بأعدائها ولا بحلفائها. لقد تتابعت الإجراءات الحمائية المُعادية لفكرة العولمة وحرية التجارة، وهذه المرة ضد حلفاء الولايات المتحدة من اليابان إلى كندا إلى المكسيك إلى كوريا الجنوبية إلى اليابان إلى أوروبا.

وصعَّد ترامب من إجراءات فرض الجمارك على السلع الصينية بمعدلات دفعت إلى استخدام تعبير «الحرب التجارية»؛ وهو ما أنهَى الزمن الذي كانت الولايات المتحدة هي من تُجبر الآخرين على منع اتخاذ إجراءات حمائية، إلى درجة مكَّنت الغرب من استباحة الاقتصادات الأخرى.

وأطلق ترامب شعارات، وأعلن خططًا تقوم على السيطرة على كندا المجاورة، وقناة بنما، وجزيرة جرين لاند التابعة للدانمارك في أوروبا، مع التلويح باستخدام القوة العسكرية في عمليات هذا الضَّمّ القسري. وتحدَّث ترامب كذلك عن مشروع للسيطرة وامتلاك غزة، وطرد سكانها، وبناء ما وصفه بمشروع «ريفيرا الشرق الأوسط». وكان اللافت أيضًا أن أطلق تلميحات باستعداد بلاده للانسحاب من حلف الأطلسي، وهو ما مثَّل دافعًا لدى دول أوروبا للتحرُّك نحو بناء قوتها الذاتية، ووصل الأمر حد عرض فرنسا على دول أوروبا أن تتمدد المظلة النووية الفرنسية لتلك الدول بديلاً لحماية المظلة النووية الأمريكية.

أشاعت السياسة الأمريكية حالة من الفوضى في العلاقات الدولية، وشكَّلت انتهاء مرجعيات النظام الدولي القائم. وجاءت تحركات ترامب لإنهاء الحرب الأوكرانية، بمثابة استعادة لدور روسيا وقوتها على الصعيد الدولي، وهو ما جاء متعارضًا مع آراء أوروبا ودوافعها، فأصبح متحققًا ظهور أوروبا وروسيا، كطرفين وقطبين في النظام الدولي. واقع الحال أن النظام الدولي كان جاهزًا لاستقبال هذه الحالة من الفوضى، وطالبًا حالة من التغيير؛ إذ كان النظام الدولي قد وصل إلى حالة تناقض في داخل بنيته وفي توازناته بفعل تغيير ملامح القوة والقدرة بين الدول الكبرى، فإذا تأسس هذا النظام على هيمنة الغرب وقوته العسكرية والاقتصادية وعلى السيطرة الغربية على البحار والمضايق الدولية -وبشكل خاص ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي-؛ فقد تغيَّرت التوازنات الدولية فعليًّا، بظهور دول ذات قدرات تفوق الدول الأوروبية وتناطح القوة الأمريكية، وتسعى لتأمين طرق التجارة وتحريرها من تحت سيطرة الغرب، بحكم نُمُوّ مصالحها ذات الطابع العالمي.

وهنا طرحت التساؤلات حول الطريق لإعادة بناء نظام دولي جديد؛ وذلك أنّ كلّ أشكال النظام الدولي السابقة سبق تشكيلها حالات واضحة من تغيّر التوازنات ووقوع حالة فوضى الصراعات الدولية، دفعت العالم للدخول في الحروب، التي كانت آلية لتغيير التوازنات الدولية، والوصول إلى توازنات جديدة يجري من خلالها تحديد الخطوط العامة لبناء نظام دولي جديد. وهو ما كان الحال عليه قبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.

هل من حرب ثالثة؟

تميل كثير من التقديرات إلى أن العالم مندفع نحو حرب عالمية ثالثة. وإذ بدا في الظاهر أن التغييرات التي أحدثها ترامب في السياسة الأمريكية تجاه روسيا بمثابة نزع فتيل الحرب الثالثة أو الحرب النووية، وأن الدفع لمثل تلك الحرب قد تراجع؛ إلا أن كثيرًا من التقديرات قد اعتبرت أن تلك التقديرات بزوال الخطر متعجّلة؛ سواء لأن التعقيدات التي نتجت عن الحرب الروسية الأوكرانية تحتاج إلى قرارات كبرى لإحداث تغيير في السلوك الإستراتيجي، أو لأن أوروبا لا تزال تدفع باتجاه الاستعداد لمثل تلك الحرب. كما أشارت كثير من التقديرات إلى أن القياس الحقيقي المتعلق بشأن احتمالات تلك الحرب يجب أن يتحدّد وفق معطيات ما يجري في آسيا؛ حيث الصراع الإستراتيجي الحقيقي حول -هدم وإعادة- بناء النظام الدولي، والذي يجري هناك بين الولايات المتحدة والصين.

أما بشأن فكرة واحتمال الحرب؛ فهناك تساؤلان مطروحان:

الأول يدور حول أن فكرة الحرب بين الدول الكبرى لن تكون إلا حربًا نووية، وهو ما يُصعِّب بل يمنع اشتعالها؛ إذ لا رابح فيها.

والسؤال الآخر يتعلق باحتمالات أن تنتج حالة الفوضى الحالية وضعًا يؤدي إلى إعادة ترتيب التوازنات والتحالفات، ويدفع إلى بناء نظام دولي جديد، دون حرب بين الكبار.

وفي تلك الحالة، الأهم هو ماذا عن مستقبل الدول الضعيفة في العالم؛ إذ كل دولة من الدول الكبرى ستسعى، ضمن حالة الفوضى الدولية، لتعظيم قدراتها عبر السيطرة على دول العالم الثالث، لتكون اللاعب الأكبر في النظام الدولي القادم.

نظام دولي جديد بدون حرب

واقع الحال وكلمة السر التي تتردَّد في كلّ الكتابات الإستراتيجية حول النظام الدولي الجديد، هي أن النظام الدولي القادم سيكون متعدّد الأقطاب. وتعدُّد الأقطاب ليس فكرة حديثة، بل هو تعبير وتقدير طُرِحَ منذ بداية تراجع الهيمنة الأمريكية. فمنذ نهاية التسعينيات وكُتّاب ومُفكِّرو الإستراتيجية يتحدّثون عن اتساع التغيير في العالم، وعن تراجع قدرة الولايات المتحدة على إدارة العالم وحدها، وعن ضرورة بناء نظام دولي جديد، يقوم على فكرة تعدُّد الأقطاب.

لقد كتب بول كينيدي كتابه الأشهر «صعود وسقوط القوى العظمى»، مُعدِّدًا كلّ العوامل التي تدفع لتراجع الحضارات -والدول العظمى-، ومؤكدًا على انطباقها على الولايات المتحدة.

وكتب صامويل هنتنجتون كتابه الأشهر «صدام الحضارات وإعادة صُنع النظام العالمي»؛ فتحدَّث فيه عن نظام دولي جديد يقوم على أساس تعدُّد الحضارات في صورة الدول الكبرى الصاعدة في العالم.

وقدَّم كلٌّ من «ريتشارد هاس» و«تشارلز كوبشان» في مقالهما الإستراتيجي المنشور في موقع مجلة «فورين أفيرز»، تحت عنوان «تحالف القوى الجديد: كيفية منع وقوع كارثة وتعزيز الاستقرار في عالم متعدد الأقطاب»؛ رؤية لضرورة تعدُّد الأقطاب؛ حيث قدَّمَا رؤيةً جديدةً لهيكل النظام الدولي الذي يُحقّق الاستقرار العالمي، واعتبرَا أن التعددية القطبية هي النمط الأمثل، بما يُحقّق حالة من الوفاق ومصالح الدول الكبرى، مع تفادي الحرب.

وبمتابعة المواقف الدولية، نجد أن تعدُّد الأقطاب صار السر المُعلَن؛ فالمواقف الأوروبية الرسمية شهدت إطلاق تصريحات متتابعة حول دخول العالم مرحلة تعدُّد الأقطاب. وهو موقف تنامَى مؤخرًا بعد تغيير الولايات المتحدة موقفها من الحرب الأوكرانية.

وعلى الطرف الآخر من العالم، فكلٌّ من الصين وروسيا وكثير من دول العالم باتت تتحدَّث عن تعدُّد الأقطاب في العالم. وفي واقع تغيير التوازنات الدولية؛ فإن تعدُّد الأقطاب صار ماثلًا على الأرض، مناقضًا لحالة الهيمنة الأمريكية-الغربية. لقد أصبحت الصين الدولة الثانية في العالَم في مختلف المجالات -إن لم تكن قد أصبحت الأولى في بعض المجالات-، كما أن الهند تتحرَّك لتصبح خلال عام أو عامين الدولة الثالثة في ترتيب توازن القوى في العالم، وقد سبقت كلّ من الصين والهند كل الدول الأوروبية، ومنها بريطانيا وفرنسا وألمانيا في سُلّم القوة والقدرة، بما طرَح تساؤلات وولَّد نقاشات حول ضرورة توسيع عدد الأطراف الدولية التي تمتلك حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي.

ومن هنا فالسؤال الآن هو: هل من الضروري أو الحتمي أن يشهد العالم حربًا عالمية ثالثة لكي يذهب بعدها إلى الإقرار بالنظام الدولي الجديد؟ أم أن الطريق الوحيد هو التنافس والصراع والحروب الصغرى -على دول العالم الثالث- للوصول إلى تعدُّد الأقطاب.


أعلى